Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار الشرق الأوسط

الاستعداد للمعركة الفاصلة

قراءات كثيرة للمواجهة الدمويّة الجارية في فلسطين ومحيطها، والّتي يعجز أيّ طرف فيها من تحقيق الانتصار الحاسم، تشي أنّ كلًّا من المقاومة الفلسطينيّة ومعها بقيّة محور المقاومة، وجزءًا من معسكر الإبادة في إسرائيل، وتحديدًا المعارضين لبنيامين نتانياهو، يريدون وقفًا لإطلاق النار، تحضيرًا للمعركة الفاصلة، الّتي وفق تصريحاتهم، تحتاج إلى سنوات من الاستعداد.

وهذا بحدّ ذاته، علاوة عن كونه سيناريو مرعبًا، فإنّه يدعونا إلى التأمّل والتفكّر في ما يعنيه، وفي مكوّنات هذا الخطاب، الّذي يتحدّث عن الثقة بالذات، أو امتلاك اليقين بالانتصار في “المعركة القادمة الحاسمة”. ويعكس هذا الكلام اعتراف الطرفين بعدم القدرة على حسم المواجهة الحاليّة لصالح أيّ من الطرفين، وهو نابع من مفاجآت واجهت الطرفين خلال المواجهة، لم تكن في حساباتهما.

ولكنّنا لسنا بصدد صراع بين طرفين متساويين، في الحقّ، بل صراع شعب يخوض نزالًا تاريخيًّا عنيدًا ضدّ مستعمر وصل إلى ذروة وحشيّته وهمجيّته، الموجّهة بايدلوجيّة اسئصاليّة، على مذبح الاحتفاظ بهيمنته وجشعه في بلد جاء إليه غازيًا.

أوّلًا، لا بدّ من القول إنّ الحرب شنيعة، وأقذر ما اخترعه الإنسان. وأنّ الرغبة في الحياة الآمنة، والمريحة، والمنتجة، روحيًّا ومادّيًّا، هي رغبة إنسانيّة طبيعيّة. وهناك شعوب استقرّت حياتها داخل دولها، بعد أن أوجدت عقدًا اجتماعيًّا ينظّم اختلافاتها، ويحول دون الاقتتال، بعد خوضها حروبًا داخليّة وخارجيّة لعقود طويلة، أودت بعشرات الملايين. ولكنّ جزءًا من هذه الشعوب، أو الأدقّ من أنظمة وحكومات الدول، الأوروبّيّة تحديدًا، واصلت إشعال الحروب في الخارج، لحساب رفاهية طبقتها المتنفّذة، والمهيمنة. وفلسطين جزء من هذا الخارج الواسع، الّذي ينظر إلى شعوبه بفوقيّة، واستعلاء، والّتي تستثنى من معايير النظام الدوليّ الّذي أوجد لخدمة الرجل الأبيض.

لا شكّ في أنّ المواجهة ستستمرّ، بين فلسطين وحلفائها من جهة، والحلف الصهيونيّ الغربيّ الإمبرياليّ من جهة أخرى، وإن بأشكال وأدوات مختلفة، أي ليس بالضرورة بشكل واحد. والسبب بسيط؛ وهو أنّ على هذه الأرض صراعًا بين حقّ وظلم. بين أمّة واقعة تحت الاستعمار تنشد التحرّر والحرّيّة، ومستعمر غاز متوحّش ينكر هذا الحقّ بصورة مطلقة.

وليس هذا السبب وحده. بل لأنّ ضحيّة الاستعمار، أو تحديدًا طلائعها غير المستسلمة، ليست سلبيّة، بل فاعلة ومتجدّدة، وتتقدّم في تفكيرها، في أدائها، في كلّ ميادين وحقول المعرفة المطلوبة لاستمرار المواجهة. وأيضًا لأنّ المستعمر، وتحديدًا من يقوده، لا يزال يكابر، وعاجز عن إدراك حجم الضرر الّذي لحق به، محلّيًّا ودوليًّا، بشريًّا، مادّيًّا، وأخلاقيًّا، وسياسيًّا.

