احتمالات التوازن بين العدالة والمصالحة في سورية ما بعد الأسد
شكّل سقوط نظام بشار الأسد في سورية يوم 8 كانون الأول/ ديسمبر الجاري بداية مرحلة حساسة وحرجة (إيجابيًا) بالنسبة للشعب السوري، الذي كان يترقب بحذر وأمل مسار عمليات “ردع العدوان” وبيانات غرفة إدارة العمليات العسكرية في السيطرة على البلاد، وإعادة ترتيبها من جديد بما يتناسب مع المرحلة المقبلة. تتطلب هذه المرحلة حُكمًا معالجة قضايا معقدة مثل العدالة، والمساءلة والمحاسبة، والمصالحة وترتيب البيت في أي سياق ومع من ستكون، وعلى أي ملفات من شأن هذه المسائل أن تُحلّ.
فعليًا، فإن مسار الثورة السورية والحرب التي آلت إليها بفعل تعنّت النظام السابق ودمويته وعنجهيته العسكرية من جهة، وعدم الاستجابة لمطالب الشعب والتدخلات الخارجية والإقليمية من جهة أخرى؛ والانهيارات التي رافقتها سواء على المستوى العسكري أو السياسي أو الاقتصادي، كان قد أفرز حالة من الاستقطابات الطائفية والمناطقية والجماعوية، استفاد منها النظام السابق في خلق حالة من الفوضى والتفكك بما يلبي غرور أركانه، ويشبع الغريزة الانتقامية من الفعل الثوري في البلاد. فمن توظيف العسكر لقصف المدنيين وتخريب البلاد وتدمير مقدراتها، مرورًا بالمجازر المحلية والانتقام الميداني من المعارضين وتصفية أهاليهم، وصولًا إلى السجون وأقبية الأفرع الأمنية (التي تتنافى غاياتها مع مسماها)، والوحشية المفرطة في الاعتقال والتنكيل؛ يفرض هذا النسق من الجرائم الجسيمة ضد الإنسانية وتغذية روح الانقسامات طائفية على الإدارة الجديدة للبلاد ضرورة إيجاد توازن دقيق بين العدالة والسلام، لضمان تعافي سورية من أزمة الأسد ونظامه والانتقال بالشعب السوري إلى بر أمان ونقطة راحة.
العدالة مقابل المصالحة: توازن حساس
في النقاشات حول العدالة الانتقالية، غالبًا ما يتصادم هدفان رئيسان: الأول هو محاسبة مرتكبي الجرائم والمجازر والإبادات الجماعية؛ والثاني هو المحاولات الجادة لإعادة بناء السلام المحلي من خلال المصالحة (المشروطة أو غير المشروطة)، بما يتناسب مع تطلعات الإدارات الجديدة في البلاد. تاريخيًا، واجهت العديد من الدول التي خرجت من صراعات وحروب مشابهة صعوبات في إيجاد هذا التوازن، كما الحال في ليبيا والعراق، فقد أخذتا وقتًا طويلاً للتعافي بعد نظام صدام حسين ونظام معمر القذافي.
بالنسبة لسورية، فإن سنوات الحرب الطويلة ودموية النظام السابق خلالها، تركت ندوبًا عميقة في المجتمع السوري من جراء القصف العشوائي، والهجمات بالأسلحة الكيميائية، والتعذيب، والاعتقالات الجماعية، ما جعل العدالة مطلبًا لا غنى عنه للناجين وأسر الشهداء والمغيّبين قسريًا. ومع ذلك، فإن السعي الكامل للانتقام يمكن أن يعمّق الانقسامات ويطيل أمد العنف، كما حدث في صراعات أخرى مثل كولومبيا وجنوب أفريقيا.
تنضوي آليات مسار تحقيق العدالة عادةً على المحاكمات، والتعويضات، وتشكيل لجان تقصي الحقائق، إلا أن تطبيقها على نطاق واسع في سورية كدولة من إرث نظام استمر أكثر من 50 عامًا في الحكم ورسخ قواعد الاستبداد والظلم، قد يواجه عقبات لوجستية وسياسية لا بأس بها، حتى تتم عملية محاكمة جميع المتورطين سواء في التعذيب أو القصف المباشر او العمليات والغارات الجوية على المدنيين أو حتى المشرفين على السجون والمعتقلات وغرف التعذيب. تشمل هذه العقبات تحديد الأشخاص المنفذين والآمرين، تحييد النزعات الطائفية والمناطقية وتجنب إثارتها، والتفريق بين المحاسبة والانتقام على أساس أن الخطابين متقاربين إلى حد لا بأس به في سياق سورية ما بعد الأسد، ويجب فصلهما سواء في الرواية الإعلامية أو الواقعية، بالإضافة إلى اختيار الهيئة الناظمة لعملية المحاسبة هل تكون شرعية – دينية أو قانونية. يمكننا القول إن فرص التغيير والمحاسبة ممكنة، ويُنصح بالتركيز على المسؤولين الكبار كرموز للنظام السابق، مع إنشاء آليات مثل الفحص والتطهير للتعامل مع المساهمين الأدنى درجة العناصر المنفذين بهذه الحالة. هذه التدابير توفر وسيلة للعدالة الانتقالية من دون إرهاق المؤسسات الجديدة والتقليل من فاعليتها.
دروس مستفادة من تجارب العدالة الانتقالية عالميًا
تقدم تجارب دول أخرى رؤى قيمة لسورية ما بعد الأسد. في جنوب أفريقيا، أتاح عمل لجنة الحقيقة والمصالحة للضحايا الإدلاء بشهاداتهم، وسعى الجناة للحصول على العفو، ما ساعد على التعافي السريع نسبيًا. لكن وعلى الطرف المقابل، أدى العفو الشامل، كما حدث في لبنان في مرحلة ما بعد الحرب الأهلية، إلى تكرار دوائر العنف والانقسامات الطائفية، والمحسوبيات العسكرية، وكثرة عملية الثأر والاغتيالات. لذلك، قد تكون عملية العفو المشروط التي تجمع بين المحاسبة والمصالحة، الخيار الأمثل لسورية ما بعد الأسد. فيمكن مثلًا التركيز على الجناة الأدنى مستوىً الذين يكشفون عن معلومات حيوية عن الجرائم، فيما تُخصص المحاكمات الجنائية للقادة الكبار الذين أعطوا الأوامر في عمليات القتل والتعذيب والتدمير. ما حصل في سجن صيدنايا أمر مثير للقلق فعلًا، وكانت ردة الفعل من الإدارة العسكرية والسياسية في المعارضة أن تطلب من مسؤولي السجن القدوم إلى المكان والإبلاغ عن الخرائط وأماكن وجود المعتقلين، مع العفو التام عنهم وعدم التعرض لهم.
تشير أمثلة من أميركا اللاتينية إلى أن عمليات العدالة غالبًا ما تكون بطيئة. استغرق الأمر عشرين عامًا قبل أن تتمكن المحاكم في تشيلي من إلغاء قانون العفو الذي كان يحمي مرتكبي الجرائم في عهد الحكم العسكري. هذا التأخير يبرز أهمية الصبر في بناء أنظمة قضائية فعالة. في سورية، مثل هذا التأخير يمكن أن يُنظر إليه كإخفاق، خاصة بين الضحايا الذين قد يشعرون بأن العدالة قد تم التخلي عنها، ولذلك من الممكن الإسراع بتنفيذ عمليات المحاكمة، سيما وأن الضباط والقادة الكبار لديهم القدرة على الهروب من البلاد إلى الدول المجاورة على أقل تقدير. إعلان الإدارة العسكرية لقوى المعارضة عن القائمة رقم 1 لمسؤولين وضباط يجب محاكمتهم من شأنه أن يسرع وتيرة العدالة في سورية ما بعد الأسد.
معالجة إرث الطائفية والتدخلات الخارجية
كانت الطائفية سببًا ونتيجةً للصراع السوري. لذا، يجب أن تعالج أي جهود للمصالحة انعدام الثقة العميق بين العرب السنة والعلويين والأكراد، والجماعات الأخرى. ويمكن للمجتمع المدني أن يلعب دورًا محوريًا هنا من خلال تعزيز الحوار بين الطوائف المختلفة. على سبيل المثال، يمكن أن تساهم لجان الحقيقة الشاملة التي تضم المجموعات الأقلية في خلق شعور بالانتماء للعدالة الانتقالية، وفي الوقت ذاته تُضيف التدخلات الخارجية تعقيدًا إضافيًا. يجب أن تراعي أي إستراتيجية عدالة انتقالية في سورية مصالح القوى الدولية المتعددة، بما في ذلك روسيا، إيران، تركيا، والولايات المتحدة. سيكون دور المجتمع الدولي في تمويل ودعم آليات العدالة المستقلة، مثل المحاكم الخاصة، حاسمًا لضمان السلام طويل الأمد.
إن إعادة بناء الثقة مهمة هائلة. كثير من السوريين النازحين يخشون العودة بسبب المظالم غير المعالجة والمخاوف الأمنية المستمرة. لمعالجة هذه العوائق، يجب اعتماد نهج شامل يدمج جهود إعادة الإعمار مع الإصلاحات القانونية والشرعية الاقتصادية والتعددية والاعتراف العلني بالجرائم الماضية التي ارتكبها النظام السابق. بكلام آخر، يؤثر الانتعاش الاقتصادي والراحة الأمنية في تقليل التوترات في البلاد؛ إذ يمكن أن تساهم فرص العمل، وردّ الممتلكات التي استولت عليها إدارات النظام السابق الأمنية والعسكرية وقوات الحلفاء، سيما روسيا وإيران كما في بيوت مدينة تدمر وقرى ريف حمص، التي جعلوها ثكنات عسكرية ومقرات تعذيب و”تشبيح”، وبرامج الرفاه الاجتماعي في استعادة الثقة في المؤسسات الجديدة، شريطة أن تكون هذه الجهود شاملة للجميع لضمان عدم إثارة الاستياء والاقتصاص العادل.
يتطلب تحقيق التوازن بين السلام والعدالة في سورية نهجًا متعدد الأبعاد، ينتقل من إعطاء الأولوية للعدالة المتمحورة حول ضحايا بطش نظام الأسد ودمويته ومعرفة وضع هؤلاء الضحايا، وأن تتيح لهم المشاركة في صياغة العملية من خلال لجان الحقيقة أو برامج التعويضات، وصولًا إلى إشراك المجتمع المدني، إذ يضمن انخراط الفاعلين المحليين الشرعية، ويعزز المصالحة بين الطوائف المختلفة؛ مع عدم تجاهل الدعم الدولي وضمان احترام السيادة المحلية والقرار الداخلي في التسويات. يأتي هذا المنهج عبر تنفيذ تدريجي بحيث تركز الخطوات الأولى على استقرار البلاد – عبر خطوات تشمل إزالة الألغام، وإعادة بناء البنية التحتية، واستعادة الخدمات الأساسية – فيما يتم وضع الأسس للعدالة والتسوية على المدى الطويل.
المصدر: عرب 48