السابع من أكتوبر وتحولات بنية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي
في كتاب صدر حديثًا عن “مركز فينيق” في غزة، تناول الباحث د. منصور أبو كريم، التطورات والتحولات التي طرأت على بنية الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر 2023. ويصف الكاتب هذا الحدث كنقطة فاصلة في تاريخ العلاقة الفلسطينية-الإسرائيلية على كافة المستويات، مع ربطها بتحولات شهدها العقد الأخير، والتي ربما قادت إلى هذا المشهد.
تغطية متواصلة على قناة موقع “عرب 48” في “تليغرام”
ويشير الكتاب إلى أن عملية السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، التي نفذتها حركة حماس، خلقت تداعيات كبيرة على مستقبل الصراع؛ إذ أدت إلى تغييرات جذرية على المستويات السياسية والأمنية والاقتصادية، وأفضت إلى واقع جيوسياسي مختلف عمَّا كان قائمًا. كما كشفت العملية عن عجز المجتمع الدولي، وعلى رأسه الولايات المتحدة، عن استثمار الحدث للوصول إلى تسوية سياسية.
ويلفت الكتاب إلى أن ملامح تحوُّلات كبيرة بدأت تظهر على بنية الصِّراع الفلسطيني-الإسرائيلي مع بروز النزعة الدينيَّة المتطرِّفة عقب صعود اليمين الدِّيني إلى سُدَّة الحكم في إسرائيل. وقد ارتبط ذلك بتولي حزب الليكود بقيادة بنيامين نتنياهو مقاليد السلطة عام 2009، وما تبعه من انزياح المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين واليمين الديني.
يرى الباحث أن ذلك أدى إلى ظهور صراع داخلي بين التيارات العلمانية والدينية في إسرائيل، مما انعكس على شكل ومضمون الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي وأسهم في تراجع فرص التسوية السياسية عبر مبدأ حل الدولتين، لصالح تعزيز النزعة الأمنية والعسكرية التي عمقت من دوامة القتل والدمار.
ويشير د. أبو كريم في الكتاب إلى أن هذه التحولات لم تكن مجرد نتيجة للواقع الإسرائيلي الداخلي، بل كانت انعكاسًا لتوجهات دولية وإقليمية أيضًا، حيث تراجعت فرص التسوية السياسية بسبب ضعف الدور الأميركي في مسار التفاوض الفلسطيني-الإسرائيلي. هذه التحولات أثرت بشكل مباشر على رؤية العالم للصراع، حيث بات المجتمع الدولي عاجزًا عن تقديم حلول جذرية.
تداعيات السابع من أكتوبر
ويرى الكتاب أن السابع من تشرين الأول/ أكتوبر مثل نقطة تحول مهمة عززت النزعة المتطرفة داخل إسرائيل، وأسهمت في زيادة حدَّة الإجرام الإسرائيلي بحق الفلسطينيين في غزة والضفة الغربية. حدث ذلك في ظل غياب أي ضغوط دولية أو إقليمية قادرة على ردع الاحتلال، سواء عبر الضغط السياسي أو الإدانات القضائية.
بالتوازي مع ذلك، تراجع أي أفق لتسوية سياسية تعتمد على مبدأ حل الدولتين، نتيجة ضعف الدور الأميركي في مسار التسوية، الذي بات يقتصر على وساطات شكلية تعزز إدارة الصراع بدلًا من حله، وصولًا إلى مرحلة الحسم التي يتبناها اليمين الديني المتطرف في إسرائيل.
ويشير الكتاب إلى أن هذه العملية كشفت عن هشاشة نظرية الأمن الإسرائيلي وأثرت على الاستقرار الداخلي لإسرائيل. لكنها في الوقت نفسه دفعت إسرائيل إلى تكثيف عملياتها العسكرية ضد الفلسطينيين، مما زاد من وتيرة القتل والدمار، خاصة في غزة.
كما أوضح الكتاب أن السابع من أكتوبر ألقى الضوء على ضعف المنظومة الدولية وعدم قدرتها على التعاطي مع الأزمة، مما ساهم في تفاقم الأوضاع.
إسرائيل وسيناريوهات إدارة الصراع
يخلص الكتاب إلى أن إسرائيل، تحت حكم اليمين الديني، تسعى إلى إنهاء فكرة التسوية مع الفلسطينيين، وفرض “تسوية أمنية” تعيد إنتاج الاحتلال عبر أشكال مختلفة، سواء من خلال الإدارات المحلية أو الإقليمية أو الدولية.
ويشير الكاتب إلى أن ما تسعى إليه إسرائيل هو منع إقامة دولة فلسطينية، ومنع وجود تمثيل فلسطيني موحد، من خلال سياسة الفصل بين الضفة الغربية وقطاع غزة. ويتم ذلك عبر اقتلاع المقاومة من جهة وشيطنة السلطة الفلسطينية من جهة أخرى، لاستباق أي جهود أميركية أو أوروبية أو عربية تهدف إلى تحديث أو تأهيل السلطة لإدارة الأراضي الفلسطينية.
ويرى الكاتب أن هذه السياسة تهدف إلى تعزيز إستراتيجيات إسرائيل التوسعية، مع الإبقاء على وضع الاحتلال عبر إدارات انتقالية طويلة الأمد. هذا النهج يعكس رغبة إسرائيل في القضاء على أي أفق سياسي للفلسطينيين، ومنعهم من تحقيق تطلعاتهم الوطنية.
لالقاء مزيد من الضوء على موضوع الكتاب أجرينا هذا الحوار مع *د. منصور أبو كريم.
“عرب 48“: الكتاب يتحدث عن تحولات في بنية الصراع سبقت السابع من أكتوبر، وليست ناتجة عنه فقط. كيف يمكن أن نربط هذه التحولات بالحدث؟
د. أبو كريم: صحيح، لقد جاء السابع من أكتوبر ليعزز هذه التحولات ويؤكد عليها ولكن هذه التحولات ظهرت تقريبا منذ عقد من الزمن، ترافقت مع صعود نتنياهو لسدة الحكم وتبني النهج القائم على التوسع الاستيطاني والقضاء على حلم الدولة الفلسطينية وخيار التسوية على أساس مبدأ حل الدولتين، من خلال العديد من الإجراءات بينها المزيد من الاستيلاء على الأرض وتوسيع رقعة الاستيطان وتهويد مدينة القدس.
هذه التحولات انعكست على بنية الصراع بحيث بدا وكأنه صراع ثقافي هوياتي، لأنه انتقل من صراع على الأرض بعد أن استطاعت إسرائيل السيطرة على 90% من الأرض الفلسطينية سواء في مناطق 48 أو في الـ67، انتقل الصراع على الموروث التاريخي للأرض، على الموروث الحضاري، على تغيير معالم الجغرافية المدنية والسياسية، تغيير أسماء الشوارع والمواقع والمدن في القدس وخارج القدس من خلال محاولة تهويد الحيز الجغرافي.
هذا مثل تغيير بنية الصراع من صراع سياسي على الأرض إلى صراع سياسي على هوية الأرض، هذا ما لمسته، لذلك فإن الدراسة لم تأت لشرح السياق التاريخي للاحتلال والاستيطان الإسرائيلي، بقدر ما حاولت توضيح أهم التحولات التي حدثت على بنية الصراع، لأن هدفي لم يكن شرح الأحداث والتفاصيل التي وقعت خلال العقود الأخيرة بقدر ما هو وضع هذه الأحداث والتفاصيل في مقاربة جديدة.
“عرب 48“: تقصد رؤية جديدة ربما يترتب عليها تغيير في الإستراتيجيات والحلول؟
د. أبو كريم: رؤية جديدة تؤكد أن الصراع لم يعد صراع سياسي على الأرض إنما صراع على هوية الأرض وموروث وحضارة هذه الأرض، لذلك رأينا كيف أن إسرائيل حاولت بكل الطرق محو وتغييب الهوية السياسية للشعب الفلسطيني، سواء من خلال “قانون القومية” أو من خلال “فكرة حسم الصراع” أو من خلال صفقة القرن التي حاول ترامب تمريرها خلال ولايته الأولى.
هذا كله كان يهدف إلى تعزيز هذه النزعة المتطرفة لإسرائيل وإلى تغييب الهوية الثقافية للمجتمع الفلسطيني، إلى تغييب الكينونة الوطنية، وفي هذا السياق يقول وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، في خطة “حسم الصراع”، إن المشكلة ليست في غياب الأمل بإيجاد تسوية أو حل وإنما المشكلة في وجود وبقاء هذا الأمل أصلا.
“عرب 48“: المعنى أنه يريد القضاء على أي أمل بحل أو تسوية مع الشعب الفلسطيني؟
د. أبو كريم: صحيح، وهو يتحدث في خطة “حسم الصراع” عن ثلاث وسائل لتحقيق هذا الغرض، إما بالقتل والمقصود عبر زيادة نزعة العسكرة الإسرائيلية في غزة والضفة الغربية، أو من خلال التهجير والترانسفير وهي خطة إسرائيلية قديمة جدا، أو من خلال مواطنة من الدرجة الثانية والثالثة تقضي بأن يبقى الفلسطيني مجرد عامل في المنظومة الاستيطانية الإسرائيلية.
تلك الخطة تجد صداها الآن في المجتمع الإسرائيلي ويجري تطبيقها بطريقة أو بأخرى، وهي تبدو الحل الوحيد لإسرائيل الدينية، هي حل للمسألة الإسرائيلية.
“عرب 48“: طبعا، الحديث لا يجري عن حلول نظرية فقط، بل يجري تطبيقه على قدم وساق في أرض الواقع، خاصة وأن المذكور (سموتريتش) في أكثر من موقع مسؤول في الحكومة الإسرائيلية، إلا أن الكتاب لم يهمل مراحل تطور الصراع الأولية…
د. أبو كريم: تناولت فكرة أن الصراع بدأ كصراع على الأرض من خلال الاستيطان الذي استطاع أن يحقق هذه الفرضية، بعدها انتقلنا في الفصل الثاني إلى تبلور الهوية الفلسطينية وكيف أنها جاءت ردا على مشروع التغييب والاستيطان ودخلت في صراع مع الذات وصراع مع الآخر لإثبات وجودها، ونجحت في إثبات وجودها من خلال الكفاح المسلح والعمل العسكري والسياسي في العديد من محطات النضال الفلسطيني.
وفي الفصل اثالث والرابع بدأت أركز على أبرز مظاهر التحول في بنية الصراع، وهو الصراع الثقافي والحضاري وكيف حاولت إسرائيل سرقة الموروث المادي واللامادي للشعب الفلسطيني والذي طاول حتى الأكلات والدبكات والأغاني الشعبية الفلسطينية.
“عرب 48“: بهذا المعنى، يمكن القول أن السابع من أكتوبر كان نتيجة لهذا الوضع وليس سببا له؟
د. أبو كريم: السابع من أكتوبر جاء في هذا السياق، سياق محاولة التصدي لحالة التغييب، إلا أنه جرى تسخيره بشكل أو بآخر لتعزيز النزعة العسكرتارية تجاه الفلسطينيين سواء في غزة أو الضفة الغربية، وقد رأينا كيف نجحت إسرائيل في التدمير بحيث تحولت غزة إلى كومة ركام.
جرى قتل أكثر من 70 ألف فلسطيني، وتدمير كامل البنية التحتية، وتدمير المعالم الثقافية والتعليمية والحضارية والجهاز الصحي، عملا بالنظرية القائلة: “ما لا يأتي بالقوة يأتي بالمزيد من القوة”، وفي الضفة الغربية أيضا زادت النزعة المتطرفة للتعامل مع الفلسطينيين سواء من قبل جيش الاحتلال أو المستوطنين، في محاولة لوأد أي محاولة للتمرد على هذه السياسة الإسرائيلية، وقد ترجم ذلك باقتحام المخيمات والمدن بطريقة وأساليب غير مسبوقة، بهدف التلويح بأن ما حدث في غزة ممكن أن يحدث في الضفة الغربية أيضا.
وتسعى إسرائيل من خلال النزعة العسكرياتية إلى إضعاف الجبهة الداخلية الفلسطينية وإلى مزيد من كي وعي الفلسطينيين بهذا الاتجاه لعدم مقاومة الاحتلال، لأن المقاومة ستجلب المزيد من الدمار والخراب على المجتمع الفلسطيني.
“عرب 48“: الكتاب أكد كذلك على الوجه الآخر للسابع من أكتوبر؟
د. أبو كريم: أكدنا أن السابع من أكتوبر وضع إسرائيل امام تحديات كبرى، تحديات الأمن والاستقرار وأصاب نظرية الأمن الإسرائيلية في مقتل، إلا أن إسرائيل استطاعت من خلال النزعة العسكرتارية أن توصل رسالة بأن القوة هي المبدأ الوحيد في التعامل مع الفلسطينيين، وأنه إذا تمرد الفلسطينيون على هذه النزعة فسيواجهون بمزيد من القوة في إطار سياسة ما لا يأتي بالقوة يأتي بمزيد من القوة.
“عرب 48“: الكتاب أشار إلى أن السابع من أكتوبر قد أعاد لأذهان الإسرائيليين أن وجودهم غير مسلم به في المنطقة؟
د. أبو كريم: قدمت بعض السيناريوهات لمستقبل الصراع وهي تتعلق بمزيد من تعقيد الصراع وتأزيمه، نتيجة هذه النزعة المتطرفة التي تسود المجتمع الإسرائيلي والنظام السياسي في إسرائيل المتمثل باليمين الصهيوني الحاكم بزعامة نتنياهو وحزب الليكود.
هذا السيناريو من المرجح أن يكون هو السائد خلال المرحلة القادمة بسبب انزياح المجتمع الإسرائيلي نحو اليمين، وما تكرس في وعي الإسرائيليين بأن القوة هي الخيار الوحيد للتعامل مع الفلسطينيين.
“عرب 48“: في الخلفية هناك اندحار لفكرة التسوية وحل الدولتين؟
د. أبو كريم: إمكانية حل الصراع يبقى سيناريو قائم ولكن يتطلب توفير بعض الفرص، منها ما يرتبط بنهوض في المجتمع الدولي والولايات المتحدة ولعب دور أكثر تأثيرا من مجرد مراقبة العلاقة الإسرائيلية الفلسطينية عن بعد، كما حدث في الفترات الماضية، إلى جانب تعزيز تماسك الجبهة الداخلية وتوحيد الصف الفلسطيني، وإعادة ترتيب البنيات الفلسطينية وأدوات المواجهة، إضافة الى إعادة ترتيب أولويات النضال وأساليبه في مواجهة هذه النزعة العسكرتارية.
السناريو الأخير وهو سيناريو البقاء واستمرار حالة إدارة الصراع وهو ينبئ بأن الصراع ما زال مقبلا على مزيد من العقود في إطار إدارة الصراع دون إنهاء ودون حل يستند إلى الشرعية الدولية، علما بأنه وفقا لهذه النزعة الإسرائيلية المتطرفة نرى أن إسرائيل ذاهبة باتجاه حسم الصراع وإنهاء الوجود السياسي الفلسطيني على أقل تقدير.
*د. منصور أحمد أبو كريم: كاتب وباحث سياسي فلسطيني مختص في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية. حاصل على درجة الدكتوراه في القانون العام والعلوم السياسية من جامعة القاضي عياض في المغرب، وماجستير في العلوم السياسية من جامعة الأزهر بغزة. نشر العديد من الدراسات والكتب والأوراق العلمية في مراكز أبحاث ومجلات علمية.
المصدر: عرب 48