الرأسماليّة ترسل أذرعها إلى العالم
لا شكّ أنّ تدخّلات البنك الدوليّ، خصوصًا في الدول النامية، أثبتت فشلها على المدى الطويل، على الرغم من تحقيق بعض النتائج قصيرة المدى…
“آرتشر دانيلز”، شركة أميركيّة ومقرّها في شيكاجو. “سينيكس هارفست ستيتس كوبيراتيف”، شركة أميركيّة ومقرّها في مينيسوتا. “جافيلون جروب”، شركة أميركيّة ومقرّها في نبراسكا. “كارغيل”، شركة أميركيّة ومقرّها في نبراسكا. “بانج المحدودة”، شركة سويسريّة مقرّها في جنيف. “لويس دريفوس”، شركة هولنديّة مقرّها في روتردام. هذه الشركات تعدّ من أكبر الشركات العالميّة الّتي تسيطر على 70% إلى 90% من تجارة الحبوب في العالم، ومن تلك الحبوب، القمح والشعير والأرزّ، بالإضافة إلى السكّر والقطن والزيوت ومنتجات زراعيّة عديدة.!
وتعدّ الصين، ولا غرابة في ذلك، المنتج الأوّل للحبوب، وخصوصًا القمح بإنتاج يقدّر بـ 134 مليون طنّ سنويًّا. تليها الهند 108 ملايين طنّ، وتأتي روسيا في المركز الثالث بـ90 مليون طنّ. ولكنّ الأخيرة تتصدّر الدول المصدّرة للحبوب، فالإنتاج لا يعني بالضرورة القدرة على التصدير، فبالرغم من أنّ الصين تعدّ المنتج الأكبر عالميًّا من القمح، إلّا أنّ صادراتها متواضعة جدًّا بالمقارنة مع دول مثل روسيا وأوكرانيا.
وتأتي الولايات المتّحدة في المركز الثالث عالميًّا من حيث إنتاج القمح، وتصنّف صاحبة الاقتصاد الأكبر عالميًّا في المركز 11 من حيث التصدير، وعلى الجانب العربيّ، تعدّ دولة مصر أكبر المنتجين وأكبر المستوردين في الوقت نفسه، إذ بلغ إنتاج مصر من القمح أكثر من 9 ملايين طنّ، ولكنّ استهلاكها يقدّر بـ 5.3 من الإنتاج العالميّ، لتأتي في المركز الثاني في قائمة الدول الأكثر استيرادًا للقمح.
الخبز: تاريخ موجز
تقول النظريّة إنّ الخبز، في شكله وبنيته البسيطة، بدأ في بلاد سومر وما بين النهرين في العام 6000 قبل الميلاد، وتقول نظريّات أخرى إنّ الفراعنة اكتشفوا، بالصدفة، الخميرة، وإنّ أحد الفراعنة وعند الانتهاء من خلط الماء مع القمح والملح انشغل بشيء آخر فترك الخليط، ولاحقًا، عندما عاد وجد أنّ كمّيّة العجينة تضاعفت، وهكذا اكتشفت البكتيريا المسؤولة عن عمليّة التخمير. عمليّة التخمير تجعل المخبوزات تتضاعف في حجمها، وتكون هشّة وأسهل للمضغ. وفي عالم الخبّازين المحترفين يقال إنّ الخبيز هي “عمل أكبر كبير بأقلّ موادّ أوّليّة”.
وتعتمد الشعوب بشكل عامّ على الخبز كغذاء أساسيّ، بمختلف أشكاله، البسيطة والمعقّدة المرتفعة الثمن، إلّا أنّه نادرًا ما ترة مائدة طعام من دون خبز. وتعدّ تركيّا الأعلى استهلاكًا للخبز في العام بكمّيّات تقدّر بـ 199كغم من الخبز سنويًّا للفرد، تليها صربيا وبلغاريا، ومن الدول العربيّة تأتي السعوديّة في المركز الأوّل تليها الجزائر ومن ثمّ تونس.
الخبز، بالطبع، هو نتيجة تطوّر الطبيعة والمكان والثقافة، ويتغيّر شكله مع اختلاف الشعوب والثقافات، ولكن في نهاية الأمر الخبز هو الخبز. قمح وملح وماء وخميرة، ولأهمّيّة الغذائيّة، كان الخبز سببًا للحروب والتقلّبات السياسيّة والثورات والتمرّد، ووالجميع يعلم القصّة المشهورة المتعلّقة بماري أنطوانيت، الملكة الفرنسيّة وزوجة الملك لويس السادس عشر، في القرن الثامن عشر، عندما ثار الفلّاحون؛ لأنّهم لم يجدوا خبزًا. الأميرة قالت ببساطة “دعهم يأكلون الكعك”. انتهى الأمر باندلاع الثورة الفرنسيّة وإنهاء الحكم الملكيّ، ومن الأسباب الرئيسيّة للثورة كان ارتفاع أسعار الخبز بشكل جنونيّ، وكان الخبز يشكّل 50% من حمية الفلّاحين في ذلك الوقت.
