Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار الشرق الأوسط

“الأقليّات”: من ينتج خطابها؟

يحجّ وزراء خارجيّة بعض الدول الأوروبّيّة إلى العاصمة السوريّة دمشق في الأيّام الأخيرة، من أجل لقاء سورية الجديدة، بتصوّر قديم وصلف محمول بأجندة وصائيّة – استعماريّة مختلفة، منها ما هو متّصل بسؤال “الأقلّيّات” وحقوقهم. ليس في الأمر خبرًا، فمنذ أن قرّر الأوروبّيّون التمادي على المنطقة والتغلغل فيها مع ضعف العثمانيّين في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، كان خطاب “الأقلّيّات” والتذرّع ب”حمايتهم” هو أحد أوسع ممرّاتهم إلينا.

وقتها، كان خطاب “الأقلّيّات” بوصفه تسييسًا للجماعة الدينيّة صناعة بتوقيع أوروبّيّ – استعماريّ لفكرة “الأقلّيّة” أكثر منه قراءة لمعطى تنوّع المكوّن الاجتماعيّ العربيّ – المشرقيّ. وقد اشتغل منطق “الأقلّيّة” في حينه بأفق فئة محدّدة من العرب الّذين يدينون بالمسيحيّة، باعتبارهم “أقلّيّة” مكوّنة من جملة “مذاهب أقلاويّة داخل الأقلّيّة نفسها”، فتنطع الروس مقترحين أنفسهم حماة للمسيحيّين الأرثوذكس، بينما قدّمت فرنسا نفسها وصيّة على حقوق الكاثوليك. وعلى قلّة اتّباع المذهب البروتستانتيّ بين مسيحيّي المشرق، تدخّلت بريطانيا كحامية لهم ولليهود التاريخيّين معًا، في فلسطين تحديدًا. ولم يكن التدخّل لحماية أيّة أقلّيّة دينيّة يعني ضدّ أكثريّة دينيّة بالضرورة، فقد اقتحمت القوّات الفرنسيّة شواطئ المشرق لحساب الموارنة في جبل لبنان ضدّ دروز الجبل على إثر الاحتراب الطائفيّ بينهما سنة 1860.

ولاحقًا بعد انكسار الأتراك في الحرب العالميّة الأولى، ودخول فرنسا سورية، انحازت هذه الأخيرة في الصراع الّذي دار في منطقة قدموس بين العلويّين والجماعة الإسماعيليّة بالساحل السوريّ، لصالح الجماعة الإسماعيلية. ما حدا بصالح العلي الزعيم الساحليّ في جبال العلويّين وقتها، إعلان ثورته الشهيرة على الفرنسيّين سنة 1919. ولم يكن العلويّون في سورية يعرفون باسمهم الّذي نعرفهم به اليوم، فالفرنسيّون هم أوّل من أطلق عليهم منذ مطلع عشرينيّات القرن الماضي، تسمية “العلويّين”، وقبل ذلك، عرفوا بال”نصيريّة” أو “الغيبيّة”، بينما أطلق العلويّون على أنفسهم اسم “بني غسّان” تسمية تاريخيّة – اجتماعيّة نسبة لنسبهم القبليّ الغسانيّ – العربيّ.

لم يعد خطاب “الأقلّيّات” صناعة دخيلة تذكّرنا به قوى الوصاية الأجنبيّة، لمجرّد تذكيرها بحقوقهم. بل بات خطابًا تنتجه قوى سياسيّة محلّيّة، إسلاميّة ووطنيّة إلى حدّ ما، في المنطقة العربيّة والمشرق تحديدًا، بما فيها بعض رموز “الأقلّيّات” نفسها. خصوصًا مع تصاعد الخطاب الدينيّ – الطائفيّ الّذي لا يرى بمفهوم “الأكثريّة والأقلّيّة”السياسيّة إلّا ذلك الّذي مردّه للكثرة والقلّة المذهبيّة.

