الصحة النفسية ليست مسألة فردية بل مسألة سياسية
مع تركيز عملهم على البيئة الاجتماعية، يتناقض عمل الأطباء النفسيين الاجتماعيين مع مقاربتين أخرتين للصحة النفسية التي كانت بارزة في ذلك الوقت: أولاهما التحليل النفسي، الذي ركَّز على العلاج النفسي، وثانيهما والطب النفسي البيولوجي، الذي ركَّز على الأدوية والعلاجات الجسدية
ماثيو سميث | ترجمة، بتصرف: عرب 48
ربطت الأبحاث الرائدة منذ عقود بين المرض النفسي والحرمان الاقتصادي، وقد حان الوقت لأخذ نتائج تلك الأبحاث بجدية. ظهر مقال في عام 1965 بعنوان «الفقر والتغيير الاجتماعي» في مجلة العلوم الأميركية، وعرّف المقال القُرَّاءَ على مجتمع ريفي صغير في نوفا سكوشا بكندا يُطلق عليه اسم «الطريق».
يُعد مجتمع «الطريق» من أفقر المجتمعات في مقاطعته، وكان جزءًا من «دراسة مقاطعة ستيرلنغ»، وهي واحدة من أكبر وأطول دراسات علم الأوبئة النفسية التي أجريت على الإطلاق. شارك مؤلف المقال ألكسندر لايتون في تأسيس «دراسة مقاطعة ستيرلنغ» في عام 1948 مع زوجته آنذاك دوروثيا كروس لايتون من خلال تقييم سكان مجتمع «الطريق» وبعض المجتمعات الأخرى، أمِل الباحثون في الربط بين العوامل الاجتماعية والاقتصادية والصحة النفسية.
طالما احتل سكان الطريق أسفل السلم الاجتماعي. تميز مجتمعهم بالشجارات والشرب المفرط وانهيار العلاقات الزوجية وإهمال الأطفال، والسكن في منازل متدنية المستوى والتي تحتاج إلى صيانة، كما أوضحت الرسوم التوضيحية في مقال لايتون. وجدت فرقاً من علماء الاجتماع والأطباء النفسيين مثل لايتون وزوجته، الذين أصبحوا معروفين باسم الأطباء النفسيين الاجتماعيين لاحقًا، أن معدلات الأمراض النفسية كانت أعلى في المجتمعات المحرومة مثل مجتمع «الطريق». أظهرت «دراسة مقاطعة ستيرلنغ» وغيرها من الدراسات المشابهة أن الأمراض النفسية ترتبط بالفقر وعدم المساواة والعزلة الاجتماعية وتفكك المجتمع (والتي تضمنت عوامل مثل البنية التحتية المدنية المتداعية ونقص المجموعات [الاجتماعية] التي تقوي [أواصر] المجتمع معًا). كشف الناس من مجتمع «الطريق» وغيرهم من المجتمعات المماثلة في المقابلات كيف أن افتقارهم إلى الموارد المالية والوضع الاجتماعي والاقتصادي المنخفض جعلهم يشعرون بالقلق والاكتئاب واليأس. كان الفقراء، مقارنة بالميسورين، أكثر عرضةً أيضًا للإصابة بالذُهان، ووصفت لهم العلاجات الجراحية مثل العلاج بالصدمات الكهربائية، وعلاج الصدمة بالأنسولين، وحتى الجراحة القضية، بدلًا من العلاج النفسي.
مع تركيز عملهم على البيئة الاجتماعية، يتناقض عمل الأطباء النفسيين الاجتماعيين مع مقاربتين أخرتين للصحة النفسية التي كانت بارزة في ذلك الوقت: أولاهما التحليل النفسي، الذي ركَّز على العلاج النفسي، وثانيهما والطب النفسي البيولوجي، الذي ركَّز على الأدوية والعلاجات الجسدية الأخرى. ظهر الطب النفسي الاجتماعي في أميركا الشمالية خلال منتصف القرن العشرين، على أساس حركات «الصحة النفسية» و«توجيه الطفل» السابقة، والتي أكدت أيضًا على دور العوامل الاجتماعية والاقتصادية، لكنها افتقرت إلى أساس من الأدلة العلمية.
تعود أسس قصة الطب النفسي الاجتماعي المنسية، إلى حد كبير، إلى عوامل مختلفة. لم يكن هدفه تحديد أثر العوامل الاجتماعية والاقتصادية على الصحة النفسية فحسب، بل لإنتاج توصيات سياسية من شأنها أن تؤدي إلى الوقاية من الأمراض النفسية، وهنا اصطدمت أبحاث الصحة النفسية بالسياسة. برع الأطباء النفسيون الاجتماعيون في إثبات الصلة بين المشكلات الاجتماعية والاقتصادية ومشكلات الصحة النفسية، بيد أنهم لم يكونوا على قدرٍ من المسؤولية في تقديم المشورة حول ما يجب القيام به حيال نتائج أبحاثهم.
كان هذا في بعض الأحيان ناتجًا عن عدم استعداد الأطباء النفسيين الاجتماعيين لإصدار مثل هذه التصريحات السياسية. لقد أرادوا «فهم الأمر بشكل صحيح»، وهو ما حصل في «دراسة ميدتاون مانهاتن» التي فحصت الصحة النفسية في مدينة نيويورك خلال الخمسينيات، وفي حين أن ناقش كتاب «الصحة النفسية في المراكز الحضرية (1962)» منهجية المشروع في 50 صفحة، إلا أنه كتب أقل من 50 كلمة حول تداعيات ونتائج الدراسة. ورأى آخرون أنه من غير المناسب جذب الباحثين إلى المناقشات السياساتية، ناهيك عن المناقشات السياسية. تزامنت معظم أبحاث الطب النفسي الاجتماعي مع ذروة المكارثية في الولايات المتحدة، حيث إذا ظهرت أي رائحة للاشتراكية حول أي قضية، صارت عرضة للتدقيق والإدانة، وشمل ذلك أنواع السياسات الاجتماعية والاقتصادية الساعية للحدِّ من الفقر وعدم المساواة، والتي كانت ضمن النتائج التي توصل إليها الأطباء النفسيون الاجتماعيون.
وأخطأ الأطباء النفسيون في بعض الحالات الهدف ببساطة، وألقوا اللوم على الفقراء أنفسهم، وهو ما فعله لايتون حيال مجتمع «الطريق»، حيث عزا المشكلة إلى الفقراء، لا إلى الفقر. تعرض أهل «الطريق» للإهانة المتواصلة من أهالي المُجتمعات الأخرى، وافترضوا أنهم «متخلفون عقليًا». كما استخدم الباحثون العاملون على «دراسة مقاطعة ستيرلنگ» كلمات ومفردات قميئة في وصف سكان مجتمع «الطريق»، وصوروهم على أنهم قذرون ووقحون وفاسقون ومتهورون ومريبون وعدائيون. كتب الباحثون من الطبقة الوسطى والمتعلمين تعليمًا عاليًا عن هؤلاء الناس كما لو أنهم ليسوا مجرد طبقة منفصلة، بل نوعًا مختلفًا من البشر تمامًا.
عندما تمت دراسة سكان «الطريق» لأول مرة في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، تبين أنهم يعانون من مشاكل صحة نفسية أسوأ بكثير من غيرهم من سكان المقاطعة. إلا أن الوضع شهد تحسنًا ملحوظًا في أوائل الستينات.
على الرغم من أن فرص العمل الجديدة قد خففت من الفقر المزمن في المجتمع، إلا أن لايتون قلل من أهمية هذا العامل، وأشار إلى أن الناس أنفسهم قد تغيروا، وأضاف إلى أن إدخال برنامج تعليم الكبار وتوحيد مدرسة «الطريق» مع مدرسة أخرى لمجتمع أكثر ثراءً ساهم في تربية البالغين والأطفال على حدٍ سواء، ووفر لهم المهارات واللباقة، وأضافت لهم خيارات ملابس سمحت لهم للعمل في المجتمع بشكل أكثر فعالية. كانت الكرة وقتها أن هذه التطورات حولت سكان «الطريق» من أناس يتجاهلون قيمة العمل ولا يثقون بالسلطة إلى مواطنين صالحين. وأكد لايتون أن هذا هو السبب في تحسن صحتهم النفسية.
