إسرائيل ما بعد السابع من أكتوبر
اجتاحت “قوّات النخبة الفلسطينيّة” في السابع من أكتوبر مستوطنات ومعسكرات “غلاف غزّة” ومعها مدن في العمق مثل سديروت وأوفاكيم. كان العالم والعرب معه في حالة ذهول وغير مصدّقين لمشهد السيّارة البيضاء المحمّلة بالمقاتلين والسلاح وسط مدينة سديروت، ولا عجب والحديث عن الجيش الّذي لا يقهر وأقوى جيش في المنطقة العربيّة والإسلاميّة، وحدث ذلك تحت رقابة العيون الإلكترونيّة الّتي لا تنام حتّى عن عصفور يقترب من الحدود مع “غلاف غزّة”. حقيقة توسّدتها إسرائيل، ونامت تلك الليلة ملء الجفون لتصحّوا على كارثة “السبت الأسود” بالمفهوم التاريخيّ والإستراتيجيّ الثقيل، وفق تعبير الصحافة والقيادات الإسرائيليّة وبحقّ.
لم يكن أبلغ من الإسرائيليّين أنفسهم في وصف الحدث وإجماعهم على أنّه “لم يكن في تاريخ إسرائيل حدث بهذا الحجم والخسائر”، على حدّ تعبير وزير الزراعة، آفي ديختر، وهو رئيس جهاز الشابّاك الأسبق. وعبر ديختر عن ردّ الإجماع الإسرائيليّ، بيمينه ويساره، بوجوب الانتقام حينما قال إنّ “الردّ يجب أن يكون إستراتيجيًّا بالقضاء الكامل على قدرات حماس والجهاد العسكريّة والسلطويّة حتّى ولو بثمن تسطيح غزّة”.
وفقًا لذلك وتطبيقًا له، تشنّ إسرائيل منذ أربعة أسابيع حرب الأرض المحروقة بدعم غربيّ سافر ومشاركة أميركيّة فاعلة، بما يشمل المعلومات الاستخباراتيّة في غزّة، على حدّ تعبير الناطق باسم البنتاغون. يحدث هذا وسط صمت وتواطؤ عربيّ وفلسطينيّ فيما تتطلّع الولايات المتّحدة لتوسيع نفوذ السلطة الفلسطينيّة لتشمل غزّة في حالة حقّقت أهداف الحرب، بما يتّفق ورؤية الولايات المتّحدة للنظام العالميّ الجديد دون محور المقاومة ووحدة ساحاتها في المنطقة العربيّة الإسلاميّة.
الظاهر أنّ إسرائيل مصرّة على بلوغ أهدافها حتّى بثمن إبادة البشر وتسطيح الحجر لفهمها أنّها تخوض حرب “التحرير الثانية” لهول ضربة السبت الوجوديّة وشدّة وطأتها عسكريًّا ومخابراتيًّا وسياسيًّا ومعنويًّا واجتماعيًّا. هذا إجماع لم يعد فيه يمين أو يسار ولا اختلاف على أهداف حرب “السيوف الحديديّة”.
من هنا، فإنّ السابع من أكتوبر (“السبت الأسود”) سيكون محطّة فاصلة بين ما كان قبله وبعده في بلورة دولة إسرائيل الثالثة الّتي تمكّن فيها الليكود، ومن معه من اليمين من إدارة الدولة العميقة بقدرات كوادره ونخبه المتدنّية في التخطيط والإدارة، ولم يبق عليه لإحكام السيطرة إلّا إتمام تنفيذ خطّة الانقلاب على المحاكم والقوانين الّتي أتاحت بحسب تقديراتهم ليمين الوسط، ويساره من التحكّم في الدولة العميقة، حتّى لو فاز الليكود ويمينه في الانتخابات على حدّ تعبير الكاتب إيرز تدمور في كتابه “لماذا تصوّت لليمين، ويحكم اليسار” الّذي أصبح خارطة الطريق لعمل نتنياهو وحلفائه في آخر عشر سنوات. (للمزيد)…
نعم الصراع على معالم الدولة الديمقراطيّة اليهوديّة والسيطرة عليها فرّقت المجتمع الإسرائيليّ، وعشيّة يوم زلزال السابع من أكتوبر عاشت إسرائيل أخطر انقسام في تاريخها، فهل ستوحّدهم الحرب بعد انتهائها كما في بدايتها؟
الأكيد أنّه بعد ما تضع الحرب أوزارها سيكون أكبر خاسريها إسرائيليًّا بنيامين نتنياهو، والرابح الأكبر بيني غانتس، وسيحتدم الصراع بين الصهيودينيّة والليبراليّة. الأحزاب اليمنيّة المتطرّفة بقيادة وزير الماليّة سموترتش ووزير الأمن الداخليّ بن غفير ترى في الحرب فرصة للعودة لاستيطان غزّة وبناء “غوش قطيف” وحسم الصراع خطوة خطوة برؤية خطّة سموترتش الّتي قد تعجّل مراحل تطبيقها نتائج هذه الحرب إذا ما تحقّقت. أهداف لا يخفيها سموترتش في مقابلته مع قناة 12 بقوله: “بعد الحرب سنحكم غزّة، ولن أدفع فلسًا لتحصين جدار غلاف غزّة مجدّدًا”. وأبعد وأخطر يقول الوزير عميحاي إلياهو من حزب “عوتسما يهوديت”: “من بين الخيارات إلقاء قنبلة نوويّة على غزّة وتهجير أهلها وزرعها بالمستوطنات”.