تاريخيًّا، يعدّ الاستقرار مرتبطًا بالخبز بشكل أساسيّ، فعند النظر في الثورة الفرنسيّة مثلًا، نجد أنّ من أهمّ أسباب ارتفاع أثمان الخبز، ومنها ثورة المصريّين في الدولة القديمة على الملك بيبي في العام 22 قبل الميلاد، وثورة المصريّين أيضًا على المستنصر باللّه لنقص الخبز وانعدام الأمان. إذًا، فالخبز من أهمّ مقوّمات استقرار الدولة، فإذا شحّ الخبز علت الأصوات، وتمرّدت للمطالبة بالرغيف.
أهمّيّة الحبوب، ومنها بشكل أساسيّ القمح لإنتاج الخبز، تبدو واضحة عند النظر إلى الأزمة الروسيّة الأوكرانيّة مثلًا، فالدولتان طرفا الصراع تعدّان من أكبر 5 مصدّري القمح والحبوب في العالم، وعليه، تعتمد دول عدّة على ذلك الناتج لإشباع حاجاتها، ومن تلك الدول مصر الّتي تستورد 50% من حاجتها من تلك البلدان.
بعد بدء الأزمة في عام 2022 ارتفعت أسعار القمح بشكل كبير، وذلك لانعدام الخدمات اللوجستيّة بسبب الحرب، ومن تلك الخدمات على سبيل المثال كان النقل، إذ إنّ أغلب الإنتاج الأوكرانيّ يتمّ تصديره عبر سفن تمرّ في البحر الأسود نحو الشرق الأوسط والعالم، وبعد سيطرة روسيا، تعثّرت عمليّات النقل.
تحسّنت الأوضاع بعد الاتّفاق الروسيّ الأوكرانيّ لنقل الحبوب في يوليو/تمّوز في إسطنبول، وتحرّكت مئات السفن الأوكرانيّة المحمّلة بالحبوب، ولكن سرعان ما انسحب الكرملين من الاتّفاقيّة، وهدّد بأنّ أيّ سفينة تقترب من ميناء أوديسا سيتمّ التعامل معها كهدف عسكريّ.
انخفضت بعد ذلك الإصدارات الأوكرانيّة إلى النصف تقريبًا، وبعد تعقّد المفاوضات لجأت أوكرانيا إلى طرق بديلة لتصدير الحبوب، لتقوم بتصدير 42 مليون طنّ في الفترة بين شباط/فبراير إلى تمّوز/ يوليو 2023 إلى 42 دولة، حسب تصريح نائب الرئيس الأوكرانيّ أوليكساندر كوبراكوف.
تدخّلات صندوق النقد الدوليّ
حسب التعريف العامّ للصندوق، فهو جهة تتشكّل من الـ 190 دولة الأعضاء، ويعمل صندوق النقد الدوليّ على تحقيق “النموّ والرخاء على أساس مستدام” لكلّ بلدانه الأعضاء. وهو يقوم بهذه المهمّة عن طريق “دعم السياسات الاقتصاديّة” الّتي “تعزّز الاستقرار الماليّ والتعاون في المجال النقديّ” والّتي تمثّل ضرورة الإنتاجيّة وخلق الوظائف والرفاهية الاقتصاديّة. والصندوق تديره بلدانه الأعضاء وهو مسؤول أمامها.
ولكنّ الكلام الإنشائيّ أحيانًا لا يطابق الواقع، فبالنظر إلى حالة الصومال مثلًا، والتدخّلات الّتي قام بها صندوق النقد الدوليّ نجد أنّه في الأعوام الّتي سبقت الحرب الصوماليّة الإثيوبيّة في نهاية السبعينات، تعرّضت الصومال لعجز ماليّ كبير في ميزان المدفوعات وارتفاع قياسيّ للتضخّم. الإنفاق العسكريّ كان السبب الأساسيّ للمعضلات الاقتصاديّة. ذلك العجز أدّى إلى اقتراض الصومال من صندوق النقد الدوليّ؛ وبالتالي السماح بتدخّلات من الصندوق من أجل “الإصلاح الاقتصاديّ”.
بدأت العمليّة بخفض قيمة العملة الصوماليّة، الشلن، إلى النصف. السبب وراء الخفض كان، حسب رأي صندوق النقد الدوليّ، هو جعل السلع الصوماليّة جذّابة أكثر للمستوردين، وبالتالي رفع التصدير. لكنّ ذلك لم يكن كافيًا، فتمّ خفض جديد للعملة بواقع النصف مرّة أخرى لتفقد العملة 75% من قيمتها. وانتهت عمليّات خفض القيمة بتعويم العملة تمامًا، ما أدّى إلى ارتفاع أسعار الأسمدة والمدخلات والأدوات الزراعيّة.
توافق ذلك مع إلغاء الحكومة برامج الدعم للقطاع الزراعي، وانتهى الأمر بتشجيع الصندوق للحكومة الصوماليّة بأنّها لن تدفع المزارعين إلى ترك الزراعات التقليديّة والاتّجاه نحو السلع “الجذّابة” مثل الخضار والفواكه، وأدّى ذلك إلى انهيار القطاع الزراعيّ في الصومال بشكل كامل. يأتي ذلك الانهيار بشكل مباشر بسبب سياسات صندوق النقد الدوليّ وإغراق السوق الصوماليّة بالدعم الأميركيّ من الحبوب في ذلك الوقت.
تحوّلت الصومال، بفضل سياسات صندوق النقد والسلع الأميركيّة الرخيصة، الّتي لا يمكن للسلع الصوماليّة منافستها، إلى بلد يرزح تحت ضغوط اقتصاديّة كبيرة تفشل في القطاع الزراعيّ، ذلك القطاع الّتي كانت تعتمد عليه الصومال قبل الحرب وتدخّلات الصندوق والحكومة الأمريكيّة، فتحوّلت من مكتفية ذاتيًّا إلى بلد يعتمد على “المعونات” الغذائيّة” بشكل أساسيّ.
القطاع الحيوانيّ وهو القطاع الحيويّ الّذي كانت تعتمد عليه الصومال بدأ بالانهيار أيضًا بسبب توصيات صندوق النقد بخصخصة قطاع الأدوية البيطريّة، وأدت خصخصة القطاع إلى انقطاع الخدمات عن المناطق الزراعيّة النائية، حتّى انهار القطاع الّذي كان يضمّ 80% من صادرات الصومال، ويعمل فيه 50% من السكّان بشكل كامل، بالإضافة إلى ذلك، تمّ إيقاف الدعم عن القطاع الصحّيّ قطّاع التعليم، والعاملون في القطاع العامّ في تلك الفترة وصل معدّل رواتبهم إلى ثلاثة دولارات فقط! فكان التدخّل من جانب الصندوق بتسريح 25% من العاملين وإلغاء الحوافز والعلاوات!
لا شكّ أنّ موضوع الغذاء، المعتمد بشكل أساسيّ على الحبوب والقمح يشكّل ركنًا أساسيًّا السيادة والاستقرار السياسيّ، وتعدّ تدخّلات صندوق النقد الدوليّ والبنك الدوليّ والولايات المتّحدة مدعاة شكّ في كثير من الدول، خاصّة الدول الأفريقيّة والآسيويّة. الصندوق الّذي يتبع سياسات إقراض مع الدول النامية تختلف عن تلك المتقدّمة، إذ يفرض الصندوق حسب آليّة استحدثت عام 1997 فرض رسوم تطبّق على الدول المدينة الّتي تقترض من الصندوق “بشكل متكرّر وكثير”.
وتتناسب الحصّة الخاصّة بالدولة مع حجمها في الاقتصاد العالميّ، مع تقييد حصّة الصين الّتي لا تزيد على 6.09% بالرغم من حجم اقتصادها، وعلى الجانب الآخر تقدّر قيمة الحصّة الأميركيّة بـ 16.5%، وتتناسب قيمة القروض مع حصّة الدولة في الصندوق، وتستحوذ على حقوق تصويت أعلى، ومن الجدير بالذكر أنّ الولايات المتّحدة تمتلك 16.5%، وبالتّالي بإمكانها إيقاف أيّ قرار، ذلك أنّ القرارات المهمّة تحتاج إلى الغالبيّة الّتي تشكّل 85%!
لا شكّ أنّ تدخّلات البنك الدوليّ، خصوصًا في الدول النامية، أثبتت فشلها على المدى الطويل، على الرغم من تحقيق بعض النتائج قصيرة المدى، وباعتبار أنّ الحبوب والقمح تشكّل صمام أمان لاستقرار الدول، فينصح خبراء بالعمل على استصلاح أراضٍ للزراعة، إذ تبلغ تلك المساحات في الوطن العربيّ 220 مليون هكتار، يستغلّ ثلثها فقط، وبما أنّ الدول العربيّة هي من أكبر مستوردي الغذاء في العالم، فإنّ ذلك يضعها أمام تحدّيات كبيرة فيما يخصّ الأمن الغذائيّ، إذ بلغت فاتورة استيراد الدول العربيّة من الغذاء ما يفوق مئة مليار دولار سنويًّا!
المصدر: عرب 48