استنتاجات أوّلية بعد عام من حرب الإبادة
مع مرور عام من حرب الإبادة على أبناء شعبنا في قطاع غزة وانتشارها وتوسّعها على الضفة الغربية ولبنان وإيران، تُثار أسئلة كثيرة حول الطوفان وأبعاده ونتائجه. ومرة أخرى أجد نفسي مضطرًا للعودة إلى أبي تمّام لنؤكد على أنّ “السيف أصدق أنباءً من الكتب/ في حدّه الحدُّ بين الجد واللعب”. دون شكّ سينشغل الكثيرون في المستقبل القريب بنقاش وتفنيد الأفكار المسبقة المتعلّقة بقراءة الواقع السياسي وعلاقات القوة بين اللاعبين المختلفين في الشرق الأوسط والعالم، خاصة بعد المفاجأة الكبرى التي بدأت في السابع من أكتوبر 2023 وأسقطت مفاهيم ومُسلّمات كثيرة حول إسرائيل، وجيشها وأجهزتها الأمنيّة.
من الصعب استخلاص جميع العبر، والوصول إلى استنتاجات واضحة من هذه الحرب، حيث أنها ما زالت مستمرّة والغموض يكتنف مستقبل تطوّرها. ومع ذلك ينبغي القول إن الطوفان هو حدث سياسي إستراتيجي متدحرج، بدأ في السابع من أكتوبر، ولكنه مستمرّ ويضعنا أمام سيناريوهات متعدّدة. من الممكن أن تستمرّ الحرب بوتيرتها الحالية على مدار فترة طويلة، ومن الممكن أن تنتهي قريبًا من خلال ضغط أميركي ودولي كبير. ولكن من الممكن أيضًا أن تتطوّر إلى حرب إقليمية، أصعب وأكبر من كل ما رأيناه حتى اليوم. كل الإمكانيات مفتوحة ولديها ما يؤكّد أو يفنّد احتماليّة حدوثها.
ما يزيد الغموض وصعوبة استشراف المستقبل هو عدد اللاعبين المنخرطين بشكل مباشر أو غير مباشر في هذه الحرب، فهناك حركة حماس وباقي فصائل المقاومة في غزة والضفة، والحكومة الإسرائيلية، والسلطة الفلسطينية، والمقاومة في لبنان، والحوثيون في اليمن، وفصائل المقاومة الإسلامية في العراق، وإيران، والأردن، ومصر، وقطر، والسعودية، والولايات المتحدة الأميركية، وعدد من الدول الأوروبية، وجنوب أفريقيا، وروسيا، والصين وغيرهم. لكلٍّ من هذه الدول وفصائل المقاومة، مصالحُها واعتباراتها. كما أنّها تتأثّر جميعها بدور الأطراف الأخرى بنسب متفاوتة. بالإضافة إلى أنّ أي طرف من هؤلاء لا يستطيع أن يحسم المعركة بمفرده مهما كانت قوّته وموارده.
بيد أنني في هذه المقالة أودّ أن أتناول دورنا نحن فلسطينيي الداخل في هذه الخارطة السياسية البالغة التعقيد، والحديث عن بعض الاستنتاجات التي يمكننا التعامل معها بعد عام من الحرب، خاصة في واقعنا المركّب والمليء بالتناقضات كوننا نعيش “كمواطنين” في الدولة التي تعمل على إبادة شعبنا وتُعادي كل عالمنا العربي. ومن الواضح أنّ هذه الدولة في كل لحظة امتحان جدّي تتعامل معنا، بكافة مؤسساتها، كأعداء وليس كمواطنين. كان ذلك، على سبيل المثال، في مجزرة كفر قاسم عام 1956، وفي فترة الحكم العسكري (1948-1966)، وفي يوم الأرض عام 1976، وفي هبة القدس والأقصى عام 2000، وفي هبة الكرامة عام 2021. في الأسبوع الأول للطوفان، ومع إعلانه الحرب، قرر رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتنياهو، أن يتعامل معنا “كالجبهة الرابعة”، أي أنّه أعلن علينا الحرب قبل أن نقوم بأي تحرّك. لم يعترض أيّ من أحزاب المعارضة على هذا الإعلان بل انضمّوا إليه وإلى جوقة التحريض المستمرّة حتى يومنا هذا، من السياسيين والإعلاميين وقادة الرأي العام في إسرائيل.
على الرغم من تعقيدات حالة الفلسطينيين في الداخل والغموض الكبير المتعلّق بمستقبل هذه الحرب وأبعادها ونتائجها، إلّا أنّ هناك عدّة استنتاجات وعبر أصبحت واضحة ويمكننا البناء عليها.
أوّل هذه الاستنتاجات هو أهميّة بناء لجان طوارئ في كافّة القرى والمدن والتجمّعات السكانية العربية في الداخل. من الواضح أننا لا نستطيع أن نعوّل على إسرائيل ومؤسساتها من أجل حماية مجتمعنا في أي ظرف طارئ. إسرائيل هي جيش يمتلك دولة، وهذا الجيش يتعامل معنا في حالة الحرب كأعداء، ولو كانت هناك أي حالة طوارئ أخرى كهزة أرضية أو عاصفة، لن نكون في سلّم أولوياته. لذلك، علينا العمل بشكل جدّي ومهني على تطوير لجان طوارئ تدرس بشكل مهني حالة تجمّعاتنا السّكنية المختلفة، وتعمل على تقديم حلول وبدائل لأي طارئ ممكن أن يضرب مجتمعنا.
الاستنتاج الثاني من تأثيرات هذا الطوفان علينا في الداخل، هو أنّ هناك أهمية بالغة للعمل على بناء وتنظيم نقابات عمّالية ومهنيّة مستقلّة. تعمل هذه النقابات على حماية أعضائها بشكل خاص وعلى حماية مجتمعنا بشكل عام. نستطيع من خلالها رفع صوتنا بشكل أقوى أو الإعلان عن إضراب بدون التخوّف في الوقت الحالي من بطش المؤسسة أو استفرادها بالموظفين أو معلمي المدارس أو الأطباء أو غيرهم من أبناء مجتمعنا. كما علينا تمكين جمعيّات العمل الأهلي والمجتمع المدني بحيث تستطيع القيام بدورها في تقديم الخدمات وحماية مجتمعنا. وأخصّ بالذكر الجمعيات الحقوقية والتي يجب أن تطوّر دورها في حماية السجناء، الأسرى السياسيين، وحقوقنا كمواطنين.
الاستنتاج الثالث، من تجربتنا مع هذه الحرب، هو أهميّة بناء منصّات إعلامية تمكّننا من التعبير عن رأينا وإيصال صوتنا وموقفنا السياسي إلى المجتمع الإسرائيلي والعالم. الإعلام العبري منذ بداية الحرب تحوّل إلى بوق إعلامي للناطق بلسان الجيش الإسرائيلي. منذ بداية الحرب تحوّلت الأستوديوهات في قنوات التلفزيون الإسرائيلية إلى جبهة تحريض مفتوحة ومسعورة تدعو إلى المزيد من القتل والدمار والانتقام بشكل يومي، وهمّشت وسائل الإعلام هذه أي صوت ينادي بوقف الحرب ولديه أي موقف إنساني أو يدعو إلى حلّ سياسي وليس إلى حلّ عسكري. ولأنّ المجتمع الإسرائيلي يستهلك فقط الإعلام العبري، وجدنا أنفسنا خارج أي دائرة تأثير أو حوار أو نقاش مع المجتمع الإسرائيلي من خلال الإعلام. أمّا الإعلام الأجنبي، فهمَّشنا بطرق مختلفة، حيث أنّنا لم نحظ ولا حتى بجزء من حقّنا في مساحات عبر الشاشات للقنوات الإخبارية أو الصحف المهمة أو المواقع المؤثرة في الرأي العام الدولي، مما يؤكد على وجوب بناء مؤسساتنا الإعلامية المستقلة والعمل بشكل كبير على الوصول للرأي العام الإسرائيلي والعالمي بهدف التأثير عليه وإيصال صوتنا ورسائلنا ومواقفنا.