في حين أنه من المحتمل أن تكون التحسينات التعليمية قد أحدثت فرقًا، فإن قرار لايتون للتأكيد على التحسينات الظاهرية الأخرى بدلًا من أثر التحسينات الاقتصادية يُظهر كيف كان هو وغيره من الأطباء النفسيين الاجتماعيين مترددين في اقتراح (ناهيك عن المطالبة) بتغيير اجتماعي واقتصادي جذري. اقترح تفسيره أن شيئًا ما كان خطأً جوهريًا في الفقراء أنفسهم، وهو أمر تجاوز الظروف الاجتماعية والاقتصادية. تعكس وجهة نظره هنا نهج «الحرب على الفقر» الذي أعلنه الرئيس الأميركي ليندون جونسون في عام 1964، والذي تضمن خوض «حربٍ» ضد ما يسمى بثقافة الفقر. يشير هذا النوع من التفكير إلى أنه لا يمكنك فقط انتشال الفقراء من براثن الفقر من خلال منحهم المزيد من الموارد المادية، لأنهم ببساطة سيبددون كل ما ستعطيهم.
ساهمت الأبحاث النفسية الاجتماعية في التحول إلى الصحة النفسية المجتمعية. كان الضغط يتزايد بحلول الخمسينيات من القرن الماضي لنقل رعاية الصحة النفسية من مستشفيات الأمراض النفسية أو المصحات إلى مراكز الصحة النفسية المجتمعية. لم يكن القصد من هذه المراكز أن تكون مجرد عيادات علاجية فحسب، بل صورت على أنها مراكز للطب النفسي الوقائي، وأنها تساعد في القضاء على الأسباب الجذرية للأمراض النفسية، وحماية المعرضين للخطر، ومنع الانتكاس. طورت بعض مراكز الصحة النفسية المجتمعية مناهج مبتكرة تهدف إلى الوقاية من الأمراض النفسية. أحد الأمثلة البارزة على ذلك هو توظيف ما يسمى بـ «المساعدين المحلانيين» في جنوب برونكس في مدينة نيويورك خلال الستينيات، وهو ما انطوى على إدماج أفراد من المجتمع المحلي السود والفقراء، ومقدمي الرعاية النفسية الذين كانوا بالغالب بيضٌ من الطبقة الوسطى. وساعد هؤلاء «المحلانيون» في العمل مع أسر المرضى والسلطات لمعالجة مشاكل مجتمعهم الجذرية.
لكن مثل هذه التدخلات تساعد في معالجة بعض التحديات الاجتماعية الاقتصادية التي تواجه بعض أفراد المجتمع، وليس بمقدورها أن تُبقي أبواب المصانع مفتوحة، أو أن تمنع الاقتطاع من أموال نظام الرعاية الاجتماعية. كان الدافع نحو اتخاذ تدابير وقائية لتحسين الصحة النفسية معوقًا بسبب عدم رغبة أو عدم قدرة السياسيين على معالجة العوامل التي حددها الأطباء النفسيون على أنها تساهم في زيادة معدلات الأمراض النفسية. المطلوب فعلًا هو القضاء على الفقر والحد من عدم المساواة والعنصرية، وتحسين الاندماج المجتمعي.
طغى الطب النفسي البيولوجي بحلول الثمانينيات من القرن الماضي على الطب النفسي الاجتماعي، والذي أكد على التفسيرات الجينية والعصبية، وأعطى الأولوية للعلاج النفسي. ومع انتشار الأدوية، زال الاعتقاد بالحاجة إلى الإجراءات الوقائية.
أضاع الأطباء النفسيون الاجتماعيون فرصة للتعبير عن الآثار السياسية الحقيقية لأبحاثهم، أي أن التغيير الاجتماعي التدريجي مطلوب للوقاية من الأمراض النفسية. غالبًا ما قلل المؤرخون الذين درسوا الطب النفسي الاجتماعي من أهميته. وأنا أحاجّ في المقابل أننا بحاجة إلى إعادة النظر في النتائج التي توصل إليها الأطباء النفسيون الاجتماعيون، وأننا إذا أردنا منع تفشي الأوبئة النفسية اليوم، فنحن بحاجة إلى التحرك.
تحول الخبراء مرة أخرى إلى العوامل الاجتماعية في مجال الصحة النفسية في السنوات الأخيرة. جعلت الأزمة المالية في أواخر العقد الأول من القرن الحادي والعشرين وجائحة كوڨيد-19، إلى جانب عدم الرضا عن علم الأدوية النفسية، الطب النفسي الاجتماعي مرة أخرى ذا أهمية، على الرغم أننا توقفنا عن الإشارة إلى «الطب النفسي الاجتماعي» بوصفهِ حقلًا، بل بالإشارة إلى أبحاثه حول «المحددات الاجتماعية للصحة النفسية».