نتائج هذا الصراع بين التيّارين ستتحدّد إذا ما استمرّت إسرائيل في مشروع الدولة الثالثة برؤية الصهيودينيّة أو عادت لمعالم إسرائيل الدولة الأولى بقيادة الصهيوليبراليّة. في الحالتين إذا ما هزمت المقاومة، سيواجه الفلسطينيّون إمّا نكبة ثانية شاملة أو تحديث اقتراح دولة منقوصة السيادة بما يشمل قطاع غزّة ويتّفق مع خطّة “صفقة القرن” الأميركيّة. (للمزيد)…
ملخّص القول إنّه لن تبقى إسرائيل بعد زلزال السابع من أكتوبر وحرب غزّة على ما كانت عليه قبله، وهذا ما يلخّصه عيران تسيّون مستشار الأمن القوميّ الإسرائيليّ السابق بقوله: “أيّ ردّ عسكريّ، مهما كان واسع النطاق لن يعيد العجلة إلى الوراء ولن يفسّر الحقيقة الحاسمة: حماس وجّهت لإسرائيل ضربة تاريخيّة وإستراتيجيّة ثقيلة. لقد استطاعت أن تقوم بهذه الخطوة الإستراتيجيّة، والّتي سيتمّ تدريسها في المدارس العسكريّة لسنوات عديدة قادمة، بسبب سياسات حكومة نتنياهو الحاليّة وحكوماته السابقة”.
وهذا صحيح؛ لأنّه فعلًا مهما كانت نتائج حرب غزّة ستبقى حقيقة تاريخيّة حاسمة أنّ الفصائل الفلسطينيّة في غزّة وجّهت لإسرائيل يوم السابع من أكتوبر ضربة استراتيجيّة من العيار الثقيل ستصبّ الزيت على نار هاجس عقدة الثمانين من عمر الدولة اليهوديّة في التاريخ. مع هذا الحرب في الأخير سياسة تفرضها موازين القوى على الأرض.
مع كلّ هذا يبقى السؤال: هل اعتمدت المقاومة الفلسطينيّة قاعدة “قيس قبل ما تغيص” في التخطيط والإعداد والتنفيذ لعمليّة “طوفان الأقصى”؟ هل توقّعت وتجهّزت لمواجهة حرب مدمّرة كهذه تحالف فيها مع إسرائيل وأميركا والناتو والأنظمة العربيّة بصمتها؟ وعليه بقيت المقاومة ومعها حاضنتها الشعبيّة في “دولة غزّة” وحدها، خصوصًا بعد خطاب حسن نصر اللّه الواقعيّ جدًّا وفق الحسابات اللبنانيّة والإيرانيّة الدقيقة في المنطقة والعالم. من هنا أخطأ من عوّل على مشاركة حزب اللّه بأكثر من حرب استنزاف محدودة على جبهة الشمال، وتوقّع من إيران أن تعمل بما لا يخدم إستراتيجيّتها ومصالحها في المنطقة…
في الجواب على هذا السؤال يقول مثلنا الشعبيّ: الطولة كشّافة.
المصدر: عرب 48