الانتخابات التركية: التحالفات والفرز وموقف العرب
تدخل تركيا مساء اليوم السبت – الساعة السادسة بالتوقيت التركي المحلي – مرحلة الصمت الانتخابي، بعد حملة دعائية انتخابية صاخبة وُصفت بأنها الأعتى والأشرس في تاريخ انتخابات الجمهورية منذ تأسيسها، خصوصا وأن الانتخابات التي ستعقد الأحد تتزامن مع الذكرى المئوية لتأسيس الجمهورية التركية الحديثة.
وما يستوجب التنويه هو أن تركيا على الرغم من مشكلات تعقيد ملفاتها الداخلية والخارجية، التاريخية منها والراهنة، إلا إنها بلدٌ جدي فيه مؤسسات وأحزاب ومتنفس ديمقراطي، ومنافسة حقيقية على تداول السلطة رغم هيمنة حزب العدالة والتنمية – هيمنة ديمقراطية – على مقاليد الحكم فيه لأكثر من عقدين من الزمن، وهذا ما لا نألفه ولا نعرفه نحن العرب في دول المنطقة، وهذا فقط للتذكير.
تشهد تركيا الأحد انتخابات بشقيّها الرئاسي والبرلماني، وهي الثانية بعد تحول الجمهورية للنظام الرئاسي في عام 2018، وبهذه الحالة سيدلي الناخب التركي بورقتين اقتراع، للرئاسة والبرلمان. غير أن حدة وشدة التنافس وصلتا إلى الحد الاشتباك بالأيدي في بعض الولايات التركية، تحديدًا على الرئاسة، بين أكبر تحالفين متقدمين لخوض الانتخابات؛
الأول: تحالف “الجمهور” الحاكم، الذي تشكّله أحزاب العدالة والتنمية، الحركة القومية، الاتحاد الكبير، الرفاه الجديد، هدى بار، ومرشحه للرئاسة الرئيس التركي الحالي رجب طيب إردوغان.
والثاني: تحالف ” الأمة” أو ما يُعرف بتحالف “الطاولة السُداسية” لأنه يضم ستة أحزاب من المعارضة التركية بقيادة حزب الشعب الجمهوري ومعه أحزاب: الجيد القومي، السعادة، الديمقراطية والتقدم، المستقبل، الحزب الديمقراطي، ومرشحه للرئاسة هو زعيم حزب الشعب الجمهوري كمال كليتشدار أوغلو.
فيما يتقدم تحالف “أتار” (الأجداد) بمرشحه للرئاسة سنان أوغان، وحظوظه برئاسة الجمهورية ضعيفة بحسب استطلاعات الرأي التركية. مرشح رابع آخر متقدم للتنافس على رئاسة الجمهورية هو زعيم حزب “البلد” محرم إينجة، إلا أنه انسحب أول من أمس الخميس من سباق المنافسة على كرسي الرئاسة، لتبقى المنافسة محتدة ومحتدمة بين مرشحي تحالفي الجمهور والأمة.
يخوض إردوغان الانتخابات الحالية على رأس حزبه العدالة والتنمية المتربع على سدة حكم البلاد لأكثر من عقدين من الزمن منذ مطلع الألفية الحالية، وهو ما يعتبر سيف ذو حدين لناحية إمكانية فوز إردوغان وتحالفه بهذه الانتخابات. فمن ناحية يملك الرئيس الحالي جُملة من الأوراق بحكم تجربته وخبرته في حكم البلاد، فضلا عن الإنجازات والتحولات الكبرى التي صارت عليها تركيا في آخر عشرين عاما، والتي يمكن إقناع الناخب التركي بها من أجل منح الرئيس الحالي فرصة أخرى لقيادة البلاد.
من ناحية أخرى، تُهدد جملة من الملفات المتصلة بالأزمة الاقتصادية والتضخم المالي وتداعيات كارثة الزلزال الأخير في جنوبي البلاد بقاء مرشح العدالة والتنمية على رأس السلطة. وهذا ما يحاول مرشح قوى تحالف “الأمة” المعارض، كمال كليتشدار أوغلو، توظيفه بشتى الوسائل من أجل الإطاحة بإردوغان.
قد لا تُحسم الانتخابات التركية الحالية بشقها الرئاسي من الجولة الأولى مساء الأحد، بحكم صعوبة إمكانية حصول أحد المرشحين على 50% زائدا واحدا من أصوات الناخبين والذي يشترطه قانون الانتخابات التركي، فيما تُشير بعض استطلاعات الرأي إلى احتمال حسم الانتخابات الرئاسية من الجولة الأولى، خصوصا بعد انسحاب مرشح حزب “البلد” محرم إينجة من سباق التنافس على رئاسة الجمهورية.
