إضاءة على الحريديم والصهيونية الدينية
سلّطت المستجدّات في إسرائيل، أخيرا، الأضواء مرّة أخرى على مجموعتين سكانيتين كانتا في صلب الاهتمام منذ أعوام كثيرة، اليهود الحريديم المتشدّدون دينيًا، وأتباع المعسكر الصهيوني الديني. ونجمت عن هذا الاهتمام أدبيات بحثية كثيرة من شأن العودة إليها أن توضح نقاطا كثيرة دالّة على المشهد السياسي الإسرائيلي الراهن.
كانت مجموعة الحريديم، بحسب أحد الأبحاث، معسكرًا هامشيًا في السابق، لكنه يجتذب اليوم، بسبب وزنه العددي الكبير، اهتمامًا جماهيريًا واسعًا جدًّا. والحريديم، إجمالًا، لا يتبنّون الأيديولوجيا الصهيونية، ويعتبرون أنها “تسعى إلى إيجاد هوية وشعب يهوديين جديدين كنتاجٍ للفكر القومي الحديث الذي ظهر على خلفية التطوّرات في الغرب، ولذا فهي مرفوضة”.
ولم يتطلّعوا، في الممارسة، إلى الاندماج في المجتمع الإسرائيلي أو الانخراط في ما يسمّى “إعمار البلد”. أما علاقتهم بالدولة فتتراوح بين البرود والجفاء من جهة، والرفض المطلق من جهة أخرى. وهم يتخبّطون في أسئلة أيديولوجية وعملية صعبة يثيرها لديهم مجرّد وجود الدولة، فيما يطرح قادتهم إجاباتٍ مختلفة، بل ومتناقضة أحيانًا. وعادة ما يتم التمييز في جلّ تلك الأبحاث بين ثلاثة تيارات في هذه المجموعة: الأول، الحريدي المعتدل الذي يمارس تعاطفًا فعليًا مع الدولة ومصيرها، حتى وإن كان لا يوليها أهمية دينية بل يعتبرها مُجرّد أداة لا أكثر.
ويشمل هذا التيار، حسب تصنيف بعض الأبحاث، مثلًا حركة “حباد” وحزب شاس. والثاني، تيار راديكالي يتبنّى مواقف متطرّفة في معاداة الصهيونية، وينكر أي حق وجود لأي كيان سياسي يهودي قبل قدوم المسيح المنتظر ويعتبره تمرّدًا على ملكوت السماء. ويشمل هذا التيار الطائفة الحريدية، وحركة ناتوري كارتا، ومجموعات أخرى. والثالث هو “التيار المركزي”، كما تصفه معظم الأبحاث، ويتبنّى مواقف براغماتية في القضايا السياسية من منطلق الحفاظ على التعايش المشترك مع أغلبية الشعب الإسرائيلي. ويعتبر هذا التيار نفسَه غير صهيوني، مؤكّدًا “نحن في الدياسبورا في الأرض المقدّسة”.
ويركز جلّ اهتمامه في الجهد الثقافي التربوي من خلال تعزيز مؤسساته التعليمية والدينية وتحصينها. ويشمل هذا التيار بالأساس حركة وحزب “أغودات يسرائيل”، وهما حاليًا جزء من تحالف “يهدوت هتوراه”.
بالانتقال إلى المعسكر الصهيوني ـ الديني، لا بُدّ من أن نعيد إلى الأذهان أن هذا المعسكر كان لاعبًا ثانويًا فقط في الحياة الإسرائيلية العامة خلال الأعوام التي سبقت إقامة الدولة، وكذلك في العقود الأولى على قيامها، بينما أصبح لاحقًا أحد اللاعبين المركزيين، سيما بعد حرب 1967.
ويزداد وزن هذا المعسكر باستمرار، خلال الأعوام الأخيرة، في كل ما يتّصل بتحديد “الأجندة القومية”، سواء على المستوى الفكري، أو المستوى العملي، حتى أصبح يفوق وزنه العددي نسبته من مجمل السكان اليهود في إسرائيل. وهو يقف في الآونة الأخيرة، المرّة تلو الأخرى، في واجهة الخلاف بشأن قضايا عديدة في الحياة العامة. ويتسم المعسكر الصهيوني ـ الديني بتماثله التام مع الدولة، بالرغم من أنه يجد صعوبةً في تقبّل أنها دولة غير دينية، من حيث تعريفها، ومن حيث طرق إدارتها وأدائها.
وتحدّد أدبيات “المعهد الإسرائيلي للديمقراطية” ثلاثة نماذج يطرحها هذا المعسكر من أجل تسوية العلاقة بين الدين والدولة وتنظيمها: الذي يؤيد الفصل بين الهوية الصهيونية والهوية الدينية، والذي يسعى لتغيير أي طابع علماني للدولة واستبداله بالطابع الديني، والذي يقبل الدولة كما هي، لكنه يسعى إلى إصلاحها وتخفيف حدّة الاحتكاكات والتوترات بينها وبين الدين. وبموجب هذه الأدبيات، كان هذا الأخير النموذج الأكثر شيوعًا، ولكن تغيرات عميقة حدثت خلال جيل القيادة الحالي داخل المعسكر الصهيوني الديني، تمثلت، بشكل رئيسي، في تعميق البُعد الديني وتعزيزه، وبروز ميول مسيانية، والتشديد على قدسية “أرض إسرائيل”، وهو ما أحدث أيضًا تغييرا في علاقة المعسكر الصهيوني الديني بالدولة، ينطوي على نتائج بعيدة المدى وعميقة الأثر.
المصدر: عرب 48