الضفة الغربية و”حرب البناء تمهيدًا للضم”
في إطار حرب الإبادة والتهجير التي تمارسها دولة الاحتلال الإسرائيلي، والتي تهدف إلى ترسيخ السيطرة على المزيد من الأراضي الفلسطينية، كثّفت خلال الأشهر الأخيرة إجراءاتها لتضييق الخناق على قطاع البناء في محافظة سلفيت بالضفة الغربية المحتلة.
تغطية متواصلة على قناة موقع “عرب 48” في “تليغرام”
وشملت هذه الإجراءات ملاحقة عمال البناء، والاستيلاء على معدات البناء والمركبات، وتسليم أصحاب الأراضي إخطارات وقف العمل والبناء، وكل ذلك ضمن سلسلة طويلة من السياسات التعسفية التي تهدف إلى حرمان الفلسطينيين من توسعهم العمراني، وفرض واقع جديد على الأرض يعزز التوسع الاستيطاني ويعزل القرى الفلسطينية بعضها عن بعض، ويعرقل جهود البناء والتطوير.
وتتركز هذه الإجراءات بشكل كبير في بلدتي قراوة بني حسان ودير بلوط، حيث وصل عدد الإخطارات بحسب بلدية قراوة بني حسان إلى 163، منها 60 إخطارًا في عام 2023، توزعت على 121 منزلاً، و13 غرفة زراعية، و4 آبار مياه، و10 منشآت تجارية وصناعية، مسجد، ومكب نفايات، وسور، وبركس تربية مواشٍ، و3 طرق، و3 ساحات، و5 قطع أرض.
“سياسة تهدف لتعطيل تطوير البنية التحتية”
رئيس بلدية قراوة بني حسان، إبراهيم عاصي، يقول إن قوات الاحتلال “تستهدف بشكل ممنهج قطاع البناء في البلدة، وتلاحق الجرافات ومضخات الباطون بمجرد دخولها إلى البلدة، حتى لو لم تكن تعمل في مكان معين، حيث تعرض العديد من عمال البناء للمضايقات والاحتجاز، ووصل الأمر إلى اعتقالهم والاستيلاء على معداتهم، ولم يتمكنوا من إرجاعها”.
ويضيف: “في آخر حادثة، احتجزت قوات الاحتلال موظفي البلدية والعاملين في مجال البناء أثناء عملهم في إصلاح مدخل البلدة الرئيسي وتحسينه، هذا الإجراء يهدف بالدرجة الأولى إلى تعطيل عملية تطوير البنية التحتية للبلدة، بحجة البناء دون ترخيص في مناطق (ج)”.
وأوضح عاصي أن هذه الاعتداءات “تزداد وتيرتها بشكل غير مسبوق، ما يفاقم معاناة المواطنين ويعيق جهود التنمية والبناء في البلدة”.
ووفق عاصي فإن الأمر لم يتوقف عند بناء المنازل، “فقد أصبحنا غير قادرين على الوصول إلى مكب النفايات الخاص بالبلدة، أو بناء جدران استنادية أو حفر امتصاصية أو حتى شق طرق زراعية”.
وبيّن أن “هذه الإجراءات تحمل رسالة سياسية واضحة، تشير إلى رفض الاحتلال لأي جهود تنموية فلسطينية، وتعكس إصراره على تعزيز الاستيطان في المنطقة، وإحلال المستوطنين محل المواطنين الفلسطينيين”.
من جهته، تحدث أحد أصحاب الجرافات التي استولى عليها الاحتلال قائلاً: “لقد عانينا هذه الفترة كثيرًا، فمنذ عشرة أشهر والاحتلال يلاحقنا في كل مكان، ولا يجعلنا نعمل بشكل طبيعي. حتى بات يلاحقنا عندما نكون في منازلنا، كما فعل قبل نحو شهرين عندما فوجئنا بمداهمة قوات الاحتلال المنزل وتكسير المعدات وتخريبها، لقد بلغت خسائرنا حينها أكثر من 10,000 شيقل، كما استولوا على جرافة ولم يعيدوها إلينا حتى اليوم”.
وأضاف: “يراقبوننا باستخدام الطائرات المسيرة، وبمجرد خروج الجرافة من مكانها، يبدأون بملاحقتنا والتشويش على أجهزتنا الخلوية، حتى لا يتمكن أحد من تحذيرنا من وجود القوات”.
