إسرائيل حوّلت قتل المقاتلين إلى “ضرر جانبيّ”
من المعلوم أنّ حجم القتل والتدمير والتهجير الّذي أحدثه جيش الاحتلال الإسرائيليّ في حربه الدمويّة على غزّة، هو غير مسبوق في الحروب الّتي شهدها العصر الحديث، وكانت صحيفة “نيويورك تايمز” قد نقلت على لسان خبراء عسكريّين أنّ عدد الضحايا المدنيّين الّذين سقطوا في غزّة خلال شهرين هو ضعف عدد الضحايا الّذين سقطوا في أوكرانيا خلال سنتين، كما أنّه يفوق عدد الضحايا الّذي سقط في العراق خلال عام، ويفوق عددهم في أفغانستان خلال 20 عامًا.
وظهر منذ بداية الحرب طبيعتها الانتقاميّة الّتي تسعى فيها إسرائيل للثأر من البشر والحجر والشجر في قطاع غزّة، وتحوّلها إلى حرب إبادة وضعت التدمير التهجير والتطهير العرقيّ هدفًا إستراتيجيًّا لها سعت إلى تحقيقه تحت غطاء الأهداف المعلنة المباشرة الّتي حدّدتها وهي القضاء على حماس واستعادة الأسرى الإسرائيليّين.
ورغم أنّ حروب إسرائيل وعدواناتها السابقة على الشعب الفلسطينيّ، وعلى غزّة تحديدًا، كانت جميعها دمويّة، وأسقطت على نحو مباشر أو غير مباشر آلاف المدنيّين من النساء والأطفال، فإنّ الحرب الأخيرة تجاوزت كلّ حدّ وسقف، وسجّلت رقمًا قياسيًّا لم يسبق أن سجّلته إسرائيل من قبل.
الباحث في الشأن العسكريّ يجيل ليفي نشر في إطار مقال له في صحيفة “هآرتس” جدولًا شمل نسبة الضحايا المدنيّين، وفق المعطيات الإسرائيليّة، في أربع عدوانات على غزّة منذ عام 2012، راوحت نسبة الضحايا المدنيّين فيها 40% في حين قفزت هذه النسبة استنادًا إلى معطيات الثلث الأوّل من الحرب الأخيرة إلى 61%.
ويعتمد الباحث على المعطيات الموثّقة بأسماء الضحايا الّتي نشرتها وزارة الصحّة في غزّة لتفنيد مزاعم بايدن بهذا الخصوص، وبلغت 6747 شهيدًا بينهم 4594 طفلًا وامرأة يشكّلون 68% من الضحايا، مفترضًا أنّ جميع من هم ليسوا أطفالًا ونساء هم مقاتلون ومسقطًا 7% استشهدوا باعتبار أنّهم ربّما سقطوا بنيران صديقة، ليصل إلى النتيجة الّتي ذكرت آنفًا وهي 61%، أي بزيادة مرّة ونصف عن معدّل الحروب السابقة على غزّة.
وتدفع هذه النسبة المرتفعة، بنظر الباحث، إلى الشكّ بأنّ إسرائيل ليس أنّها لم تحافظ على مبدأ التمييز بين المدنيّين وغير المدنيّين، بل إنّها فسّرت المبدأ المعياريّ الّذي يقيس الفائدة مقابل الضرر بليونة بالغة أيضًا، وهو ما قلب القاعدة المتّبعة من “ضرر جانبيّ” إلى “فائدة جانبيّة”، أي قتل الكثير من المدنيّين للتسبّب بمقتل قليل من المقاتلين.
ويعطي الباحث العديد من التفسيرات لهذه النتيجة في مقدّمتها أنّ كثافة الغارات جاء على حساب الدقّة والتخطيط، هذا إلى جانب خفض مستوى الحذر وتخفيف المعايير الّتي تسمح بالمسّ بالمدنيّين، والتركيز كما جاء على لسان الناطق باسم الجيش، على إيقاع ضرر، وليس على دقّة الإصابة، كما أنّ استعمال الذكاء الاصطناعيّ لإنتاج أهداف على نحو سريع ساهم أيضًا في خفض مستوى الحذر الّذي يميّز السلوك الإنسانيّ، علمًا أنّ جميع هذه العوامل، كما يقول الكاتب، تشير إلى نمط عمل مقصود، ربّما هو، ما عبّر عنه وزير الأمن يوآف غالانت عندما قال في الأيّام الأولى للحرب، لقد أطلقت القيود كلّها، سنقتل كلّ من يحاربنا ونستعمل كلّ الوسائل.
ويبدو كما تظهر حتّى المعطيات والإحصائيّات الإسرائيليّة ذاتها، لم تتفوّق على الدول الأكثر عدوانيّة في العالم فقط، بل تفوّقت على ذاتها أيضًا، لتسجّل أرقامًا قياسيّة في القتل وإراقة دماء الأبرياء وتدمير منازلهم وتهجيرهم، وما زالت تعمل على الدفع بمخطّط التهجير النهائيّ إلى خارج القطاع، مقابل استعادة وتوسيع استيطانها في شمال غزّة، في إطار مخطّطها الشامل لتعميق سيطرتها على فلسطين من البحر إلى النهر وبسط هيمنتها على المنطقة العربيّة كلّها.
المصدر: عرب 48