استمرار الإبادة أم التهدئة والوحدة الفلسطينية؟

بعد أن حصلت حكومة بنيامين نتنياهو على فرصة ذهبية مكّنتها من استئناف جريمة الإبادة الجماعية، بدءاً بفرض الحصار الخانق على قطاع غزّة، فلم يدخل القطاع أيّ شيء منذ الثاني من الشهر الماضي (آذار/ مارس)، ثمّ استئناف العمليات العسكرية في 18 من الشهر نفسه بصورة مكثّفة، وأكثر وحشيةً من السابق… بعد تلك الفرصة، تلوح في الأفق القريب إمكانيةٌ للتوصل إلى صفقة تبادل جديدة، جرّاء تبدّل في الموقف الأميركي، إذ صدرت عن الرئيس دونالد ترامب وأركان إدارته تصريحاتٌ وأفعالٌ تشير إلى أن الضوء الأخضر الأميركي لمواصلة الإبادة قد شارف على النفاد، وهناك ضمانات غامضة وغير محدّدة قدّمها المبعوث الأميركي ستيف ويتكوف لحركة حماس بدخول مفاوضات حول وقف الحرب، وهذا يرجع إلى قرب زيارة ترامب المنطقة، وحاجته إلى الهدوء في أثنائها، لكي يضمن نجاحها بعقد الصفقات الكبرى، التي يمكن أن تشمل التطبيع بين الرياض وتلّ أبيب، خصوصا في ظلّ المطالبة السعودية بوقف الحرب والاعتراف بالدولة الفلسطينية، ومع زيادة الانتقادات من بعض الدول العربية والدولية (زيارة الرئيس الفرنسي مصر، والقمّة التي جمعته مع الرئيس المصري وملك الأردن، والتواصل في أثنائها مع ترامب عبر الهاتف).
تغطية متواصلة على قناة موقع "عرب 48" في "تليغرام"
لذا، بمقدور العرب الذين سيزورهم ترامب، وخصوصا في الرياض، وهم منزعجون من تزايد الدور الإسرائيلي في المنطقة على حساب أدوارهم، وضع مسألة وقف الإبادة الجماعية في قائمة الأولويات، حتى يمكن الاتفاق على سيناريوهات "اليوم التالي"، التي يجب أن تشمل المساعدات الإنسانية العاجلة، وإعادة الإعمار وفق الخطّة التي أقرّتها القمّة العربية، والتي تتضمّن كذلك فتح أفق سياسي يبدأ بتمكين بديل فلسطيني يفتح الطريق لعودة السلطة إلى القطاع ويتضمّن إقامة الدولة الفلسطينية.
في هذا السياق، مطلوب من القيادة الفلسطينية، ومختلف الأطراف الفلسطينية، بذل جهود حثيثة ومستمرّة، للربط ما بين أولويات دول المنطقة والقضية الفلسطينية، لو وضعت الرياض وأبو ظبي والدوحة مسألة فلسطين ضمن الصفقة الشاملة، التي تتضمّن استثمارات وشراء سلع أميركية تصل إلى أكثر من ثلاثة تريليونات، فلن يضيّع ترامب هذه الفرصة "كرمى لعيون" نتنياهو.
ومن العوامل التي تدفع نحو التوصّل إلى صفقة تبادل زيادة الفضائح للحكومة بعد إقالة رئيس الشاباك، وقرار المحكمة العُليا بتجميده، وما سمّيت "قطر غيت"، وجبهة الإسناد اليمنية، والخشية من أن يؤدّي استمرار الحرب إلى توسّعها واندلاع حرب إقليمية، وتحرّكات المعارضة الإسرائيلية، وخصوصا حراك أهالي الأسرى، وظهور بوادر تمرّد في الاحتياط والمتقاعدين وداخل الجيش الإسرائيلي، كما عبّرت عنه عرائض من الطيارين ووحدات الجيش المختلفة، التي تطالب بوقف الحرب، وإعطاء الأولوية للتفاوض على إطلاق سراح الأسرى، ولو كان الثمن وقف الحرب، وخصوصا أن هذه الظاهرة قابلة للاتّساع.
على الرغم من قوة الدفع نحو الصفقة، فإنه لا ينبغي التقليل من العوامل التي تمنع التوصّل إليها، وأهمّها أن الحكومة الإسرائيلية تخشى السقوط إذا توقّفت الحرب، وهي مستقرّة وتحظى بدعم 68 عضواً في الكنيست، وتعتقد أن أمامها فرصةً ذهبيةً لتحقيق ما لم تحقّقه من أهداف، خصوصاً أنها لا تتكبّد خسائر بشرية في ظلّ الغياب شبه الكلّي لعمليات المقاومة، وعدم اتخاذ إجراءات عربية ودولية عقابية، وتراجع حملات التضامن على امتداد العالم، والأهداف تتمحور على تصفية القضية الفلسطينية، ولا تقتصر على إطلاق سراح الأسرى، وتدمير قدرات "حماس" المدنية والعسكرية، وإسقاطها من الحكم، ونزع سلاح قطاع غزّة، وتصل إلى تهجير سكّانه، فهناك مساعٍ حثيثةٌ لإقناع بلدانٍ لقبولهم، والأكثر أهميةً أنها تمضي في جعل قطاع غزّة منطقةً غير قابلة للحياة.
الأمر الحاسم الذي يجب أن يحكم سياسة الأطراف الفلسطينية كلّها أن أولوية الأولويات وقف مخطّطات تصفية القضية الفلسطينية، وفي مقدمها الإبادة الجماعية، والضمّ، والتهجير بأيّ ثمن، فلا شيء أغلى من الإنسان. من الخطأ تحميل "حماس" المسؤولية عما ترتكبه دولة الاحتلال من جرائم، بغضّ النظر عن الموقف من طوفان الأقصى، وهل هو خطوة صحيحة أم خاطئة، لأنها ناتجة بالأساس ممّا يقوم به الاحتلال، وممّا يخطّط للقيام به، ويجب أن تكتفي القيادة الفلسطينية بمطالبة "حماس" بعدم توفير الذرائع لإسرائيل للاستمرار في الإبادة والتهجير، لأن ما تقوم به الحكومة الإسرائيلية تجاوز مرحلة استخدام الذرائع، إلى السعي إلى تطبيق مخطّطاتٍ موضوعة سلفاً تستهدف تصفية القضية بمختلف مكوّناتها، بما في ذلك الضمّ وتهجير أكبر عدد ممكن من الفلسطينيين، وإقامة "إسرائيل الكُبرى"، المهيمنة على منطقة الشرق الأوسط. فالقيادة مطالبة بالاستعداد للمشاركة في تشكيل حكومة وفاق وطني وفق إعلان بكّين، أو بتقرير لجنة الإسناد (وهو أضعف الإيمان)، وبمغادرة سياسة النأي بالنفس خشيةً من أن تدفع الثمن مع "حماس"، وعلى أمل اعتمادها في "اليوم التالي"، وتعطيل الوحدة ولجنة الإسناد بانتظار وقف إطلاق النار، مع تبنّي تقدير خاطئ بأن "حماس" ستشطب من المعادلة، وهذا، لأنّ المُستهدَف الكلّ الفلسطيني. ورغم الضربات القوية جدّاً التي تلقتها المقاومة، فإن هزيمةَ المقاومة ساحقةً مستحيلةً، كما أن الاحتلال يضع الفلسطينيين في سفينة واحدة، إذا غرقت سيغرقون جميعاً، وإذا نجت سينجون جميعاً.
يضاف إلى ما سبق أن وحدة الفلسطينيين ستعزّز صمودهم، وتقوّيهم، وتمكّنهم من إحباط المخطّطات المعادية، وهي تتحقّق، سواء من خلال حكومة وفاق على أساس برنامج وطني كفاحي، يجسّد الحقوق، وقادر على الإقلاع، كما هو مفضّل، أو من خلال لجنة إسناد على أمل أن تكون مؤقّتةً، وتؤدّي إلى حكومة وفاق، ثمّ الاحتكام إلى الشعب عبر انتخابات في أسرع وقت ممكن، وتشكيل وفد فلسطيني موحّد في إطار المنظمة للتفاوض فوراً ومن دون إبطاء.
الأثمان والمخاطر المترتبة على لجنة الإسناد أقلّ بكثير من المخاطر والأثمان المترتبة على استمرار الانقسام وتعميقه، والتحريض المتبادل والتكفير والتخوين، في ظلّ سياسة إسرائيلية تقوم على خطّة الحسم التي تخيّر الفلسطيني بين التهجير والعبودية والقتل، ورفض وجود سلطتَين (فتحستان وحماسستان)، أو كما يكرّر نتنياهو باستمرار: رفض "حماس" ومحمود عبّاس. الهدف الإسرائيلي الأهم في هذه المرحلة هو فصل الضفة عن القطاع نهائياً، وتقطيع أوصالهما معازلَ منفصلةً بعضها عن بعض، وقطع الطريق على قيام دولة فلسطينية، وتفتيت مظاهر تجسيد الهُويَّة الوطنية الفلسطينية، بما فيها القضاء على وحدانية تمثيل الشعب الفلسطيني عبر منظّمة التحرير.
على القيادة أن تغادر المسار الذي ساهم أكثر من أيّ شيء آخر في الوصول إلى الكارثة الراهنة، وهذا يكون بسحب الاعتراف بإسرائيل، فليس من المنطقي ولا المقبول ولا المعقول استمرار الاعتراف الفلسطيني في ظلّ الإبادة، وعدم وجود عملية سياسية، وبما يوجب الإقدام على عملية شاملة لتغيير شكل السلطة وطبيعتها ووظائفها وموازنتها والتزاماتها، وخصوصاً أن دولة الاحتلال تقوّض السلطة لدفعها إمّا إلى التفتّت سلطاتٍ إداريةً محلّيةً منفصلةً تتنافس فيما بينها، ومرجعيتها سلطات الاحتلال، أو إبقائها سلطةً واحدةً، ولكن مفرّغة من محتواها الوطني والتمثيلي والسياسي، وتقوم بدور خَدَمي إداري أمني، وكيلاً للاحتلال.
لا معنى (بل من الخطير) لعقد اجتماع طارئ للمجلس المركزي استجابة لضغوط خارجية من أجل استحداث منصب نائبٍ لرئيس اللجنة التنفيذية ولرئيس دولة فلسطين، رغم صدور إعلان دستوري (غير دستوري ولا متوافق عليه) في كانون الثاني/ يناير 2025، يقضي بأن يحلّ الرئيس المجلس الوطني 90 يوماً، قابلة للتمديد مرّة واحدة، وإجراء انتخابات رئاسية، فهناك تقدير عند الضاغطين بتعذّر إجراء الانتخابات، أو الأصح هناك خشية من نتائجها، وأن لا تأتي حسب الطلب، لذلك يتم الضغط لاستحداث نائب رئيس مفوّض بالصلاحيات حتى يقوم بدوره فوراً، ويحلّ محله إذا شغر منصبه، أو كما تشير الدعوة المرسلة إلى أعضاء المجلس المركزي، التي سقط منها ما جاء في خطاب الرئيس عن استحداث منصب نائب لرئيس دولة فلسطين، والاكتفاء باستحداث منصب نائب رئيس اللجنة التنفيذية للمنظّمة (على الأغلب سيترك أمر اختياره للرئيس)، مع العلم أن اللجنة التنفيذية للمنظّمة هي التي تنتخب رئيس اللجنة التنفيذية، وفق النظام الأساسي للمنظّمة، وبذلك لا خشية من نشوء فراغ في حالة شغور منصب رئيس اللجنة التنفيذية.
المطلوب من هذا الاستحداث إحالة صلاحيات الرئيس فوراً وقبل رحيله، لذلك يقاوم الرئيس طوال السنوات الماضية ذلك، ويتحايل عليه، سواء في المنظمة أو السلطة/ الدولة، فالمطلوب اختيار شخص أو أكثر، للقيام بإصلاح السياسة الفلسطينية وتفعيلها لتكون أكثر استجابةً للشروط الأميركية والإسرائيلية والإقليمية، في حين أن الشعب الفلسطيني بحاجة إلى شيء آخر، إلى رؤية جديدة وتغيير وتجديد بنيوي شامل للمسارات والإستراتيجيات المعتمدة سابقاً، وإلا وصلت إلى طريق مسدود، من أجل إطلاق مسار قادر على الانتصار. إن عقد المجلس المركزي من دون أن تكون الأولوية لبلورة رؤية شاملة جديدة، ووضع خطّة لتنفيذها، وبلا توافق وطني ومشاركة لمختلف القوى والقطاعات (الممثلة وغير الممثلة في المنظمة) سيكون مضيعةً للوقت، ودوراناً في المكان نفسه، ما يعمّق المأزق التاريخي الذي يواجه القضية الفلسطينية والنظام السياسي بمختلف مكوّناته.
يجب ألا تكتفي "حماس" بإبداء المرونة في المفاوضات بشأن صفقة التبادل، كما فعلت حتى الآن، بل عليها مراجعة ما قامت به، وتقييم واستخلاص الدروس والعبر، والتصرّف على أساس أن القضية والشعب والأرض والحقوق أكثر أهميةً من القادة والفصيل والحكم، مع الإدراك أنها خطت خطوات مهمّة إلى الأمام باتجاه الاستعداد للتخلّي عن الحكم، ولكنّها أرسلت أيضاً رسائل معاكسة، لكن من المؤكّد أنها لم تُقابَل بخطوات مماثلة من القيادة الفلسطينية، التي تريد تنفيذاً كاملاً لشروطها، ولا تريد أيّ شراكة وطنية حقيقية.
نعم، مفترض أن تستعدّ "حماس" فعلاً للتخلّي عن الحكم حتى تساهم في وقف الإبادة والشروع في الإعمار، الذي وحده يمكن أن يمنع التهجير، وعدم تحمّل أيّ مسؤولية عن استمرار العدوان. ومفترض بالسلطة أن تتفاهم معها على ذلك. ففي ظلّ المعطيات القائمة، على أساس معادلة "لا حكم لحماس ولا حكم من دون تفاهم معها"، فإن التراجع لا يعني الاستسلام، بل يمكن أن يؤدّي إلى الحفاظ على الذات ومنع الإبادة، صحيح أن الاحتلال لا يحتاج إلى ذرائع لتنفيذ مخطّطاته، ولكن ما تقوم به (أو لا تقوم به) المقاومة وكيف، يؤثّر بقوة في ردّة فعله، وعلى معدّلات تنفيذ مخططاته، فـ"طوفان الأقصى" ردّة فعل طبيعية، وخطوة تاريخية ستحفر عميقاً في التاريخ الفلسطيني، رغم النتائج التي لم تطابق التوقّعات والحسابات، فهو رغم ما تقدم وفّر فرصةً للاحتلال لتنفيذ مخطّطات موضوعة سلفاً في رأسها الإبادة الجماعية، وهي أكبر بكثير من ردّة فعل انتقامية على ما حصل، ولكن ما كان ليفعل ذلك بهذا الحجم من دونها، لأنه لن تتوافر له الموافقة والشرعية الداخلية والإقليمية والدولية وحتى الأميركية.
على "حماس" إدراك أن ورقة الاحتفاظ بالأسرى تتحوّل رويداً رويداً ورقةً ضاغطةً على المقاومة، أكثر ممّا هي ضاغطة على الاحتلال، وأن مسالة الضمانات ليست بهذه الأهمية، إذا كانت مطلوبة وممكنة من الإدارة الأميركية، التي لا تحفظ الوعود، والشريكة لدولة الاحتلال بجرائمها، لذا ليس الأمر الأكثر أهميةً عدد الذين سيفرج عنهم من الجانبَين، إذا كانت المقارنة بين ذلك ووقف الإبادة خمسين أو ستين أو سبعين يوماً، يمكن أن تتعاظم فيها احتمالات وقف النار بشكل دائم، لأن الحكومة الحاكمة في تلّ أبيب أظهرت أنها لا تهتم كثيراً لمصير أسراها، بل قد تفضّل أن يموتوا نتيجة القصف الشامل الذي تقوم به، أو وفق برتوكول هانيبال، أو على أيدي آسريهم، الذين لديهم أوامر بقتلهم إذا شعروا بخطر بمعرفة أماكن وجودهم.
إمكانية تحقيق الوحدة من خلال تطبيق إعلان بكّين متدنية، ولكن يجب استمرار الدعوة إلى تحقيق ذلك لأنها الخيار الأفضل، لأن المخاطر وجودية ومصيرية على الجميع، ولكنّ فرصة تشكيل لجنة إسناد أكبر، مع أنها ليست مؤكّدة، ويراد لها أن تكون خطوةً لتفتيت وحدة النظام السياسي، ووحدة السلطة والضفة الغربية وقطاع غزّة، ولكنّ يمكن لها، إذا توافرت الإرادة الفلسطينية والدعم العربي، أن تكون خطوةً نحو تشكيل حكومة وفاق وطني، خصوصاً أن البدائل الإسرائيلية تواجه صعوبات كبيرة، الاحتلال والحكم العسكري والتهجير، أو إقامة حكم فلسطيني تحت السيطرة الأمنية الإسرائيلية، أو بقاء حكم "حماس"، ولكن ضعيفةً ومحاصرةً وتحت العدوان المستمرّ. وهناك موقف دولي لا يزال ينادي بعودة السلطة إلى القطاع وفتح أفق سياسي ينهي الاحتلال ويقيم دولة فلسطينية، وهو مهمّ، من دون مبالغة في أهميته ولا تقليل منها.
وإذا لم تتشكّل حكومة وفاق ولا لجنة إسناد مجتمعي، فلا مفرّ من إقامة جبهة وطنية ديمقراطية من القوى والأفراد والمؤسّسات كلّها، التي يمكن أن توافق عليها، مع ترك الباب مفتوحاً للقيادة دليلاً على التمسّك بالوحدة والشراكة من دون إقصاء أيّ طرف، فالقضية بحاجة إلى الجميع والوطن يناديكم، وعليكم تلبية النداء قبل فوات الأوان، والندم حيث لا ينفع الندم.
اقرأ/ي أيضًا | المطلوب من "حماس"
المصدر: عرب 48