وأردف: “هذا هو مصدر رزقنا الوحيد، وقد اشترينا معدات بنصف مليون شيقل تقريبًا، ولم نتمكن من سداد أقساطها. إذ تبلغ نسبة خسارتنا شهريًا ما يزيد على 12,000 شيقل بسبب هذه الإجراءات”.
وأضاف عامل بناء آخر: “كنا نعمل على تهيئة أرض زراعية عندما فوجئنا بوصول قوات الاحتلال. لم يكن أمامنا سوى إيقاف العمل. لقد لاحقونا واستولوا على الجرافة دون مبرر واضح. هذه ليست المرة الأولى التي يحدث فيها هذا، ما يجعلنا نخشى على مصدر رزقنا”.
ونوّه: “نحن نعيش تحت تهديد دائم، في أي لحظة قد تأتي قوات الاحتلال وتصادر معداتنا أو تحتجزنا لساعات طويلة وتصادر حتى أبسط الأشياء كهواتفنا الخلوية، هذا يجعل من الصعب علينا الاستمرار في العمل، ويزيد الأعباء التي نتحملها في سبيل كسب لقمة العيش”.
في هذا السياق، يقول الناشط في مجال الاستيطان بمحافظة سلفيت، عيسى صوف: “رغم التأكيد المستمر من الهيئات والمؤسسات الدولية ذات العلاقة على عدم شرعية الاحتلال، وأن أي تغيير في طبيعة الأراضي المحتلة وجغرافيتها يعد انتهاكا للقوانين الدولية، إلا أن إسرائيل تواصل بناء المستوطنات وتطويرها بمختلف أنواعها (الصناعية، والزراعية، والسكنية)، ومؤخرًا الرعوية، إلى جانب تطوير البنية التحتية لخدمة المستوطنين، وتقديم خدمات عالية الجودة لهم أمام أنظار العالم”.
وأكد أنه “مع مرور الوقت، فإن الهدف هو ترسيخ الاحتلال والانتقال من احتلال عسكري إلى احتلال مدني مدعوم ومحمي بالاحتلال العسكري”.
وأضاف: “مع توسع الاستيطان الاستعماري في الأراضي الفلسطينية، ولدعم المستوطنين، لجأت إسرائيل إلى أساليب جديدة للسيطرة المباشرة على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي، وذلك من خلال منح المستوطنين تصاريح لإنشاء مزارعهم الخاصة وتزويدها بالبنية التحتية اللازمة من: مياه، وكهرباء وحماية مسلحة. فتجد مستوطنًا واحدًا يستولي على آلاف الدونمات لتحويلها إلى مزارع للعنب والأشجار المثمرة، بينما يُمنع الفلسطيني من زراعة شجرة واحدة في أرضه الخاصة، حتى لو كان يمتلك وثائق إثبات الملكية كافة”.
وأوضح صوف أن ما تسميها سلطات الاحتلال “الإدارة المدنية” وهي “صاحبة الولاية القانونية والذراع الإدارية للاحتلال في الضفة الغربية، تغير تصنيف الأراضي خدمةً للمستوطنين، فتحول الأراضي الزراعية إلى سكنية، والأراضي الخاصة إلى أراضي دولة، وأحيانا إلى محميات طبيعية، وذلك بهدف نزع الأراضي من الفلسطينيين بشكل قسري، وإعادة تخصيصها للمستوطنين لتثبيت وجودهم”.
ووصف هذه السياسات بأنها “تمثل تمييزًا عنصريًا واضحًا يمهد الطريق أمام تطهير عرقي صامت. فعندما تسحب الأرض من المزارع الفلسطيني، وتجبره على الانكماش والتقوقع في مساحة صغيرة جدًا، ستدفعه إما إلى العمل في مزارع المستوطنين تحت ظروف استغلالية، أو الهجرة إلى المدن، أو إلى خارج البلاد، وهذا ما يُعرف بالهجرة الطوعية التي يسعى الاحتلال إلى تعزيزها”.
وأشار صوف إلى قول المستشرق المؤثر في السياسات اليمينية الإسرائيلية، إلياهو يوسيان، إن “ما يربط محمد هنا هو الأرض التي زرع فيها شجرة الزيتون ليربط بها حماره، فإذا أخذنا منه الأرض لن يبقى له شجرة زيتون ليربط بها الحمار، وبالتالي سيترك الحمار ويغادر”.