الاستنتاج الرابع الذي يمكن أن نؤكّد عليه هو أهميّة بناء قيادة وطنيّة موحدة للفلسطينيين في الداخل، قادرة على تمثيلهم وحمل قضاياهُم على المستوى الوطني والإقليمي والدولي. منذ بداية الحرب، لمسنا بشكل واضح عدم قدرة لجنة المتابعة العليا في مبناها ووضعها الحالي على القيام بدورها في قيادة مجتمعنا وحمايته في مثل هذه الظروف. دون شكّ أننا مجتمع كبير، أكثر من 1.7 مليون إنسان، ولدينا خلافات كثيرة فيما بيننا حول أمور عديدة. ولكننا بحاجة إلى بناء توافق حول ثوابتنا الوطنيّة وما يوحّدنا كأقلية قوميّة في وطننا وكجزء لا يتجزّأ من الشعب العربي الفلسطيني. وبناءً على هذا التوافق، علينا أن نطرح بقوّة من جديد، أهميّة الانتخاب المباشر للجنة المتابعة العليا وتطوير دورها ومأسستها.
الاستنتاج الخامس والأخير الذي أوّد التحدث عنه في هذه المقالة هو أهميّة تدويل قضية الفلسطينيين في الداخل. من أجل النجاح في هذه المهمة علينا بناء جمعيات ومؤسسات تختصّ بالعمل الدولي وقادرة على تمثيل مجتمعنا أمام الهيئات الدولية الهامّة كالأمم المتحدة أو الاتحاد الأوروبي أو دول عينيّة مهتمة وفاعلة في القضية الفلسطينية والشرق الأوسط. التجربة أثبتت أن قدرتنا على التأثير المباشر على الحكومة الإسرائيلية أو المجتمع الإسرائيلي تكاد تكون معدومة، ولذلك علينا التفكير بأدوات ضغط خارجية قادرة على أن تكون فاعلة بشكل أكبر وأكثر نجاعة على الحكومة والمجتمع الإسرائيلي. الكمّ الكبير من الدول والمؤسسات الدولية الفاعلة والمهتمة بالقضية الفلسطينية والعالم العربي يفتح أمامنا أفقًا كبيرًا لتطوير عملنا السياسي وقدرتنا على التأثير بشكل أكبر. هذا الجهد أيضًا يحتاج إلى بناء كوادر مختصّة ومهنيّة قادرة على حمل قضايانا وإيصال صوتنا للساحة الدولية.
أخيرًا، حرب الإبادة ما زالت مستمرة، والطوفان أيضًا ما زال مستمرًا ويصعّب الوصول إلى صورة واضحة واستنتاجات قاطعة بالنسبة لدوره وتأثيره وتبعاته على القضية الفلسطينية والمنطقة. مع ذلك، هناك بعض الاستنتاجات توصّلنا إليها من خلال عملنا السياسي ومتابعتنا لتأثيرات هذه الحرب على الداخل الفلسطيني. طبعًا، كل واحد من هذه الاستنتاجات بحاجة إلى المزيد من الدراسة وبناء برامج عمل وخطط لكي نستطيع التقدّم إلى الأمام في قضايا شعبنا في الداخل. غير أن ما يجمع كل هذه الاستنتاجات خيط واضح وهو أهميّة التنظيم كأقليّة قومية والبناء على العمل الجماعي والنجاحات الجماعية. لدى أبناء شعبنا في الداخل نجاحات فرديّة كثيرة وهامّة، ولكن قصّرنا كقيادة في تنظيم هذه النجاحات الفردية وتحويلها إلى نجاح جماعي يمكّننا من النهوض كمجتمع قوي ومتماسك وقادر على التأثير والإنجاز محليًا، إقليميًا ودوليًا، واعتقادي الراسخ هو أن هذه المهمات هي التي باتت ماثلة أمامنا الآن بعد انقضاء هذا العام وأكثر من ذي قبل.
*رئيس حزب التجمع الوطني الديمقراطي
المصدر: عرب 48