وفيما تُشير كثير من الآراء المُستطلعة في الأسبوع الأخير إلى حظوظ أوفر لإردوغان وتحالفه بربح الانتخابات الرئاسية، بحكم قوة وتماسك قاعدته الانتخابية التي تعتمد على كتلة تصويتية ذات مسوح هوياتية – اجتماعي، مقارنة بقاعدة مرشح تحالف “الأمة – الطاولة السداسية” كمال أوغلو الأقل تماسكا. إلا أن قاعدتي زعيم حزب “البلد” محرم إينجة المنسحب، وحزب “الشعوب الديمقراطي” الذي يخوض الانتخابات البرلمانية الحالية تحت راية وقائمة “اليسار الأخضر”، وهو أكبر حزب ممثل لأكراد تركيا، قد تحوّل مسار الانتخابات وحسمها من الجولة الأولى لصالح أحد مرشحيّ التحالفين الكبيرين. فقد أشارت بعض استطلاعات الرأي إلى تعزز حظوظ وقوة مرشح تحالف “الأمة” كمال أوغلو في الأيام الأخيرة بحكم دعم قاعدة حزب “الشعوب الديمقراطي” الكردي له.
الفرز التاريخي وتناقضه الراهن
يعتبر الفرز الهوياتي – الاجتماعي أحد أبرز ملامح انقسام المجتمع السياسي التركي في كل انتخابات، خصوصا وأن في تركيا حمولة تاريخية كبيرة لثنائية العلمنة والدين في الدولة والمجتمع. ويعتبر مرشح حزب الشعب الجمهوري، كمال أوغلو – حِزبه وليس تحالفه – ممثلا للإرث الكمالي الأتاتوركي المداوم على علمنة الدولة والمجتمع التركيين، علما بأن الحزب الشعب الجمهوري يخاطب هذه المرة شرائح مختلفة من المجتمع التركي ويتقرب منها بلغة أقرب إليها، فيما يُعتبر العدالة والتنمية بقيادة إردوغان التيار الممثل لشرائح متدينة ومحافظة واسعة، مُعادية لعلمنة المجتمع وليس الدولة ومؤسساتها.
إن هذا الفرز الهوياتي كان وما زال قائما بلا شك، وقد يكون الحاسم فعلا في حسم الانتخابات الحالية لصالح أحد الطرفين. ومع ذلك، فإن شكل التحالفات الداخلية لكل تحالف من التحالفين الكبيرين المتنافسين في هذه الجولة، يبدو متناقضا مع ذلك الفرز؛ إذ يضم تحالف “الأمة – الطاولة السداسية” أحزاب وقوى إسلامية مثل حزب “المستقبل” وزعيمه أحمد داوود أوغلو، رئيس الوزراء الأسبق والمستقيل من العدالة والتنمية، وكذلك حزب “السعادة” الذي يقوده سليل الزعيم الإسلامي السابق نجم الدين أربكان، وتصطف هذه اليوم كتفا إلى كتف مع حزبا “الشعب الجمهوري” و “الجيد القومي” المتصلبان في علمانيتهما ضد حلفاء العدالة والتنمية وزعيمه إردوغان.
وقد يؤثر هذا التناقض ما بين الفرز الهوياتي التاريخي وبين شكل تحالف القوى الداخلية للتحالفين هذه المرة، على مجرى الانتخابات ونتائجها، خصوصًا عند الشريحة التركية التي ما زالت مترددة في خيارها لأي من مرشحي التحالفين تدلي بصوتها الأحد.
إن الخريطة السياسية – الانتخابية التركية في الانتخابات الحالية هي أكثر تركيبا وتعقيدا من أي محاولة لوضعها أو إخضاعها لمسطرة الفرز الهوياتي – الاجتماعي التاريخي فقط. إن الذي يجمع تحالف “الأمة – الطاولة السداسية” هو الخصومة التي وصلت حد العداء للرئيس الحالي إردوغان، وليس الأيديولوجيا ولا حتى البرنامج السياسي، بالرغم من إجماع قوى تحالف الطاولة السداسية على جملة من القضايا السياسية، أهمها: إعادة تركيا إلى النظام السياسي البرلماني.
وفي المقابل لا يُعبر تحالف “الجمهور” الذي يقوده إردوغان عن رؤية أيديولوجية واحدة، إذ يتناقض العدالة والتنمية في كثير من القضايا مع حليفه حزب “الحركة القومية” الذي يعتبر ممثلا للمبادئ القومية التي أسسها وتبناها مؤسس الجمهورية التركية، مصطفى كمال أتاتورك.
ومع ذلك، يمكننا القول إن تحالف “الجمهور” بقيادة إردوغان يبدو أكثر تماسكا سياسيا وانتخابيا رغم الفجوة الفكرية والأيديولوجية التاريخية بين أحزابه المتحالفة، مقارنةً بتحالف “الأمة – الطاولة السداسية” الذي تنعكس الفجوة الفكرية بين مكوناته على أدائه السياسي والانتخابي في الانتخابات الحالية، ما سيؤثر على شريحة لا بأس بها من الناخبين الأتراك، وخصوصًا المترددين منهم، في الوقوف غدا على باب صندوق الاقتراع والانحياز لصالح التحالف الأول بقيادة إردوغان على قاعدة “الذهاب إلى المجهول مع من نعرفه، أفضل من الذهاب إلى المجهول مع من نجهله”.
العرب والانتخابات التركية
المزاج الشعبي العربي في دول المنطقة أقل اهتماما وحماسا هذه المرة بالانتخابات التركية على أهميتها، مقارنة بأي انتخابات سابقة، خصوصا لدى الشريحة العربية – الإسلامية الواسعة والمتحمسة للزعيم والرئيس التركي الحالي إردوغان، وذلك لأسباب مختلفة، أهمها ما هو متصل بالتحولات التي طرأت على سياسات تركيا وزعيمها تجاه بعض دول المنطقة وإعادة تطبيع العلاقات مع أنظمتها بما فيها إسرائيل.
يقابل تراجع هذه الحماسة في الساحة العربية بتقديرنا، ازدياد حماسة واهتمام المهاجرين العرب في تركيا من الانتخابات الحالية فيها، وذلك إلى حد الاصطفاف فيها لصالح العدالة والتنمية وزعيمه طبعا. ومرد هذا الاهتمام لدى المهاجرين واللاجئين العرب في تركيا، تحديدًا لدى السوريين منهم، والذي وصل إلى عقد اجتماعات وفتح مقرات وإقامة مهرجانات للناخبين العرب في تركيا، مرده يعود إلى سؤال متعلق بالوجود الفعلي للعرب وبالأخص السوريين على الأراضي التركية.
يعتبر ملف المهاجرين العرب واللاجئين السوريين أحد أبرز الملفات المحركة لديناميكية الانتخابات الحالية الذي تستخدمه المعارضة التركية ومرشحها كمال أوغلو ضد الرئيس إردوغان وتحالفه؛ إذ لا تتستر الدعاية الانتخابية للمعارضة على عدائها المُعلن لوجود اللاجئين السوريين في البلاد، والذي وصل إلى حد التحريض عليهم، مستغلة بذلك التحامل التركي القومي والاجتماعي القائم أساسا منذ سنوات في تركيا ضد السوريين، وتوظيفه لصالحها بوعد الناخب التركي بتخليصه من كثافة هذا الوجود، ما دفع ويدفع بكثير من العرب والسوريين، المجنسون وحتى غير المجنسين، للانخراط في هذه الانتخابات وفي الاستقطاب السياسي والاجتماعي القائمين فيها.
في الأخير، تشهد تركيا الأحد انتخابات مصيرية غير مسبوقة في كل تاريخ الجمهورية التركية الحديثة. لا يصطف فيها الأتراك وحدهم، وإن كانت تعنيهم وحدهم انتخابيا؛ فالدول الأوروبية والغربية عموما بماكينتها الإعلامية تراقب وتجيّر لصالح المعارضة ومرشحها ضد العدالة والتنمية وزعيمها، لأسباب كلنا نعرفها. فيما ينحاز الروس وزعيمهم فلاديمير بوتين في هذه الانتخابات لصف الرئيس الحالي إردوغان، لأسباب متصلة بصراع الروس مع القوى الأوروبية والغربية في الأزمة الأوكرانية. كذلك أصدر أعضاء من هيئة علماء المسلمين بيانا يدعون فيه الشعب التركي للاصطفاف خلف العدالة والتنمية وزعيمها، فيما تراقب الأنظمة العربية ومعها إسرائيل الانتخابات التركية بحذر مجدول بمشاعر مبطنة تأمل فيها فوز المعارضة وإطاحتها بإردوغان.
على الرغم من أهمية ودور استطلاعات الرأي وتقديرات الباحثين والمراقبين للشأن التركي في الانتخابات الحالية ونتائجها، واحتمالية فوز الرئيس الحالي برئاسة الجمهورية مجددا، إلا أن لصندوق الاقتراع كلمته ومفاجآته دائما، فكما يقول مثلنا في العامية الفلسطينية “لا يعرف ما في الصندوق حتى صانعه”. وأيا كانت النتيجة والرابح فيها، فإننا أمام تركيا مختلفة عمّا كانت عليه، لناحية الشأن التركي الداخلي ودور هذا البلد في تعقيدات الملفات الخارجية في المنطقة والعالم.
المصدر: عرب 48