وأضاف صوف: “هذه العبارة تلخص فلسفة الاحتلال في الاستعمار والإحلال”.
وأشار إلى أن “عملية البناء والهدم تسير في الاتجاه نفسه، إذ تُستخدم أدوات بناء المستوطنات والمنشآت اليهودية لهدم المباني والمنشآت الفلسطينية. هذه أيضًا صورة من صور التمييز العنصري، وهي خطوة نحو التطهير العرقي الحقيقي، وهو يعني منع التمدد العمراني الفلسطيني المحدود أصلاً، والذي يتم بناءً على احتياجات الزيادة الطبيعية للسكان، وإطلاق يد المستوطنين لتنفيذ مشاريع عمرانية ضخمة تخدمهم، حتى لو لم تكن هناك حاجة فورية إليها. والهدف النهائي هو الاستيلاء على المزيد من الأراضي وتهويد المنطقة بالكامل، ووسم المنطقة بالرموز اليهودية”.
وأوضح صوف أن الاحتلال “تحول إلى منظومة تعمل بشكل متكامل على فرض السيطرة المطلقة على أكبر مساحة ممكنة من الأراضي الفلسطينية في الضفة الغربية، وبعد فرض السيطرة الكاملة، سيكون من السهل إعلان ضمها، كما يحلم بذلك راسمو السياسات وواضعو الخطط في أوساط اليمين الديني العقائدي في إسرائيل، ممثلًا بالأحزاب الصهيونية الدينية والجمعيات الاستيطانية”.
من جهته، قال مدير دائرة الحشد والمناصرة في مركز القدس للمساعدة القانونية وحقوق الإنسان عبد الله حماد لـ”وفا”: “إن هذه الإجراءات التعسفية التي يمارسها الاحتلال تشمل كل محافظات الوطن، وهي جزء من سياسة العقوبات الجماعية التي تستهدف الفلسطينيين بمختلف أجيالهم، والتي تهدف بالدرجة الأولى إلى تقييد قدرتهم على الوصول إلى الخدمات الأساسية مثل: البناء، والزراعة، واستخدام مكبات النفايات وغيرها، وهي إجراءات واضحة تأتي ضمن مخطط أوسع لضم الضفة الغربية”.
وأوضح حماد أن قوات الاحتلال تلاحق بشكل مباشر كل الآليات والمعدات التي تعمل في مناطق (ج) دون الاستناد إلى أي أمر قانوني محدد، سوى أنهم يعتبرون أن البناء في هذه المناطق هو أمر غير قانوني ومخالف، رغم أنهم في الأساس لا يُصدرون تراخيص بناء للفلسطينيين، وهو حق أساسي لهم باعتبارهم أصحاب الأرض ومالكيها ويحق لهم التصرف بها، وليس من حق الاحتلال انتزاع هذه الملكية على الإطلاق”.
وأضاف: “يتبع الاحتلال سياسة المصادرة كجزء من فرض العقوبات الجماعية، من خلال الأوامر العسكرية التي تمنح القائد العسكري صلاحية مصادرة المعدات بحجة أنها تُستخدم في بناء غير مرخص يقوم بمنحها لقائد أي دورية، وبالتالي يصبح الأمر تحت تصرف جندي”.
غرامات مالية باهظة
وأشار حماد إلى أن “مركز القدس نجح في استعادة العديد من المعدات والآليات التي تم الاستيلاء عليها، لكن الاحتلال يفرض غرامات مالية باهظة قد تتراوح بين 5000 و7000 شيقل، كما يتم احتساب تكلفة تحميل هذه المعدات ونقلها إلى مواقع مخصصة كجزء من الغرامات المفروضة على المواطن، ما يعني أن المواطن يعاقب مرتين، الأولى من خلال الاستيلاء على معداته وتعطيل مصالحه، والثانية من خلال الغرامة المالية المضاعفة. بالإضافة إلى ذلك، فإن بعض هذه المعدات يحتاج إلى صيانة بسبب طول فترة الاستيلاء، وبعضها، مثل خلاطات الباطون، قد يتعرض للتلف بسبب سوء التعامل أثناء الاستيلاء عليها وخلال الاحتجاز”.
المصدر: عرب 48