استخدام البنية التحتية كسلاح في الإستراتيجية العسكرية الإسرائيلية

في وقت يتواصل فيه العدوان الإسرائيلي على مخيمات شمال الضفة الغربية ومدنها للأسبوع الرابع على التوالي، أفادت وكالة الأمم المتحدة لغوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين "أونروا" بأن التهجير القسري واسع النطاق في الضفة الغربية قد طال 40 ألف شخص، محذرة من تصاعد هذه السياسة بوتيرة مقلقة.
تغطية متواصلة على قناة موقع "عرب 48" في "تليغرام"
وقالت "أونروا" في بيان لها عبر منصة "إكس"، إنه "منذ بدء عملية ’الجدار الحديدي’، التي وُصفت بأنها الأطول منذ الانتفاضة الثانية، من قبل القوات الإسرائيلية في 21 كانون الثاني، تم إفراغ العديد من مخيمات اللاجئين من سكانها تقريبًا".
وفيما يتواصل العدوان الإسرائيلي على مدينة ومخيم جنين، أجبر جيش الاحتلال نحو 3200 عائلة فلسطينية على النزوح من منازلها وأحيائها، وأكدت اللجنة الإعلامية في المخيم، خلال بيان لها صدر مطلع الأسبوع، أن المخيم يعاني من انقطاع تام للمياه والكهرباء، ونقص حاد في المواد الغذائية والاحتياجات الأساسية للأطفال، إلى جانب توقف المدارس والخدمات الصحية، مما يفاقم الأوضاع المعيشية.
ووثقت اللجنة الإعلامية تعرض 470 منشأة ومنزلًا للتدمير الكلي والجزئي، مشيرة إلى أن أربعة مستشفيات في المدينة تواجه أزمة حادة لعدم توفر المياه، ما يزيد من صعوبة تقديم الخدمات الصحية، في حين يعاني 35% من سكان مدينة جنين من عدم توفر المياه.
أما في مخيم طولكرم، فيقول فيصل سلامة، رئيس اللجنة الشعبية في المخيم، إن "الجيش الإسرائيلي دمر حوالي 300 مبنى بشكل كامل، كما جرى نسف أو حرق ما يقارب 2000 منزل بشكل كلي أو بإلحاق أضرار جزئية بها".
ويضيف أن "الجيش الإسرائيلي عمل على توسعة شوارع المخيم الضيقة باستخدام المتفجرات والجرافات الثقيلة، الأمر الذي أسفر عن تدمير كامل للطرقات والبنية التحتية والممتلكات العامة والخاصة، ما عمّق من معاناة المخيم ومن تبقى فيه من السكان".
وكانت "الأونروا" قد أشارت إلى استخدام القوات الإسرائيلية للضربات الجوية والجرافات المدرعة والتفجيرات المسيطر عليها والأسلحة المتطورة على نطاق واسع، وقالت إنها وثّقت وقوع 38 غارة إسرائيلية على الأقل في الضفة الغربية منذ بداية العام الجاري، مبينة أن هذه الأساليب العسكرية لا تتماشى مع سياق إنفاذ القانون في الضفة الغربية المحتلة.
حول "استعمال البنية التحتية سلاحًا وتحولات السلوك الاستعماري الإسرائيلي في جنين"، قدم الباحثان إبراهم ربايعة ولورد حبش ورقة/مداخلة، ضمن ندوة "الحرب على الضفة وآليات السيطرة الاستعمارية" في منتدى فلسطين، الذي نظمه المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ومؤسسة الدراسات الفلسطينية في الدوحة، مؤخرًا.
أشارت الورقة/المداخلة إلى التحول في استعمال البنية التحتية والتعامل معها، من شكل من أشكال المكافأة لحالة الاستقرار والهدوء وورقة مساومة سياسية، إلى أداة من أدوات الحرب والعقاب.

وبهذا الصدد، حاور "عرب 48" الباحث إبراهيم ربايعة لإلقاء المزيد من الضوء حول هذا الموضوع.
"عرب 48": هل حصل هذا التحول بعد السابع من أكتوبر والحرب على غزة وبتأثيرها، أم قبل ذلك؟
ربايعة: حصل هذا التحول قبل السابع من أكتوبر والحرب على غزة، وبدأ العمل به في جنين تحديدًا منذ منتصف العام 2023، حيث انتقلت إسرائيل لاستخدام البنية التحتية للإضرار بالحاضنة الشعبية، وعقاب المحيط، وتعظيم الثمن لأي حالة مقاومة. وهذا ما حصل خلال الاقتحام الكبير لجنين ومخيمها، الذي عادت خلاله جرافات (دي 9) إلى الشوارع، وجرى تدمير البنية التحتية بشكل مكثف، في إطار ما سُمي بعملية "البيت والحديقة"، التي جرى خلالها تهجير 3500 فلسطيني من المخيم، وأدت إلى ردود فعل دولية واسعة.
لاحقًا، تم توسيع استخدام العقاب بالبنية التحتية، وشمل تدمير شبكات المياه والكهرباء والصرف الصحي وشبكات تصريف مياه الأمطار، بهدف إنهاك المجتمع المحلي وتحويله إلى حالة ضاغطة على المجموعات المقاومة. وحتى أيلول 2024، حيث كان وقتها أيضًا اقتحام كبير لجنين ومخيمها، جرى تدمير ما يقارب 30% من شوارع المدينة والمخيم، وتسببت الأضرار والخسائر بأكثر من عشرة ملايين شيكل في شبكات المياه ومحولات الكهرباء، التي كان يتم استبدالها بشكل مباشر. إضافة إلى ذلك، لحقت أضرار فادحة أيضًا بشبكات المياه، لدرجة أن نسبة فاقدي المياه وصلت إلى 60% بسبب تدمير الشبكات. كما أن المشكلة ليست في التدمير فقط، بل في التدمير المكرر، بمعنى أنه يُمنع الترميم، وبالتالي يجري تدمير الشوارع ذاتها أكثر من 20 مرة.
"عرب 48": إذن، هي حالة من التوظيف ضمن الاستراتيجية العسكرية في شمال الضفة الغربية، وهذا لا يقتصر على المخيم فقط، بل على المدينة أيضًا؟
ربايعة: المدينة التي تحتضن المخيم أيضًا. وهنا نذكر بتصريح لقائد منطقة جنين في سنة 2023، الذي كان قد ادّعى، في سياق حديثه عن المقاومة، أن هذه حالة معزولة في مخيم جنين فقط، ولا يمكن لأهالي جنين أن يضحوا بمكتسباتهم، والتي هي دخول 24 مليون دولار إلى جنين جراء التبادل التجاري مع الداخل وفتح معبر الجلمة.
وبالتالي، جرى إغلاق معبر الجلمة في إطار العقوبة الاقتصادية، بالإضافة إلى تدمير البنية التحتية المحلية التي تمكّن حياة الناس، بهدف تدفيعهم ثمن احتضانهم للمقاومة. ومنذ بداية عام 2024، جرى بين 20 و30 اجتياحًا واقتحامًا للمخيم والمدينة، ووصلت أيام الإغلاق للسوق المحلي إلى 170 يومًا، أي أن السوق كان مغلقًا خلال نصف أيام السنة الماضية.
وبالتالي، هي حالة إنهاك اقتصادي ترافقت مع تدمير البنية التحتية وتحويلها إلى سلاح في الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية، حيث جرى استعمالها قبل عملية ما يسمى بـ"السور الحديدي".
"عرب 48": اليوم، حالات التدمير تلك أصبحت جزءًا شرعيًا، إذا صح التعبير، من الاستراتيجية العسكرية الإسرائيلية، وصار التهديد بتحويل الضفة إلى "غزة ثانية" هو العصا الغليظة التي تلوّح بها إسرائيل، والعملية العسكرية المسماة "عملية السور الحديدي" هي النموذج الحي للتدمير والتهجير؟
ربايعة: اليوم، المقاربة اختلفت بشكل جذري، بل هي تعمّقت وتجاوزت استخدام البنية التحتية إلى التدمير الشامل وإعادة هندسة المكان بشكل كامل.
"عرب 48": الأمر يشمل مخيمات جنين وطولكرم؟
ربايعة: الدراسة اقتصرت على جنين، ولكن جنين دُومًا استُخدمت من قبل إسرائيل كمختبر للضفة الغربية، أي أنه يتم تطبيق السياسات في جنين ونقلها لاحقًا إلى سائر الضفة الغربية. وهذا حدث في الانتفاضة الثانية، وحدث أيضًا في التسويات التي أنهت الانتفاضة الثانية، بمعنى أن موضوع التسهيلات بدأ في جنين عام 2008، وكذلك عملية استعمال البنية التحتية كسلاح ابتدأت في جنين وانتقلت إلى طولكرم، وما يسمى منطقة طوباس، ونابلس جزئيًا.
واليوم، عملية "السور الحديدي" بدأت في جنين وانتقلت إلى طولكرم وطوباس، وربما تمتد إلى مناطق أخرى، إذن، جنين هي المختبر، وما يتم تنفيذه في جنين يجري لاحقًا تعميمه على الضفة الغربية أو على المناطق المشابهة في الضفة الغربية.
"عرب 48": الانتقال من المخيم إلى المدينة يعني أن إسرائيل فشلت في عزل المخيم؟
ربايعة: المخيم تجاوز جغرافيته، بمعنى أن المخيم لم يعد جغرافية تعبّر عن سكانه، بل أصبح فكرة سياسية، أو عاد ليكون فكرة سياسية، بدءًا من جنين وانتقالًا إلى مناطق أخرى في الضفة الغربية. ولكن بعد الحرب على قطاع غزة، وكل ما حدث، صار من السهل على إسرائيل تكثيف استراتيجيتها باستخدام البنية التحتية وتوسيعها في كل المنطقة.
هذا الأسبوع، جرى تدمير البنية التحتية في الحارة الشرقية من جنين، وحدث ذلك في طولكرم أيضًا. فالاحتلال تجاوز المخيم، لأن إسرائيل تعتمد مقاربة عسكرية، ومقاربتها واضحة: "ما لا يُحل بالقوة يُحل بمزيد من القوة". هي لا تعترف بالقراءة السياسية، مع أن كل ما يحدث سياسي، ومن الواضح أن الأزمة سياسية ومسبباتها كذلك، بينما يصرّ الاحتلال على تقديم معالجات اقتصادية وأمنية عسكرية، هروبًا من مواجهة الاستحقاقات السياسية.
"عرب 48": لكن ما يحدث اليوم في جنين وطولكرم ومخيماتهما ويمتد إلى مناطق أخرى، لم نشهده سابقًا في الضفة الغربية. وهو استنساخ أو صورة مصغرة لما حدث في غزة، ويعني تهجيرًا في محاولة لاقتلاع المخيم؟
ربايعة: ما يحدث اليوم يتجاوز فكرة التهجير إلى فكرة إعادة هندسة المخيم بشكل كامل، وتحويله إلى شكل من أشكال الضواحي/الأحياء في المدن. بمعنى، في مخيم جنين، تم تدمير البيوت والشوارع بطريقة هندسية مدروسة تشي بوضوح، وفق المؤشرات الأولية، لأن العمل الميداني غير متيسّر، وعملية الوصول إلى المخيم في غاية الصعوبة. ولكن، وفق الملامح الأولية، فإن الهدف هو توسيع شوارع المخيم وإلغاء أزقّته، وتحويلها إلى شوارع، وبالتالي إلغاء فكرة المخيم القائمة على الأزقة كبنية تحتية، وهذا له انعكاس اجتماعي بحيث يفقد المخيم فكرته وروحه.
وهذا يعني بوضوح أن الآلاف من الذين نزحوا من المخيم لن يتمكنوا من العودة إلى منازلهم التي دُمّرت لصالح توسيع البنية التحتية، وإسرائيل ترفض إعادة إعمارها على النحو الذي كانت عليه، وهو ما يفضي بالبعض إلى الانتقال إلى المدينة عنوة، في إطار عملية تهجير قسري.
هدف آخر عبّر عنه وزير الجيش الإسرائيلي بقوله: "إن المخيمات لن تبقى أماكن حصينة". وكما تذكر، فإنه خلال عملية "نفق الحرية"، قُدّم مخيم جنين على أنه منطقة حصينة وآمنة يستطيع الأسرى اللجوء إليها، وتشكلت غرفة عمليات وما إلى ذلك. واليوم، الفكرة الإسرائيلية واضحة، وهي تبغي القضاء على المخيمات بوصفها أماكن حصينة.
"عرب 48": ولكن، المخيمات ربما تقلق إسرائيل سياسيًا أكثر مما تؤرقها أمنيًا وعسكريًا، ولذلك قامت بتشريع قانون يحظر "الأونروا" بوصفها شاهدًا على قضية اللاجئين؟
ربايعة: ما يحدث لا يبتعد عن تجفيف "الأونروا"، فاليوم هناك نزوح لحوالي 40 ألف لاجئ في الضفة الغربية، بالمقابل، لا توجد استجابات من "الأونروا" لأسباب تتعلق بعدم القدرة والتآكل المستمر في مساحات عملها خلال السنوات الماضية. وهذا ليس بعيدًا عن الإطار القانوني المتعلق بتجريم "الأونروا"، وكل ذلك يشير بوضوح إلى أن هذه المنظومة تعمل على تفكيك فكرتي اللاجئ والمخيم.
إبراهيم ربايعة: أستاذ غير متفرغ في العلوم السياسية والعلاقات الدولية في جامعة بيرزيت، صدر له عدة دراسات ومقالات حول قضايا المجموعات المقاومة في شمال الضفة الغربية واستهداف جنين.
المصدر: عرب 48