الإعلام الإسرائيلي بعد السابع من أكتوبر: بين خطاب التعبئة والتضليل

لطالما كان الإعلام الإسرائيلي أداةً استراتيجيّة بيد المؤسّسة السياسيّة والأمنيّة الإسرائيليّة، حيث لم يقتصر دوره على نقل الأحداث، بل شكّل أداةً لتوجيه الرأي العام وصياغة الروايات الرسميّة بما يخدم أجندات الدولة؛ فمنذ نشأة إسرائيل ارتبط الإعلام ارتباطًا وثيقًا بالمؤسّسة الحاكمة، ليصبح جزءًا من منظومة التعبئة، سواء فيما يتعلّق بالصراع مع الفلسطينيّين، أو بتشكيل السرديّة الإسرائيليّة على أسسٍ تخدم سياسات الاحتلال، مع اختلافاتٍ في النبرة والأولويّات وفقا للجهات التي تملك أو تموّل هذه الوسائل، فكما يشير الصحافي الإسرائيليّ ألون بن دافيد، فإن "الإعلام في إسرائيل لم يكن يومًا مجرّد ناقلٍ للخبر، بل شريكًا في صنعه وتوجيهه"، وهو ما برز بوضوحٍ خلال الأزمات الكبرى.
ومع اندلاع معركة السابع من أكتوبر 2023، واجه الإعلام الإسرائيلي واحدةً من أشدّ أزماته إرباكًا، فقد وجد نفسه أمام معضلتين متداخلتين: أولاهما، التعامل مع الصدمة الداخليّة لمجتمعٍ وُضِع بغتةً أمام هشاشة منظومته الأمنيّة؛ وثانيهما، محاولته تبرير الجرائم التي ارتكبها جيشه في قطاع غزّة أمام الرأي العام الدوليّ، وسط مشهد إعلاميّ عالميّ لم يعد يصدّق بالكامل السرديّة الإسرائيليّة كما في العقود السابقة، الأمر الذي أبرز محاولات التضليل والتشويه، خاصّة عندما تتعارض مع واقع الأحداث، فتُفَرَّغ بذلك الرسالة الإعلامية من مضامينها الحقيقيّة، إذ تحوّلت التغطية إلى واجهة شكلية تُكرّر خطابًا مكرّسًا يحوّل الإعلام من أداة نقدٍ وتنويرٍ إلى وسيلةٍ تكرّس السرديّة الرسميّة وتعيد إنتاجها من دون مساءلة؛ ممّا يعيد إلى الأذهان مقولة الكاتب الفرنسيّ رومان رولان "إنّ أخطر الأكاذيب، هي تلك التي تكرّرها حتى تصير حقيقة في وعي الجماهير".
يهدف هذا المقال، إلى تقديم تحليلٍ لتوجّهات الإعلام الإسرائيلي وكيفيّة تعامله مع أحداث السابع من أكتوبر، في سياق خدمته لأجندات الاحتلال الإسرائيليّ، بالإضافة إلى استعراض دوره في إدارة الصراع، والأدوات التي يستخدمها في صياغة سرديّته، ومدى تأثيرها على الرأي العام المحلّي والإقليميّ والدوليّ.
الإعلام الإسرائيلي وفق توجّهاته الأيديولوجيّة والسياسيّة
يتوزّع الإعلام الإسرائيلي بين عدّة تيّارات سياسيّة وأيديولوجيّة، نأتي على تصنيفها ضمن ثلاث فئات رئيسيّة كالآتي:
الإعلام اليمينيّ إذ يُمثّل هذا التيّار الإعلاميّ الواجهة الإعلاميّة للأحزاب اليمينيّة الإسرائيليّة، مثل حزب الليكود وأحزاب الصهيونيّة الدينيّة، والذي يتبنّى خطابًا قوميًّا متشدّدًا، يركّز على تعزيز الهويّة القوميّة اليهوديّة، وتبرير سياسات الاستيطان، وشيطنة الفلسطيني، ومن أبرز وسائله:
– صحيفة يسرائيل هيوم: صحيفة يومية تعتبر الذراع الإعلاميّ غير الرسميّ لليمين الإسرائيليّ، وعُرفت في السابق بولائها لرئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ومموّلة من قِبَلِ رجل الأعمال اليهوديّ الأميركي شيلدون أديلسون وعائلته الداعمة لسياسات اليمين، وتتبنّى هذه الصحيفة خطابًا تحريريًّاً يركّز على الإنجازات الحكوميّة لليمين، مع انتقادٍ حادٍ للأحزاب اليساريّة.
– ماكور ريشون: هي صحيفة أسبوعية يمينيّة استيطانية تستهدف تيار الصهيونية الدينية وتملكها عائلة إدلسون المالكة لصحيفة يسرائيل هيوم أيضا ، وتؤيّد الاستيطان، وتركّز على قضايا الهويّة اليهوديّة والدين والسياسة.
– القناة 14: تُعدّ منبرًا إعلاميًّا لليمين المتطرّف ومؤيدة لنتنياهو، وتقدّم تغطية مؤيّدة للاستيطان، وتعارض أيّ تنازلات للفلسطينيّين، كما تستضيف محلّلين من أوساط المستوطنين لتعزيز خطاب القوّة العسكريّة. يملكها الملياردير الروسي – الإسرائيلي الحريدي اليميني يتسحاق ميرلشفيلي.
– i24 News تُعتبر القناة عمومًا ذات توجّه يمينيّ، حيث تُقدّم تغطية إخباريّة على مدار الساعة باللغات: الإنجليزية، الفرنسية، والعربية، ومؤخّرًا بدأت البث بالعبرية أيضًا، تُظهر القناة دعمًا للمواقف والسياسات الرسميّة الإسرائيليّة، إذ تميل إلى تبنّي مواقف مؤيّدة للحكومة الإسرائيليّة، خاصّة خلال فترات حكم نتنياهو. أسسها ويملكها الملياردير الفرنسي اليهودي باتريك دهاري.
– قناة 7 (ערוץ 7): إذاعة وموقع إخباري يميني ديني، تمثّل صوت المستوطنين في الضفّة الغربيّة، وتعارض أي تنازلات للفلسطينيّين، وتؤيّد سياسات التوسّع الاستيطانيّ.
– موقع 0404 الإخباريّ: يتميّز بمواقفه المؤيّدة للجيش الإسرائيليّ والمستوطنين، ويُعرف بنشر الأخبار من وجهة نظر أمنيّة إسرائيليّة بحتة.
الإعلام الوسطيّ
تميل وسائل الإعلام في هذه الفئة إلى اتّباع نهجٍ براغماتيّ، حيث تُوازن بين الخطّ الرسميّ للدّولة وبين تقديم مساحة للنقاشات المختلفة، وتركّز على القضايا الداخليّة أكثر من القضايا الأيديولوجيّة، لكنّها تتماشى عمومًا مع الخطّ الرسميّ في الأزمات الأمنيّة، ويصنّف بعضها كإعلام وسطيّ يميل إلى اليمين في كثير من الأحيان، وأبرزها:
– يديعوت أحرونوت: تعتبر واحدة من الصحف اليومية الأكثر مبيعًا وتأثيرًا في إسرائيل، حيث تجمع بين التغطية الإخباريّة العامّة والمقالات التي تتراوح بين النقد والدفاع عن الحكومة، كما تُصنّف على أنّها وسطيّة تميل إلى اليمين أحيانًا، بدعمها للخطاب الأمنيّ والعسكريّ الإسرائيليّ.
– معاريف: صحيفة يومية ذات توجّه وسطيّ يميل إلى اليمين، لتبنّيها مواقف قريبة من المركز السياسيّ، وميول طفيفة لصالح التيّار اليمينيّ في القضايا الأمنيّة.
– القناة 12 والقناة 13: قناتان وسطيّتان تقدّمان برامج إخباريّة وترفيهية متنوّعة، وغالبًا ما تلتزمان بالخطّ العام للدولة في القضايا الأمنيّة، مع استضافة أصواتٍ من مختلف التيّارات السياسيّة.
الإعلام الليبراليّ
يركّز الإعلام اليساريّ الليبراليّ في إسرائيل على قضايا حقوق الإنسان، وانتقاد السياسات الحكوميّة، وتسليط الضوء على الانتهاكات ضدّ الفلسطينيّين، لكنّه يظلّ محصورًا في دوائر نخبويّة دون تأثيرٍ واسعٍ على الجمهور الإسرائيليّ. ومن أبرز وسائل الإعلام في هذا التيّار:
– صحيفة هآرتس (הארץ): الصحيفة اليومية الوحيدة التي تتبنّى خطابًا نقديًا واضحًا تجاه الاحتلال الإسرائيليّ، حيث تنشر تقارير استقصائيّة حول الجيش والمستوطنات، لكنّها تواجه انتقادات شديدة من اليمين.
– "سيحاه مكوميت": موقع صحافي مستقل ذو توجه يساريّ، يُركّز على القضايا الاجتماعيّة والسياسيّة، وينشر تقارير تنتقد السياسات الحكوميّة الإسرائيليّة، مع تسليط الضوء على معاناة الفلسطينيّين.
يتجلّى تأثير التوجّهات الأيديولوجيّة بوضوحٍ في تغطية فئات الإعلام الإسرائيلي لأحداث السابع من أكتوبر، حيث سعت بعض الوسائل الليبراليّة، مثل "هآرتس" و"سيحاه مكوميت" إلى تقديم رؤية نقديّة مغايرةٍ للسرديّة الرسميّة، إلّا أنّها سرعان ما واجهت حملات ضغطٍ وتشويهٍ مكثّفةٍ من قِبَل الأوساط اليمينيّة؛ في المقابل تبنّت وسائل الإعلام اليمينيّة مثل "يسرائيل هيوم" والقناة 14 الرواية الرسميّة، مكرِّسَةً خطابًا يركّز على حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها، مع تقليل التركيز على الضحايا الفلسطينيّين.
في نهاية المطاف، انخرطت معظم وسائل الإعلام الإسرائيلية، بمختلف توجّهاتها، في إعادة إنتاج الخطاب الرسميّ، ليس فقط كاستجابةٍ للضغوط، بل أيضًا كجزءٍ من دورها في تعزيز وحدة الجبهة الداخليّة، حيث عملت كأداةٍ داعمة لعسكرة المجتمع، مبرّرةً السياسات العسكريّة، وموجّهةً للرأي العام، ومعزّزةً السرديّة الإسرائيليّة على المستوى الدوليّ، في مواجهة الانتقادات المتزايدة. ومن هذا المنظور، يمكن فهم كيف تعامل الإعلام الإسرائيلي مع حالة الصدمة والارتباك التي فرضها هذا الحدث غير المسبوق، وتَحَوُّلِهِ إلى ذراعٍ تعبويّ يسعى إلى استعادة السيطرة على السرديّة الوطنيّة والإعلاميّة.
السابع من أكتوبر – الإعلام الإسرائيلي بين الصدمة والارتباك
عند الساعة السابعة صباحًا من يوم السابع من أكتوبر، وجدت إسرائيل نفسها في حالة انهيارٍ أمنيّ غير مسبوقٍ، فكان وقع الحدث كارثيًّا على المستوى الأمنيّ والعسكريّ الإسرائيليّ، والإعلاميّ أيضًا، إذ سادت حالة من الفوضى التي تجلّت في غياب المعلومة الميدانيّة الدقيقة في الساعات الأولى للحدث، وكشف غياب التنسيق بين الجيش ووسائل الإعلام عن ضعف إدارة المعلومات، ما أدّى إلى نشر أخبارٍ متضاربة وغير دقيقةٍ حول الهجوم وأعداد القتلى والأسرى؛ ولأوّل مرّة، لم يتمكّن الإعلام الإسرائيلي من التحكّم بسرديّته، حيث سارعت وسائل إعلام فلسطينية وعربية إلى نشر بيانات فصائل المقاومة الفلسطينية قبل أن تَصْدُرَ أيّ بيانات إسرائيليّة رسميّة، ممّا سرّع في الانتقال إلى مرحلة التعبئة والحشد الإعلاميّ، كما سارع الإعلام الإسرائيلي إلى نقل ثِقَلِ المشهد من "الهزيمة العسكرية" إلى خطاب وتفاصيل "المجزرة التي قامت بها المقاومة ضدّ المدنيّين" وفق سرديّته، في محاولةٍ لحفظ ماء الوجه واستعادة السيطرة على الرأي العام الداخليّ، فتناول الفلسطينيّين كمجرمين وإرهابيّين، ووصل الأمر أن وصف وزير الأمن، يؤآف غالانت، الفلسطينيين في غزة "بالحيوانات البشرية"، مع تجاهل تام للسياق السياسيّ والتاريخيّ والجغرافيّ للصّراع، إضافةً إلى فرض الرقابة العسكريّة المشدّدة، والتعتيم حول إخفاقات الجيش وحجم خسائره، وأُجْبِرَتْ وسائل الإعلام على التقيّد بالرواية الرسميّة، وعدم السماح لها بالنقد العلنيّ، إلى أن تجرّأ الإعلام الليبراليّ مثل "هآرتس" على طرح تساؤلات حول مسؤوليّة الحكومة عن الهجوم.
المتغيرات في أدوات الإعلام الإسرائيلي بعد السابع من أكتوبر
لقد اعتمد الإعلام قبل السابع من أكتوبر، على إستراتيجيّات تقليديّة في صياغة الرواية الإسرائيليّة حول الصراع، مثل التركيز على "حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها"، وتحريف الأحداث لصالحها؛ بدأ الإعلام في تبنّي أساليب جديدةٍ أكثر تطرّفًا في التعامل مع الأحداث، لينتقل من تعزيز خطاب الصدمة العاطفيّة، إلى توظيف صور الجثث والرهائن بهدف تأجيج الغضب الداخليّ والإقليميّ والدوليّ ضدّ الفلسطينيّين والمقاومة، في مقابل حجب صور المجازر التي ارتكبها الجيش الإسرائيليّ في غزّة عن الجمهور المحليّ، وتمحورت الرواية الإعلاميّة حول "الإرهاب الفلسطينيّ"، دون أيّ إشارة إلى أصول الصراع أو تداعيات الاحتلال. كما سعى الإعلام الإسرائيلي لاختراق المشهد العربيّ والدوليّ عبر منصّات ناطقةٍ بالعربيّة والإنجليزيّة، مثل "i24 News"، بهدف تشويه صورة الفلسطينيّ ومقاومته، وتبرير القصف الإسرائيليّ الوحشيّ على غزّة، كما صعّدت من الحرب النفسيّة ضدّ الفلسطينييّن ببثّ رسائل تهديدٍ لسكان غزّة، في محاولةٍ لكسر معنويّاتهم ودفعهم للانقلاب على المقاومة.
وامتدّ التحريض ليشمل الضفّة الغربيّة بهدف إثارة الفوضى ضدّ السلطة الفلسطينيّة، وصولًا إلى فلسطينيّي الداخل، حيث تعرّض كثيرون منهم للملاحقة لمجرّد إبداء تعاطفهم مع ضحايا العدوان على غزّة من الأطفال والنساء والشيوخ.
وعلى الرغم من الفشل الاستخباراتيّ والعسكريّ في منع الهجوم، حاول الإعلام الإسرائيلي إعادة بناء صورة الجيش عبر الترويج لـ "بطولاتٍ فرديّة" لجنوده، والتعتيم على إخفاقات القيادات العليا، كما ركّز على العمليّات العسكريّة اللّاحقة بوصفها جزءًا من "استعادة الكرامة"، في مسعى لحشد التأييد لاستمرار الحرب.
تأثير التغطية الإعلاميّة على الرأي العام الإسرائيليّ
أَحْدَثَ التحوّل في التغطية الإعلاميّة العبريّة بعد السابع من أكتوبر تغييرات جذريّة في المزاج العام الإسرائيليّ، إذ عزّزت الخطابات الإعلاميّة نزعة الانتقام والدعم الواسع للحرب، كما ساهمت في تصاعد العنصريّة والتحريض ضدّ الفلسطينيّين، حيث انتشرت دعواتٌ لترحيلهم أو استخدام "القوّة القصوى" ضدهم لتهجيرهم بالقوّة أو التخلّص منهم؛ ورغم محاولة الإعلام التغطية على فشل الجيش في التصدّي للهجوم، إلّا أنّه لم يتمكّن من احتواء الغضب الشعبيّ المتزايد، ما دفع صُحفًا بارزةً مثل "يديعوت أحرونوت" و"معاريف" إلى تحميل نتنياهو وسياسات حكومته المسؤولية عن الفشل بالدرجة الأولى. كما قام الإعلام بتوظيف الشخصيّات العسكريّة في التحليلات السياسية، ولَعِبَ الإعلام الرقميّ دورًا محوريًا، حيث استغل ناطقو الجيش الإسرائيليّ منصّات التواصل الاجتماعيّ للتأثير على الجمهور المحلّي اليهوديّ،ّ والإقليميّ العربيّ والدوليّ، في محاولةٍ لفرض الرواية الإسرائيليّة وتوجيه الرأي العام.
أمّا في ما يتعلّق بالفلسطينيّين، فقد أدّى الإعلام الإسرائيلي دورًا محوريًا في صياغة الرواية الإسرائيليّة حول الصراع الفلسطينيّ وتبنيه رواية الجيش، حيث لم يكتف بنقل الأحداث، بل عمل على تشكيل الوعي العام وفقًا للأجندة الإسرائيليّة والعسكرية تحديدا، باعتماده على إستراتيجيّات متعدّدة، أبرزها "شيطنة المقاومة الفلسطينيّة"، وتصويرها كمصدر تهديدٍ دائمٍ يستوجب "عمليّاتٍ استباقيّةٍ"، مما يبرّر الاعتداءات الإسرائيليّة المتكرّرة؛ كما يروّج لرواية "عدم وجود شريكٍ للسّلام"، من خلال تسليط الضوء على الانقسامات الفلسطينيّة الداخليّة، لإقناع الرأي العام الإسرائيليّ والعالميّ بعدم جدوى أيّ مفاوضاتٍ سياسيّةٍ. أي ساهم الإعلام الإسرائيلي في تبني الرؤية العسكرية للصراع مع الفلسطينيين بدلا من الرؤية السياسية، إذ تعمّد الإعلام الإسرائيلي إخفاء السياق التاريخيّ والجذور السياسيّة للصراع، ليحصر القضيّة في إطار "حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها أمام أيّ تهديدٍ خارجيّ"، متجاهلًا احتلاله المستمرّ وانتهاكاته الممنهجة بحقّ الفلسطينيّين.
الإعلام الإسرائيلي في مواجهة المجتمع الدوليّ
على الرّغم من هيمنته على الرأي العام الإسرائيليّ، واجه الإعلام العبريّ تحدّيًا كبيرًا في إقناع المجتمع الدوليّ بسرديّته، فتعرّض لانتقاداتٍ بسبب ازدواجيّة معاييره، وتمّ رصد التناقض في تغطية القنوات الإسرائيلية التي تشدد وتركز على ضحايا إسرائيل، بينما تبرّر قصف المستشفيات في غزّة، إضافةً إلى محاولة فرض الرقابة على الإعلام الغربيّ من خلال منصّات إعلاميّةٍ ناطقةٍ بلغاتٍ مختلفةٍ لنقل روايتها إلى العالم، كموقع " تايمز أوف إسرائيل" (The Times of Israel)، مُستهدِفًا الناطقين باللغة الإنجليزيّة في الغرب، وقناة i24 News"" التي تبث بالإنجليزية والفرنسية والعربية، والعبرية، "وجيروزاليم بوست" (The Jerusalem Post) التي تعزّز صورة إسرائيل كدولة ديمقراطيّة تواجه “الإرهاب”.كما مارست إسرائيل ضغوطها على شبكات إخبارية أجنبية مثل BBC"" و""CNN لضمان تغطيتها الإعلاميّة بما يدعم الرواية الإسرائيليّة.
ومن أجل طمس الحقائق والمشاهد المروّعة التي قام بها جيش الاحتلال في غزّة، فقد كان مشهد استهداف الصحافيّين الفلسطينيّين واغتيال العشرات منهم هو الأبرز، وسط صمتٍ دوليّ ونقابيّ ومؤسّساتيّ مريب.
ولم يكن ذلك سوى جزءا من تحوّل أوسع في المشهد الإعلاميّ الإسرائيلي، حيث تحوّل وبكلّ شراسةٍ إلى المعسكر الأكثر يمينيّةٍ وتطرفًا بعد السابع من أكتوبر، متجاوزًا دوره كأداةً إعلاميّةً، ليصبح سلاحًا دعائيًا منحازًا ومتطرّفًا للحرب، يعمل على تبرير المجازر، وقمع الأصوات الناقدة، والتحريض على تهجير وقتل الفلسطينيّين، ممّا دفع بالمجتمع الإسرائيليّ نحو مزيدٍ من الراديكاليّة.
ختاماّ، وعلى ضوء أحداث السابع من أكتوبر، يمكن القول إنّ الإعلام الإسرائيلي لم يفشل في أداء دوره التقليدي كوسيط لنقل الحدث والمعلومة وحسب، بل سقط أخلاقيًّا ومهنيا حين تحوّل من سلطة إعلامية رقابية لمجريات الأحداث، إلى ذراع تعبويّة للسياسة الرسمية، يعيد إنتاج خطاب القوة والعنف باسم "الوحدة الوطنية"، وتحوّل من فضاء للنقاش العام إلى مساحة مغلقة تعيد تدوير الرواية الرسمية، مستخدمًا أدوات التضليل والتجييش والتجريم، وفرض واقعٍ بديل يطمس إخفاقات الجهاز الأمني والسياسي، ويعيد تشكيل وعي جماهيري قائم على الخوف والانتقام والعنصرية، وهكذا، لم يكن الإعلام مجرّد انعكاس للأزمة، بل كان أحد أهم أدوات صناعتها وتكريسها، في ظلّ مشهد ينذر ليس فقط بتآكل الديموقراطية، بل بانزلاق خطير نحو الفاشيّة الإعلامية المقنّعة بخطاب "الدفاع عن النفس".
الكاتبة محاضرة في أكاديميّة القاسمي – باقة الغربيّة، باحثة تهتمّ بالشأن السياسيّ والثقافيّ الفلسطينيّ والعربيّ. تكتب في السياسة والأدب والثقافة، حاصلة على دكتوراه فلسفة التربية، وماجستير الاستشارة التربويّة، وبكالوريوس علوم الحاسوب والرياضيّات.
المصادر:
جمعية الإنترنت الإسرائيلية: “شاشات الحديد: بيانات حول استهلاك المعلومات والإعلام خلال حرب السيوف الحديدية” (عبري).
مركز أبحاث الأمن القومي (INSS): “وسائل الإعلام الإسرائيلية تجندت للحرب: استنتاجات أولية من سلوك وسائل الإعلام” (عبري).
المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات: دراسة بعنوان “حرب غزة في وسائل الإعلام في الشرق الأوسط: كيف تُنسج السرديات.
المركز الفلسطيني للدراسات الإسرائيلية (مدار).
الجزيرة نت: “اليمين ومقص الرقيب.. هكذا تدهورت حرية الصحافة الإسرائيلية بعد حرب غزة”.
وكالة الأنباء والمعلومات الفلسطينية (وفا) تقرير رقم (401) يوثق الدعوات إلى الترحيل “الترانسفير” والتحريض ضد الفلسطينيين في وسائل الإعلام الإسرائيلية.
مركز الجزيرة للدراسات: ورقة بحثية بعنوان “الحرب على غزة وهندسة الإبادة الإعلامية للجماعة الصحفية الفلسطينية”.
المصدر: عرب 48