باحثو الصحة النفسية اليوم أقل احتمالا للاستجابة بشكل حكمي لمن يدرسونهم في أبحاثهم، إلا أنهم لا يزالون يخافون من الإشارة في كثير من الأحيان إلى الآثار السياسية لنتائج أبحاثهم. وقد يعود هذا لرغبتهم في إجراء المزيد من البحوث، ولكن لدينا بالفعل أكثر من دليل كافٍ لمعرفة أن الحرمان الاجتماعي والاقتصادي ضار بالصحة النفسية. بالإضافة إلى الدراسات الكلاسيكية، عززت الأبحاث اللاحقة، مثل تلك التي أجراها ونشرها ريتشارد ويلكينسون وكيت بيكيت، هذا الارتباط. يحتاج باحثو الصحة النفسية والأطباء والناشطون الآن إلى القيام بما فشل به الأطباء النفسيون الاجتماعيون: معالجة الفقر وعدم المساواة والعنصرية وتفكك المجتمع والعزلة الاجتماعية.
تتمثل أحد الأساليب الممكنة لحل المشكلة في إدخال مفهوم «الدخل الأساسي الموحَّد» الذي من شأنه أن ينتشل الناس من الفقر، وأن يوفر فرصًا للحراك الاجتماعي، وأن يسمح للناس بإعادة الانخراط في مجتمعاتهم. وقد وضع هذا الحل كتوصية في عدد من الأبحاث التي تحدثت عن إستراتيجيات الصحة النفسية الوقائية خلال الستينات مثل دراسة «أزمة الصحة النفسية للأطفال: تحدي السبعينيات (1969)» والذي نشرته اللجنة الأميركية المشتركة للصحة النفسية للأطفال. ووجدت الخبيرة الاقتصادية في مجال الصحة إيفلين فورجيت لاحقًا أن الصحة النفسية قد تحسنت خلال مشروع تجريبي للدخل الأساسي في مانيتوبا خلال السبعينيات. كما أشار تحليل تلوي (بعدي) حديث إلى أن برامج الدخل المضمون غالبًا ما تؤدي إلى تحسينات في الصحة النفسية. الدخل الأساسي الموحَّد ليس إلا مبادرة واحدة من بين العديد من مبادرات الصحة النفسية الوقائية، ويمكن لبعضها أن يفيد الصحة البدنية أيضًا، مثل:
• يعيد الباحثون الطبيون اليوم اكتشاف الروابط بين الغذاء والصحة النفسية. لا يمكن لسياسات دعم توفير الغذاء الصحي المنتج محليًا أن تقلل من فقر الغذاء فحسب، بل يمكنها أيضًا تحسين رفاهية الأفراد.
• خفض تكلفة التعليم ما بعد الثانوي بشكل كبير (أو إلغاء الرسوم الدراسية تمامًا)، إلى جانب الاستثمار في التعليم في المجتمعات المحرومة، يمكن أن يعزز التغير الاجتماعي ويقلل من الشعور باليأس الذي يعاني منه الكثير الشباب.
• أخيرًا، أثبتت الأبحاث أن السماح للناس، باختلاف خلفياتهم، لقضاء بعض الوقت في الطبيعة يمكن أن يحسن صحتهم النفسية. ويمكن تحقيق ذلك عن تحسين شبكات النقل العام، وتوفير الدراجات الهوائية لمن لا يستطيعون شرائها، ووضع المزيد من مسارات الدراجات في الطرق، وبناء وتوسيع الحدائق والمناطق الطبيعية في المدة وحولها.
الأولوية الحقيقية تكون في تغيير عقليتنا وطريقة تعاملنا مع القضية، أي أن علينا مواجهة سياسات الصحة النفسية مواجهة أكبر، وأكثر مما فعل الأطباء النفسيون في الماضي. وإذا لم نفكر في الصحة النفسية من الناحية السياسية، فإننا لا نفكر فيها على الإطلاق. نهايةً، لو كان جادين حول الإجراءات الوقائية للأمراض النفسية، فعلينا التفكير في الحلول السياسية أولًا وقبل كل شيء.
تُرجم المقال عن مجلّة فيزيك، للكاتب ماثيو سميث.
المصدر: عرب 48