يرث السوريّون اليوم تركة مسحوقة مثقلة بالخراب والدمار، خلفها نظام عائلة الأسد اسمها سورية، والفرز الدينيّ – الطائفيّ واحد من أوضح ملامح تلك التركة. ليس الشعب السوريّ طائفيًّا، لا بتكوينه ولا في تاريخه السياسيّ الحديث، بل قمع السوريّين وقمعت ثورتهم منذ عام 2011 بخطاب وأدوات طائفيّة، بعد أن فعل نظام الأسد الحدود الطائفيّة – الإثنيّة للمجتمع السوريّ، ثمّ قمعه بصفته “حامي الأقلّيّات”. ممّا يفسّر لنا دور النظام البائد في بعث “الهاجس الأقلّياتي” وهذا كلّ ما تبقّى من بعثه في السنوات الأخيرة. وهو ما ترك ندوبًا على وجه سورية الجديدة، إلى حدّ باتت فيه تعابير مثل: “الأقلّيّات” و”المكوّنات السوريّة” تغلب على تعبير “الشعب السوريّ” في لغة المشهد السياسيّ القائم في سورية والمنطقة عمومًا.

ليس المسيحيّون والدروز والعلويّين والإسماعيليين وغيرهم في سورية “أقلّيّات” ولا المسلمين السنّة أكثريّة بالمعنى السياسيّ، إنّما هم جميعًا سوريّون، تجمعهم الهويّة الوطنيّة السوريّة الّتي تكثّفت في سياقها الثوريّ على النظام. وإن كان عنف هذا الأخير قد طال فئة سوريّة واسعة تنتمي لمذهب بعينه على مستوى القتل والتنكيل والتهجير، وهذه حقيقة فيها توصيف لواقع طائفيّ لا يقصد اصطفافًا طائفيًّا، غير أنّ كارثيّة المرحلة قد طالت السوريّين جميعًا.

كما ينتمي السوريون جميعهم لأكثريّة عربيّة – إسلاميّة هذا لناحية سؤال الهويّة، بينما التعدّد الدينيّ المذهبيّ داخل هذه الأكثريّة يعتبر تنوّعًا، وليس دعوة للفرز السياسيّ بين أكثريّة وأقلّيّة على اعتبارات مذهبيّة – طائفيّة. فالأكثريّة والأقلّيّة في ظلّ سؤال نظام الحكم، يجب أن تكون أكثريّة سياسيّة في مقابل أقلّيّة سياسيّة، وهذا شرطه دولة تكون لجميع مواطنيها السوريّين.

أمّا عن الأكراد ومسألتهم، فهي تاريخيّة في سورية ودول الجوار، وليست طارئة في سياق الثورة السوريّة. إذ يجمع الأكراد بباقي السوريّين الانتماء الوطنيّ لسورية الوطن أوّلًا، والمواطنة في إطار الدولة إذا كانت وجهتها نحو دولة المواطنين مستقبلًا. ومن سخرية القدر، بأنّ تصنيف الأكراد جار بناء على هويّتهم العرقيّة – القوميّة ككرد، بينما غير الأكراد في سورية والعراق كذلك، اعتبروا وما زالوا “طوائف ومذاهب وملل”، وذلك في محاولة لنزع الصفة العربيّة – الإسلاميّة كهويّة جامعة للعرب عنهم، وجعلهم طوائف متناحرة.

ليس التطييف نقيضًا للهويّة الوطنيّة وللعروبة، إنّما للإسلام كدين كذلك. وإذا ما طغت النبرة الطائفيّة على الخطاب والمشهد السياسيّين في سورية تحت عنوان “الأقلّيّات”، فهي الطغيان البديل عن الأوّل، الّذي سيقود حتمًا إلى التفتيت، أيًّا يكن شكل هذا التفتيت، تقسيم في أسوأ الأحوال أو محاصصة في أحسنه. وما أحوج السوريّين لوحدتهم الوطنيّة.

لدى الصهيونيّة تصوّر عن المنطقة قائم منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، لا يرى بها إلّا جغرافيّة متقلّبة، مكوّنة من فرق وقبائل وملل متنازعة فيما بينها. ولا ترغب إسرائيل اليوم بسورية موحّدة، ولا تريد دول كبيرة في جوارها، إنّما دويلات على اعتبارات دينيّة وطائفيّة، بما يؤمن وجودها ليس أمنيًّا فحسب، إنّما على مستوى شرعيّتها كدولة يهوديّة في محيط من دويلات طائفيّة التكوين والتشكيل.

لا يكترث الأوروبّيّون لما يعتبرونه “أقلّيّات” في بلادنا العربيّة – الإسلاميّة، لأنّهم يدركون بأن ليس هناك إلّا أقلّيّة واحدة يحبّ الاكتراث لها، هي الدولة اليهوديّة.


المصدر: عرب 48

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *