التكوين ترومان، واليهود الأميركيّون، وأصول الصراع العربيّ-الإسرائيليّ”
يبحث جوديس في كتابه مشكلة كبيرة في السياسة الخارجية الأميركية، وهي شبه الاستسلام لرغبات إسرائيل فيما يتعلق بالصراع العربي – الإسرائيلي، متّخذًا من فشل الرئيس الثالث والثلاثين للولايات المتحدة الأميركية ترومان في حلَّ الخلاف بين اليهود والعرب نقطةَ انطلاق
صدر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات ضمن سلسلة “ترجمان” كتاب إسرائيل: التكوين، ترومان واليهود الأميركيون وأصول الصراع العربي – الإسرائيلي (Genesis: Truman, American Jews, and the Origins of the Arab/ Israeli Conflict)، وهو من تأليف الكاتب الأميركي اليهودي جون ب. جوديس (John B. Judis)، وترجمة عامر شيخوني. يتألف الكتاب من ثلاثة أقسام، يناقش فيها الكاتب مسألة ضعف الإدارات الأميركية المتعاقبة في فرض حل للصراع العربي – الإسرائيلي على حكومات إسرائيل، وأسباب هذا الضعف، متخذًا من إدارة الرئيس هاري ترومان (Harry Truman) منطلَقًا. يقع الكتاب في 328 صفحة، شاملةً ببليوغرافيا وفهرسًا عامًّا.
ينطلق كتاب التكوين من الهجرات الصهيونية الأولى إلى فلسطين ووصول الاستيطان الروسي في تسعينيات القرن التاسع عشر وتأسيس “اتحاد الصهاينة الأميركيين” عام 1898، ثم الصهيونية الأوروبية والصهيونية الأميركية، وصولًا إلى تبلور القومية العربية الفلسطينية بالتزامن مع تسلم الرئيس ترومان الرئاسة في عام 1945، أما كاتبه، فيقول إنه لا يخط كتابه هذا انطلاقًا من يهوديته ولمصلحة اليهود، بل لاكتشافه عن قُرب، عندما عمل مراسلًا لأخبار الكونغرس، مدى خوف السياسيين الأميركيين من معارضة اللوبي الإسرائيلي القوي؛ ما أقنعه بمواقف اليهود التجديديين، الذين عارضوا فكر ثيودور هرتزل، وآمنوا بأن دور اليهود ليس تفضيل أنفسهم على شعوب أخرى، بل إضفاء نور النبوءة الأخلاقية لمصلحة جميع الشعوب، والاهتمام بحقوق عرب فلسطين كحقوق اليهود الإسرائيليين، وهي الفكرة المناقضة تمامًا لأيديولوجيا المؤسسات المؤيّدة لإسرائيل، أو الكنائس الإنجيلية.
ويبحث جوديس في كتابه مشكلة كبيرة في السياسة الخارجية الأميركية، وهي شبه الاستسلام لرغبات إسرائيل فيما يتعلق بالصراع العربي – الإسرائيلي، متّخذًا من فشل الرئيس الثالث والثلاثين للولايات المتحدة الأميركية ترومان في حلَّ الخلاف بين اليهود والعرب نقطةَ انطلاق، ومتسائلًا: هل تسبَّب هذا الفشل في فرض نمطه على خلفاء ترومان، الذين لم تكلَّل ضغوطهم للسماح بعودة اللاجئين الفلسطينيين وانسحاب إسرائيل من الضفة الغربية وإقامة دولة فلسطينية بأي نجاح؟ مُبرزًا اهتمام ترومان بالبعد الأخلاقي، المتمثل في العدالة لعرب فلسطين والتعاطف الشديد مع الناجين من الهولوكوست والسماح لأعداد منهم بالهجرة إلى فلسطين، وكيف أنه برغم ذلك خسر معاركه كلها في مواجهة الحركة الصهيونية الأميركية والوكالة اليهودية والحكومة الإسرائيلية، ولم يؤخذ برأيه في جلسة مناقشة تقسيم فلسطين في الأمم المتحدة سنة 1947؛ إذ اقترح منح الفلسطينيين حصةً من الأرض تناسب تعدادهم المتفوق، لكنه قَبِلَ بعد إنشاء إسرائيل في عام 1948 باتفاقية تمنح أصحاب الأرض 40 في المئة فقط من حصتهم المقترحة، ولا تسمح لـ 700 ألف لاجئ فلسطيني بالعودة، مع استيلاء اليهود على 80 في المئة من فلسطين.
مراحل في رحلة الفشل
يستعرض الكتاب رحلة ترومان مع هذا الفشل، التي بدأت مرحلتها الأولى حين رفض مطالب وفد المحاربين القدماء الأميركيين اليهود إنهاءَ حظر السلاح على إسرائيل، ومنحها 100 مليون دولار لتوطين اليهود الأوروبيين، ودعْم عضويتها في الأمم المتحدة، وأبدى أمام الوفد استياءَه من الصهاينة؛ لأنهم لم يسمحوا، في سنة 1946، لـ 100 ألف يهودي ناجٍ بالهجرة، وجعل فلسطين دولة فدراليةً؛ لا عربية ولا يهودية. ونتيجة لموقف ترومان، أُصيبَ أعضاء الوفد اليهودي بخيبة أطلقت شرارة ضغوط صهيونية هائلة عليه، فهو متأثر برفض الآباء المؤسسين فكرةَ الدولة الدينية، وبناء على ذلك، أُجبِرَ خلال أشهر على القبول بدولة يهودية دينية على أراضي فلسطين.
وكانت المرحلة الثانية من الفشل مع الصهاينة الأميركيين، الذين رغم مناداتهم بحقوق العمال والملوّنين، والحقوق المدنية، وحرية التعبير، والحريات المدنية، وأهمها حق الشعوب المستعمَرة في تقرير مصيرها، اتّسموا بالعمى التام عن رؤية حقوق شعب فلسطين، واقترحوا نقله إلى الأردن أو العراق أو سورية، وانتقدوا ترومان بشدة على سعيه إلى دولة يستوي فيها الطرفان، حتى وصل بهم الأمر حدَّ تصوير منْح صوت له بمنح صوت لإعادة إنشاء ألمانيا نازية.
الإشكالية الكبرى وحلولها الصعبة
يقف الكتاب أمام إشكالية عويصة فحواها: هل سيستمر طويلًا لدى الأميركيين نقص الرؤية التاريخية في معالجة الصراع بين اليهود والعرب، واستجابة إداراتهم المتعاقبة على الدوام لمطالب اللوبي اليهودي المؤيد لإسرائيل، الدولة التي تتجه أكثر فأكثر نحو اليمينية والتطرف؟ يرى المؤلف أن حل هذه الإشكالية لن يتأتّى إلّا بتمكّن رئيس أميركيّ ما، في ظل طغيان الحديث عن الهولوكوست على معظم النقاشات ومنعه إيقاف الدول الكبرى سياسات العسف الإسرائيلية تجاه الفلسطينيين، من إجبار اليهود والعرب على الوقوف أمام مسؤولياتهم في الشرق الأوسط؟
يستعرض القسم الأول “شعبان وأرض واحدة” أصول الصهيونية وما تلا نجاحها في احتلال فلسطين من بروز قومية وطنية فلسطينية، متطرقًا إلى ظروف ما قبل الاحتلال وبعده وشخصياته وأحداثه، والصراع الحامي الوطيس الذي نتج منه ولا تبدو لناره خمود بعد 77 سنة من انطلاقه.
أما القسم الثاني “تناقض الصهيونية الأميركية”، فيعرض الأصول التي بُنيت عليها الصهيونية الأميركية، وعلاقة شخصياتها المؤثرة باللوبي الصهيوني اليهودي في الولايات المتحدة.
ويبيِّن القسم الثالث “ترومان وإسرائيل” – بلسان الرئيس ترومان نفسه – المتاعب التي عاناها في العلاقة مع الصهيونية السياسية، ويستعرض المساعي الأنكلو-أميركية لفرض اتفاق بين العرب واليهود ورفض الوكالة اليهودية الاقتراحات الأميركية واتجاهها إلى إنشاء دولة يهودية على كامل أراضي فلسطين. ويعرض القسم إعادة التاريخ تجربة ترومان مع الرئيس باراك أوباما، الذي لم يفلح خلال ولايتين في كسر عناد الحكومة الإسرائيلية وحل الصراع المستعصي.
وقبل الختام، لا بد من التأكيد أن المكتبة العربية، اليوم، في حاجة ماسّة إلى كتاب التكوين، لما يكتنف أحداثَ عالمنا العربي والصراع العربي – الإسرائيلي من أحداث جسام تترجم مضمونه على أرض الواقع.
المصدر: عرب 48