لا شكّ أنّ الخسارة، خاصّة البشريّة منها، الّتي ألحقها المستعمر بالشعب الفلسطينيّ، مهولة، وستظلّ تبعاتها حاضرة لسنوات في حياة هذا الشعب، وستحتاج إلى عمل جبّار وخلّاق، لمداواة هذه الجروح الغائرة. وهذا بلا شكّ سيمسّ عزيمة قطاعات معيّنة من الناس، الّذين تعبوا من التشرّد والنزوح وفقدان الأحبّة وفلذات الأكباد، ولكن ستظلّ روح التمرّد كامنة، وسيكبر الجيل الّذي تتعرّض طفولته لإجرام حرب الإبادة، حاملًا معه مخزونًا هائلًا من الرغبة في الانتقام، والثأر، ولكنّه سيتحوّل إلى طاقة إيجابيّة مشبعة بالأمل بحياة عادلة للجميع. وسيعرف هذا الجيل كيف يستفيد من إنجازات الجيل السابق، والأهمّ التعلّم من أخطائه. وسيتعرّف إلى أشكال النضال الّتي تصلح في فترة ما، ولا تصلح في فترة أخرى. وأيّ منها يمكن الشعب من تحمّل تبعات النضال، وسيعرف كيف يوسّع جبهة الحلفاء، وكيف يكون جزءًا من المواجهة الكونيّة، والمعركة التحرّريّة الشعبيّة خاصّة، لصالح كرامة الإنسان، بغضّ النظر عن أصله وخلفيّته العرقيّة أو الدينيّة أو الإثنيّة.

اذًا، المستعمر أمام تحدّ حقيقيّ، وهو عاجز عن إدراك خطورة أفعاله الهمجيّة، ليس على صورته فحسب، بل على وجوده، أو على قدرته على تنفيذ الإجرام أيضًا. لا يزال هذا المستعمر يتصرّف بمزيد من الوحشيّة ودافعيّة الثأر، وعقليّة القرون الوسطى. لا يزال يتحدّث عن أنّ هدف وقف حرب الإبادة هو الاستعداد للمعركة القادمة “الفاصلة”، وهو بذلك يواصل ممارسة نفس العقليّة والأخطاء الكارثيّة الّتي جعلت فلسطين أكثر الأمكنة خطورة على من يدّعي أن يحميهم. هو، بسبب تكوينه العنصريّ والفوقيّ، لا يستطيع أن يرى أنّ شعب فلسطين وحلفاءه، مثل كلّ البشر ، قادرون على التعلّم وتطوير فكرهم، واستراتيجيّاتهم، ويعرفون كيف يستخدمون العلم العسكريّ الحديث، وكيف يصوغون خطاباتهم السياسيّة، وكيف يوسّعون تحالفاتهم. كلّ نصر أو صمود يحقّقه الفلسطينيّون والحلفاء ينسبه المستعمر لخطأ عابر عند قيادته العسكريّة، وأنّه يمكن إصلاحه أو تفاديه في المرّة القادمة ، ويجد صعوبة في الاعتراف بأنّ المقاومة، أو طلائع الأمّة، تمكّنت من مجاراته في ميادين المواجهة، المحكومة بقوانين الحرب الدوليّة. لا يستطيع أن يستوعب أنّ ما من صاحب حقّ استسلم لمستعمره. قد يدفع الضعف والتراجع، صاحب الحقّ، في مرحلة معيّنة، إلى التوصّل إلى هدنة، أو اتّفاق، ولكنّ تلك كلّها أمور مؤقّتة، وقد تعيق النضال في مراحل معيّنة، ولكنّها لا توقف المسيرة، مسيرة التحرّر.

سيخرج الشعب الفلسطينيّ من هذه المواجهة، ومن حرب الإبادة، مثخنًا بالجراح بصورة لم يسبق لها مثيل، متمثّلة بأعداد مهولة من الشهداء وضحايا الإبادة من أطفال ونساء وشيوخ. ناهيك عن الإبادة التعليميّة والصحّيّة والعمرانيّة. وسيستغرق إعادة البناء المادّيّ والتأهيل النفسيّ سنوات طويلة. وبالتأكيد ستتوقّف المقاومة، والنخب الفلسطينيّة والعربيّة، أمام هذه الخسارات الفادحة لمراجعة الحسابات الّتي وضعت قبل السابع من أكتوبر. أمّا المستعمر فإنّ خسارته البشريّة أقلّ بكثير، وكذلك حجم الدمار أقلّ بكثير. ولكنّ تقييم نتائج هذه الجولة من المواجهة لا تقاس بهذه المعطيات، بل بالمدى التاريخيّ، ولوضعيّة صاحب الحقّ مقابل المستعمر الظالم. إنّ خسارة كيان الأبرتهايد ذات طبيعة إستراتيجيّة وهي خسارة غير مسبوقة. لقد ضربت مكانته وهيبته، وسمعته في الصميم، وقد لا يستطيع استعادتها أبدًا. وذلك لعدّة أسباب، منها: قدرة قوى المقاومة على تحديث أدواتها وأدائها، وتعمّق الكراهية داخل جماهير الوطن العربيّ والدول الإسلاميّة، وثورة الوعي والمعرفة على مستوى شعوب العالم، خاصّة الغربيّ، والصدع العميق الّذي تعمّق داخل اليهود الأميركيّين والغربيّين، ونشوء جيل جديد منهم يعتبر إسرائيل كيان أبرتهايد. هذا إضافة إلى الانقسام داخل الكيان نفسه، دولة ومجتمعًا، وهو عامل يشكّل تهديدًا حقيقيًّا على الكيان.

من الصعب معرفة ما إذا كانت المواجهة الحاليّة ستتواصل بنفس الوتيرة أم ستتوسّع، ولكن يمكن التقدير، إذا تمّ التوصّل إلى وقف إطلاق نار، أن تتّخذ المواجهة شكل الصراع السياسيّ، إلى جانب النضال الشعبيّ، والّذي سيكون أحد وجهيه حراكًا فلسطينيًّا داخليًّا، لتوليد هيئة وطنيّة فلسطينيّة مؤهّلة لقيادة المرحلة القادمة، بديلة عن سلطة العار والخذلان. وأيضًا قد يشهد الوطن العربيّ، حراكات جديدة لمحاسبة أنظمة العار والخيانة، أنظمة الثورات المضادّة، الّتي انفضحت على جميع المستويات، الداخليّة، والخارجيّة، والأخلاقيّة. إنّه مسار صعب وطويل، ومؤلم ولكنّه يحمل بذور ثورة جديدة، وآمال واسعة بالتغيير، ورجاء لحياة إنسانيّة، تنهي الألم والوجع الّذي لا تتحمّله الجبال.

أمّا الوجه الآخر للحراك المرتقب، هو إمكانيّة تمدّد وترسّخ النضال الشعبيّ والمدنيّ، في إطار جبهة فلسطينيّة، عربيّة، عالميّة، يكون اليهود التقدّميّون المؤمنين بالمساواة والعدالة من بين طلائعها، حراك ونضال داخل فلسطين كلّها، وفي الساحات والمراكز الأكاديميّة والمنابر الإعلاميّة والثقافيّة العالميّة. وباعتقادي هذا ما يجب أن يحظى باهتمام الفلسطينيّين، قوى مقاومة أو نخب، وأن يبذل كلّ جهد فكريّ وعمليّ ليصبح هذا النضال الوجه الرئيس من أجل التحرّر الوطنيّ، والتحرّر الإنسانيّ، في المرحلة التالية.


المصدر: عرب 48

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *