استدارة المستوطنة من الضفة إلى "الأنوية التوراتية" في مدن الساحل

في كتابه "استدارة المستوطنة من تلال الضفة الغربية إلى مدن الساحل – حالة الأنوية التوراتية"، الذي صدر حديثًا عن مركز مدار، يتناول د. أحمد أمارة إقامة "الأنوية التوراتية" في المدن الساحلية بشكل خاص، باعتبارها نمطًا استيطانيًا دينيًا جديدًا تصاعدت قوته بشكل خاص بعد خطة الانفصال عن غزة. تتألف هذه الأنوية من جماعات صهيونية متدينة تتشكل من خلال جمعيات مسجلة، وتنتقل عمدًا للإقامة الدائمة في مناطق تراها إستراتيجية لتحقيق أهدافها الاستيطانية، كما تدفع باتجاه تأسيس مؤسسات تربوية ودينية ومجتمعية، وبناء مشاريع سكانية في تلك البلدات من أجل تعزيز أيديولوجيتها الخاصة.
تغطية متواصلة على قناة موقع "عرب 48" في "تليغرام"
ويشير الكاتب إلى أن الصهيونية الدينية اتجهت إلى المدن الساحلية "المختلطة" مثل يافا واللد وعكا، من خلال إنشاء "أنوية توراتية" تهدف إلى تعزيز الهوية اليهودية في هذه المدن. وترى الصهيونية الدينية في الهيمنة على هذه المدن أكثر من مجرد مشروع اقتصادي أو ثقافي، إذ تعتبرها أداة جوهرية لضمان السيطرة اليهودية الراسخة داخل حدود الدولة الإسرائيلية، وتحقيق مشروعها القومي الذي يدمج الدين بالسياسة كإطار مهيمن على المجتمع والدولة.
وترتبط الأنوية التوراتية، وفقًا للكاتب بمفهوم "الاستيطان في القلوب"، الذي جاء كضرورة ملحّة للاستجابة لخيبة الأمل في المجتمع الإسرائيلي، بعد أن انسحبت دولة إسرائيل "العلمانية" من بعض الأراضي التي احتلتها عام 1967، مثل انسحابها من سيناء عام 1982 بعد اتفاقيات كامب ديفيد، ثم الانسحاب من قطاع غزة عام 2005.
وكان المفهوم نفسه استجابة لما وصفه أتباع الصهيونية الدينية بتراجع قيم الصهيونية وتزايد الفجوة بين الصهيونية الدينية والمجتمع الإسرائيلي العلماني بعد اتفاقيات أوسلو. وقد بدأ هذا المفهوم يتجذر كجزء من استراتيجية أوسع تسعى إلى إدخال القيم الدينية والقومية في صلب الخطاب الاجتماعي والسياسي الإسرائيلي، حيث يرى مؤيدو "الاستيطان في القلوب" أن استعادة الأرض لا يمكن أن تتحقق فقط من خلال السيطرة المادية عليها، بل عبر بناء شعور قوي لدى الإسرائيليين بارتباطهم الروحي والتاريخي بها.
ويرى الكتاب أن إقامة "الأنوية التوراتية" هو جزء أساسي من جهود الحركة للتوسع، ليس فقط في الأراضي المحتلة، بل أيضًا في المدن المختلطة داخل إسرائيل مثل يافا واللد والرملة وعكا، حيث بدأ أعضاء الحركة في تأسيس مجتمعات عُدّت فكرة "الاستيطان في القلوب" انعكاسًا لمحاولة الصهيونية الدينية استعادة ثقة المجتمع الإسرائيلي بعد الإحباطات المتكررة.
وبدأت الحركة في تأسيس شبكات من المدارس الدينية والأنشطة الاجتماعية التي تهدف إلى تعزيز الهوية اليهودية والقومية بين الإسرائيليين، كما ركزت على المناطق التي كانت تشهد تراجعًا ديمغرافيًا يهوديًا، مثل "المدن المختلطة"، حيث سعت إلى تقوية الهوية اليهودية في هذه المناطق من خلال تقديم الدعم للمدارس الدينية التي تنتقل للعيش هناك. وتحظى هذه الجهود والمشاريع بدعم من الحكومة والبلديات والمنظمات غير الحكومية، مما أتاح لها تمويلًا كبيرًا تجاوز في بعض الأحيان مئات ملايين الشواكل.
وبهذا الصدد، حاور "عرب 48" مؤلف الكتاب والأكاديمي والباحث في القانون والجغرافيا، د. أحمد أمارة، لإلقاء الضوء على الموضوع.
"عرب 48": يعبر العنوان "استدارة المستوطنة" عن العودة مجددًا إلى الأصل المتمثل في يافا وعكا واللد والرملة، وذلك بعد 77 عامًا على النكبة وإفراغ هذه المدن من سكانها الفلسطينيين واحتلال المستوطنين اليهود لبيوتهم، ثم دفع القلة القليلة الباقية منهم إلى هامش حياة المدينة، ومواصلة تضييق هذا الهامش بهدف ترحيلهم عنها؟
د. أمارة: الكتاب هو استمرار للبحث الذي تناولت فيه الاستيطان في أحياء القدس – سلوان، الشيخ جراح، والبلدة القديمة، وقد صدر في كتاب سابق عن مركز مدار أيضًا. ولعل المؤشر الأهم في الحالتين هو أنك ترى التحولات التي تطرأ على الصهيونية ذاتها، وبالذات هيمنة الصهيونية الدينية ومدى تأثيرها على شكل وخطاب المشروع الاستيطاني، فمن الاستيطان الكلاسيكي – الاستيطان في تلال الضفة الغربية – يتحول في العشرين سنة الأخيرة نحو الداخل أيضًا، وبالذات في المدن الساحلية: يافا، عكا، اللد، والرملة وغيرها.

الكتاب يتناول موضوع "الأنوية التوراتية" منذ بداياته، في سياق الأيديولوجيا التي طورها "الراف كوك" تحت مسمى "الاستيطان في القلوب". والفكرة أن قيادة المشروع الديني المسيحاني الخلاصي استنتجت أنها فشلت في ما يسمونه "استيطان قلوب الشعب اليهودي"، حيث يقولون: لقد استوطنّا في التلال، وبنينا الحجر والمستوطنات، لكن عندما جاءت ساعة الامتحان وكان هناك إخلاء مستوطنات، فإن "الشعب اليهودي" لم يقف معنا.
وترى أن كل مشروع الاستيطان الذي تقوده الصهيونية الدينية يناهض ويتصارع مع كل عملية انسحاب أو إخلاء مستوطنات، أو أي مفاوضات قد تفضي إلى مثل هذا الانسحاب أو الإخلاء، وذلك ابتداءً من كامب ديفيد في الثمانينيات، مرورًا بأوسلو في التسعينيات، وحتى الانسحاب من غزة في سنوات الألفين، والتي كانت كلها نقاط تحول في المشروع الاستيطاني، وصولًا إلى ما نراه اليوم من صراع حول موضوع الهدنة ووقف الحرب على غزة، إلى جانب ما يجري في الضفة الغربية.
التسارع الجدي حدث بعد الانسحاب من غزة عام 2005، حيث بدأ يتعاظم تغلغل الصهيونية الدينية وهيمنتها على عدة مساحات في السياسة والواقع الإسرائيلي عمومًا. هذه الهيمنة كانت في البداية خارج أطر الحكم، في اللوبيات والجمعيات، لكن في الخمس عشرة سنة الأخيرة نلاحظ أن لديهم مشروعًا يتغلغل في عدة أطر رسمية وسياسية، مثل البلديات، الوزارات، لجان التخطيط، الجيش، ومكاتب مثل "ألقيم العام" والقيم على أملاك الغائبين، وكل هذه المفاتيح التي تؤثر على موضوع الأراضي والاستيطان، والتي نلاحظ دورها في الاستيطان بأحياء القدس وفي المدن الساحلية أيضًا، رغم الاختلاف بين الحالتين.
"عرب 48": هل المقصود دور هذه المفاتيح في تمكين الجمعيات الاستيطانية من الاستيلاء على العقارات والأراضي الفلسطينية، خاصة وأن الحديث يجري عن استيطان في قلب المدن والأحياء؟
د. أمارة: صحيح، بمعنى أن ما تفعله الجمعيات الاستيطانية مثل "العاد" و"عطيرت كوهنيم" وغيرها في القدس، يشابه ما تفعله "الأنوية التوراتية" وجمعياتها في اللد والرملة وعكا ويافا، وهي الجزئية التي تهمنا، علمًا أن الكتاب يناقش في الفصل الأخير مشاريع إضافية للأنوية التوراتية في مدن يهودية صرف.
"عرب 48": تقصد مدن الساحل التي يهدف هذا الاستيطان إلى إنهاء ما تبقى فيها من وجود فلسطيني، من خلال إقامة بؤر استيطانية في قلب هذه الأحياء لتفجير التعايش الشكلي القائم، وتسريع مخطط التهجير الرسمي الذي ترعاه مؤسسات الدولة؟
د. أمارة: الترحيل غير مدرج على الأجندة بشكل علني، ولكن التضييق على السكان العرب الفلسطينيين قائم في الواقع. فإذا أخذنا اللد والرملة مثلًا، نجد أن كل الأحياء الخارجة عن التخطيط والبيوت المرشحة للهدم هي أحياء وبيوت عربية.
من الواضح أن الاعتبار هو اعتبار ديمغرافي، وأن تركيز الأنوية التوراتية على هذه المدن نابع من كونها تشهد ما يسمى بالهجرة السلبية لليهود منذ التسعينيات ولاحقًا. ولمحاربة هذه الظاهرة، بدأوا بالاستيطان وشراء البيوت في الأحياء التي يسعى العرب للدخول إليها، وذلك لمنع توسعهم وانتشارهم وفرملة الهجرة اليهودية، وهم يريدون في هذا السياق إبقاء العرب، في أحسن الأحوال، داخل الغيتوات الخاصة بهم.
في بعض هذه المدن، جرى إقامة مشاريع سكنية خاصة بالنواة التوراتية، وذلك بعطاءات من البلدية، وفي اللد بشكل خاص تم إنشاء مشاريع سكنية كبيرة لهؤلاء المستوطنين الجدد. وتُعتبر اللد أكبر مثال على نجاح مشروع "الأنوية التوراتية"، حيث يجري الحديث عن آلاف المستوطنين الذين سكنوا في المدينة تحت يافطة هذا المشروع، وهم يتمتعون ببلدية داعمة جدًا، ومؤخرًا حصلوا على عطاء إضافي لإقامة حي كبير يقتصر على العائلات المنتمية للصهيونية.
"عرب 48": هل يعملون وفق منظومة متكاملة تشمل إقامة بنية تحتية تتضمن بناء المدارس والمؤسسات الدينية؟
د. أمارة: هم يؤسسون جمعيات في البداية، وتحصل تلك الجمعيات على ميزانيات من الوزارات ذات العلاقة، مثل وزارة التربية والتعليم ووزارة الإسكان وغيرها. بعض هذه الوزارات يشغلها اليوم وزراء من الصهيونية الدينية، مثل أوريت ستروك، التي زادت بشكل كبير الميزانيات المخصصة لهم من وزارة الإسكان، هذا إضافة إلى الميزانيات التي تحصل عليها من صناديق خارجية داعمة لمشروع الاستيطان.
كما تحصل هذه الجمعيات على دعم البلديات عن طريق تخصيص أراضٍ أو أبنية قائمة بدون مقابل أو بمقابل رمزي، ثم تبدأ بتأسيس روضات ومراكز اجتماعية ودورات وبرامج تعليم لا منهجية، إضافة إلى مدرسة دينية وكنيس وكلية دينية عسكرية، أي أنهم يخلقون مجموعة اجتماعية، ويبدأون بتقديم خدمات للناس الواقعين خارج المجموعة بهدف جذبهم إليها، وهكذا يتم التغلغل داخل مجتمع المدينة وتشكيل قطب قوي وفاعل داخله.
هم يركزون على برامج التربية والتعليم، والسكن، والأزواج الشابة، وبرامج ما بعد المدرسة، والتحضير للجيش من خلال إقامة كلية دينية عسكرية. ونلاحظ أن المؤسسين هم من قيادات المستوطنين في مستوطنات الخليل ونابلس وغيرها من مستوطنات الضفة الغربية.
"عرب 48": تقصد أن المؤسسين هم من مستوطنات الضفة الغربية، يقومون بتأسيس النواة والبنية التحتية التي يجري من خلالها استقطاب السكان المحليين، خاصة في المدن والأحياء الضعيفة اقتصاديًا، والتغلغل بينهم؟
د. أمارة: المؤسسون لكل الفكرة والمشروع هم من مستوطنات الضفة الغربية أو من مستوطنات غزة سابقًا، يأتون ببضع عائلات، بقناعة أن "حكم اللد كحكم عوفرا"، كما يقولون. ومن المعروف أنه في مدن الساحل، الوضع الاقتصادي والاجتماعي صعب جدًا، لدى الفلسطينيين خصوصًا، ولكن بشكل عام أيضًا. فالمبدأ نفسه القائم في "يروحام" و"أوفكيم" هو نفسه القائم في عكا ويافا واللد والرملة، وهم يقدمون العديد من البرامج الاجتماعية والتربوية والدينية التي تحتاج إليها هذه المجموعات السكانية.
"عرب 48": هل يعملون تحت يافطة تعزيز السكان اليهود وتمكينهم من "الصمود" فيما يسمونه الصراع الديمغرافي؟
د. أمارة: هناك الشق الثاني الذي يتحدث عنه الكتاب في هذا المشروع، ونحن لا ندخل فيه، مثل مشروع قانون القومية والصهيونية الدينية، حيث يوجد صراع صهيوني-صهيوني ويهودي-يهودي. فالجزئية الثانية في هذا المشروع هي فكرة تربية اليهودي على قيم التوراة بحيث يؤمن بأن كل الأرض هي "أرض إسرائيل"، وأن أي جزء منها هو لـ"شعب إسرائيل"، والسعي عمليًا لخلق نوع من التطابق بين "شعب إسرائيل"، الذي هو جسم يهودي توراتي، وبين هذه القيم، بحيث يسكن ويحيا ويتطور، ولا يتنازل في أي حال من الأحوال عن أي قطعة من "أرض إسرائيل" الكاملة. هذه هي القيم التي يربون عليها.
"عرب 48": كي لا يتكرر سيناريو إخلاء المستوطنات الذي حصل في غزة وفي سيناء سابقًا؟
د. أمارة: بالضبط، لقد رأينا كيف بدأوا بتكثيف الاستيطان في القدس بعد أوسلو والتهديد بالانسحاب من شرقي القدس، حيث بدأوا بالاستيطان في سلوان، والشيخ جراح، والمصرارة، واليوم يتحدثون عن شعفاط وبيت حنينا، وذلك لمنع أي فصل بين شطري المدينة.
نفس الشيء حدث سابقًا بعد كامب ديفيد، حيث جرى التأكيد في حينه على مشروع الاستيطان في الضفة الغربية، وبعد الانسحاب من غزة جاء الدور على الداخل.
"عرب 48": هل يتبعون سلوك المستوطنين في الضفة، ولذلك وقعت الانفجارات في اللد ويافا وعكا خلال هبة الكرامة في أيار 2021؟
د. أمارة: هبة أيار 2021 لم نرَ سابقة شبيهة لها في مدن اللد وعكا ويافا بشكل خاص، والهبة بدأت أصلًا من يافا قبل الشيخ جراح. ورغم أن الشيخ جراح لها رمزية خاصة ومثّلت انطلاقة حقيقية، إلا أن الأحداث في يافا بدأت في شهر نيسان، أي قبل أحداث الشيخ جراح بشهر تقريبًا، عندما قالوا إنه جرى الاعتداء على أحد حاخامات المستوطنين، ونُفّذت حملة اعتقالات، انطلقت في أعقابها مظاهرات احتجاج.
ما أريد قوله هو إن هذا الواقع الاستيطاني في الشيخ جراح وسلوان هو نفسه الواقع الذي يعيشه الفلسطينيون في يافا وعكا واللد بشكل خاص، ولذلك كانت الهبة كبيرة في هذه المواقع، التي تشترك في المعاناة من قضايا الأرض والمسكن واستيطان الصهيونية الدينية.
المصدر: عرب 48