الطلاق بالمجتمع العربي.. تفكيك للعائلة تغذيه السوق السوداء
أظهرت المعطيات الواردة في تقرير عمل المحاكم الشرعية في البلاد للعام 2022 حول قضايا الأحوال الشخصية وملفات الزواج والطلاق في المجتمع العربي، استقرارا في عدد الملفات التي فتحت بالمحاكم الشرعية، بيد أن نسب الطلاق لا تزال مرتفعة، علما أن إجمالي الملفات والدعاوى التي جرى تقديمها بلغ 36278 ملفا.
وأتت هذه المعطيات لتكون قريبة مع بيانات المحاكم الشرعية وتقريرها للعام 2021، إذ جرى فتح 36604 ملفات بينما بالعام 2020 وصل عدد الملفات التي فتحت بالمحاكم إلى 32005، إذ تعكس هذه المعطيات والبيانات الأزمات الاجتماعية والاقتصادية التي تعصف بالمجتمع العربي وتعمق أزمة الأحوال الشخصية.
ويظهر التقرير الذي حصل “عرب 48” نسخة عنه، أنه جرى تقديم 4265 ملف طلاق لدى جميع المحاكم الشرعية بالعام 2022، مقابلها جرى تقديم 14674 ملف زواج، أي أن نسبة حالات الطلاق مقارنة بالزواج بلغت 29% وهي نسبة قريبة من النسبة التي كانت في عام 2021 والتي استقرت على 30%. وبكل ما يخص ملفات النفقات المترتبة على الزوجة أو الأولاد فقد وصلت نسبة هذه الملفات إلى ما يعادل 16.5%، بينما كانت نسبة الملفات المتعلقة بالحضانة والوصاية 14.6%.
ووفقا للاستعراض الذي قدمته إدارة المحاكم الشرعية في البلاد في التقرير ممثلة برئيس محكمة الاستئناف الشرعية القاضي عبد الحكيم سمارة، ومدير المحاكم الشرعية القاضي إياد زحالقة، فإنه يمكن تفسير التغييرات في عدد الملفات التي فتحت بالمحاكم بعدة أسباب إحداها أن عام 2021 جرى فيه احتواء تفشي جائحة كورونا، إذ جرى تعطيل جهاز المحاكم بسبب الجائحة والإغلاق.
وحسب تقديرات إدارة المحاكم الشرعية فإن الجمهور تجنب وبسبب جائحة كورونا القيام بإجراءات أو فتح ملفات وتحريك دعاوى، وأيضا سريان قانون تسوية النزاعات الأسرية على المحاكم الشرعية، إذ كان لسريان القانون أثرا على الجمهور، إذ لا يمكن فتح الملفات بالمحاكم إلا بعد تقديم طلب تسوية نزاع وهو ما دفع البعض إلى الامتناع عن فتح ملفات وتحريك دعاوى.
تسوية النزاعات
طُبق قانون تسوية النزاعات الأسرية لدى المحاكم الشرعية منذ نهاية شهر تشرين الثاني/ نوفمبر 2022 واعتبارا من ذلك التاريخ، لا يمكن تقديم دعاوى للمحاكم الشرعية في أي مسألة تتعلق بالأزواج والمنصوص عليها في قانون تسوية النزاعات الأسرية، إلا بعد تقديم طلب تسوية نزاع أسري وإتمام الإجراءات بمعالجة هذا الطلب لدى وحدة المساعدة القضائية.
وبموجب قانون تسوية النزاعات جرى فتح 340 ملف، علمًا أن 17% من هذه الملفات فتحت في منطقة الجنوب، بينما 24.5% في منطقة القدس. في منطقة المركز التي تشمل كل من المحاكم الشرعية في الطيبة ويافا وباقة الغربية فقد جرى التعامل مع 22% من الملفات، وفي منطقة الشمال التي تشمل كل من شرعية سخنين وعكا والناصرة وحيفا، جرى التعامل مع 36% من الملفات.
حتى الآن، وفقا لما ورد في تقديرات سمارة وزحالقة في التقرير لم يتم فحص نتائج سريان مفعول قانون تسوية النزاعات، إذ لا يمكن الإشارة إلى اتجاه معين في هذا الصدد في ما يتعلق تحديدا بالمحاكم الشرعية، لأنه لم يمر سوى بضعة أشهر على سريان القانون.
وأعربت إدارة المحاكم عن أملها بأن يحظى القانون بقبول الجمهور وأن يفتح أمامهم إمكانية تسوية النزاع من خلال التفاوض بواسطة الأطراف المهنية والتوصل إلى اتفاقيات تنهي النزاع دون الحاجة إلى إجراءات قانونية.
زواج.. طلاق
وحسب البيانات، فإن العدد الأكبر من الملفات التي فتحت بالعام 2022 جرى متابعته في المحكمة الشرعية في القدس، وقد وصل إلى ما يقرب من 10 آلاف ملف (70% زواج – 30% طلاق)، أي 27% من مجمل الملفات التي تابعتها المحاكم الشرعية لعام 2022، أما في محكمة بئر السبع فقد جرى فتح أكثر من 6 آلاف ملف (78% زواج – 22% طلاق)، وفي شرعية الناصرة تم النظر في 4132 ملفا (76% زواج – 24% طلاق)، والتي تشكل 11% من مجمل الملفات.
وفُتح في المحكمة الشرعية سخنين 1791 ملفا (78% زواج – 22% طلاق)، بينما في شرعية باقة الغربية جرى فتح 365 ملف (79% زواج – 21% طلاق)، وفي شرعية الطيبة جرى النظر في 2876 ملف (68% زواج – 32% طلاق).
ولوحظ ارتفاع في عدد ملفات الطلاق التي ناقشتها المحاكم الشرعية في المدن الساحلية مقارنة بالمحاكم الشرعية في مختلف أنحاء البلاد، إذ نظرت المحكمة الشرعية في يافا في 1804 ملفات (49% زواج – 51% طلاق)، بينما المحكمة الشرعية في حيفا ناقشت 2025 ملفا (58%زواج – 38% طلاق)، فيما سجلت المحكمة الشرعية في عكا 3575 ملفا (61% زواج – 39% طلاق).
التدخلات الخارجية
وفي قراءة للتقرير واستعراض للبيانات التي وردت به، ترى المرافعة الشرعية سناء أبو عصبة وتد، في حديث لـ”عرب 48“، أن ظاهرة الطلاق بالمجتمع العربي مقلقة جدا وباتت تهدد النسيج المجتمعي ومكونات الأسرة، وخصوصا أنها باتت تتسع لدى الأزواج الشابة والعائلات التي لديها أطفال، ولا تقتصر على حالات الخطوبة وعقد القران قبيل الزواج الرسمي.
وأوضحت المرافعة الشرعية أن “انفصال الأزواج يتسبب بتفكك الأسرة التي هي النواة الأولى للبناء المجتمعي، إذ أظهرت حالات الانفصال أن الأطفال هم الضحية الأولى ويعيشون المعاناة ويدفعون الثمن، وهي أي الضحية تؤدي إلى تراكمات تنعكس تداعياتها سلبا على المجتمع الذي يعيش أزمات تعكسها آفة العنف والجريمة”.
وعزت وتد اتساع ظاهرة الطلاق إلى عدة عوامل وأسباب ولعل أبرزها هي التدخلات من قبل أفراد العائلة الموسعة لمجرد أي خلافات تطفو على السطح بالعلاقات بين الزوجين، إذ باتت هذه التدخلات الخارجية والمحاولات غير المنصفة والمنحازة إلى الزواج أو الزوجة وعدم الاستعداد لتقديم تنازلات، سببا رئيسا لتفاقم ظاهرة الطلاق للعائلات مع أولاد.
تأجيج الصراع
وتقول وتد إنه “للأسف الشديد الانحياز من قبل العائلات للزوج أو الزوجة ما هو إلا مقدمة لفتح باب الانفصال بلا رجعة، دون احتمال التجسير وطي الخلافات”.
وأشارت إلى أنه “في حالات كثيرة نرى أن العائلة تنتصر وتنحاز لابنها وتناصره حتى وإن كان ظالما لزوجته، وهو ما يؤجج الصراع بين الزوجين وكأن المرأة هي المشكل والمركر، وكأنه لا توجد قضايا مركزية أخرى”.
ولفتت إلى أنه “يتم تأجيج الصراع الزوجي دون الاستعداد لتقديم تنازلات أو حتى خلق حالة من التوازنات بين الزوجين، علما أن كليهما تقع عليه المسؤولية وإن كان بتفاوت”.
مجتمع مأزوم
وتعتقد وتد أن “التراكمات بكل ما يتعلق بفض الخلافات والنزاعات العائلية بين الأزواج وسرعة خيار الانفصال والطلاق، أفضت إلى خلق مجتمع مأزوم يفتقد للتربية السليمة وللقيم والأخلاق والاستقامة والإخلاص، وأفرزت جيلا جديدا لا يريد الزواج أو ليس لديه القناعات الكافية بمؤسسة الزواج أو إقامة أسرة”.
وأوضحت “بتنا نلمس سواء إن لدى الشابة أو الشابة أن الزواج وتأسيس أسرة ليس في أعلى سلم أولوياتهما، إذ أن تحقيق الذات، والشهرة والنجاح في مسيرة التعليم والعمل أهم من مؤسسة الزواج، كما نلاحظ النفور لدى الجيل الشاب من فكرة تأسيس عائلة واستثماره المادي والفكري في مجالات أخرى”.
ولفتت إلى أن “ظاهرة الطلاق تنتشر لدى مختلف الشرائح الاجتماعية وتعمقها أيضا الصراع على الموارد والمتطلبات والكماليات وشح الأموال، إذ يلاحظ في كثير من الحالات لجوء بعض العائلات للسوق السوداء لتوفير المال والاستجابة لاحتياجات الزوج أو الزوجة من الكماليات وهو من يفجر الصراعات بين الزوجين ويورطهما بخيار الانفصال”.
معاناة إنسانية
لا تتوقف العوامل وتعميق الخلافات التي تؤدي إلى الطلاق، تقول وتد “عند تدخل أفراد العائلة والأسباب الاجتماعية والمادية والاقتصادية، بل يضاف إلى ذلك تعامل ونهج بعض من المحاميين أو المرافعين الشرعيين وإن كانوا ثلة ضئيلة”.
وتعتقد أن “إدارتهم للملفات والاستعجال بفتح ملفات الطلاق وتحديد المزيد من جلسات المرافعة بغرض كسب المزيد من المال، تعمق الخلافات بين الزوجين التي تؤدي للانفصال والطلاق وبدء معاناة إنسانية محورها يكون الأطفال، كما أن مسار التجسير بالمحاكم الشرعية غالبا ما يبحث عن المذنب لتقليل النفقات والمهر، دون البحث بعمق عن حلول لتجنب الطلاق”.
تحديات مجتمعية
من جانبه، يرى المجسر بالمحكمة الشرعية في باقة الغربية، خيري اسكندر، في حديث لـ”عرب 48“، أن ظاهرة الطلاق بالمجتمع العربي تتفاقم وبارتفاع متواصل وتنذر بمستقبل قاتم، مشيرا إلى أن الظاهرة هي نتاج لتراكمات وإفرازات وأزمات مجتمعية بسبب تراجع مفهوم منظومة القيم الدينية والأخلاقية والمجتمعية، والعادات والتقاليد التي فرغت من مضمونها.
وأوضح إسكندر أن “هذا التراجع في منظومة القيم نلمس كافة تداعياته وانعكاساته السلبية على المجتمع العربي بكافة المستويات والمجالات، سواء إن بتأسيس الأسرة أو علاقات الزواج أو التفكك المجتمعي الذي نلمسه من خلال تفشي ظاهرة العنف والجريمة بالبلدات العربية”.
وأشار إلى أن “مفاهيم الزواج وظاهرة الطلاق تعكس وتعبر عن الواقع المأزوم الذي يعيشه المجتمع العربي، إذ نشأ جيل لا يعي معنى الحياة الزوجية ويفتقر للقدرات لمواجهة التحديات المجتمعية، وكذلك يجهل آليات إدارة شؤون الأسرة وفي أول خلافات زوجية يكون المسار نحو الانفصال”.
السوق السوداء
وكشف اسكندر عن ارتفاع حالات الطلاق بصفوف العائلات التي لديها أطفال، مشيرا إلى أن “حالات كثيرة من ملفات الطلاق اليوم هي لزوج أو زوجة عاشا بالماضي تجربة طلاق أو انفصال الوالد أو الولدة لأحدهما، أي أن ظاهرة الطلاق تنتقل في حالات كثيرة لدى الأزواج ممن كانوا بالماضي ضحية لتفكك الأسرة والطلاق”.
وتطرق إسكندر إلى عوامل وأسباب جديدة أسهمت في ارتفاع معدلات الطلاق والانفصال بالمجتمع العربي، مبينا أن “حالة واحدة من بين كل 5 حالات طلاق سببها شبكات التواصل الاجتماعي التي لها حصة الأسد بالخلافات بين الأزواج وهي تشكل 20% من أسباب الطلاق، ومثلها أيضا اقتراض الزوج أو الزوجة من السوق السوداء لتوفير الكماليات مثلما أظهرت مناقشات خلال التداول بالملفات أمام المحكمة الشرعية”.
الطلاق الخفي
ذات الطرح يتبناه المحامي الشرعي وإمام مسجد حسن بيك في يافا، د. أحمد عجوة، الذي أكد في حديث لـ”عرب 48“، أنه “لا يمكن فصل الارتفاع المتواصل في حالات الطرق بالمجتمع العربي وخاصة بالمدن الساحلية، عن سياسات المؤسسة الإسرائيلية تجاه المجتمع الفلسطيني بالداخل”.
ونوه إلى أن “المعطيات الرسمية عن حالات الطلاق بالمجتمع العربي وفي منطقة يافا، لا تشمل الحالات التي يتم الارتباط بها دون عقد قران وزواج رسمي وزفاف، وبالتالي فإن هناك حالات طلاق خفية ذات نسب عالية جدا غير مشمولة بالمعطيات والبيانات الرسمية، كونها غير مدونة لدى المحاكم الشرعية”.
وفي قراءة للسياسات الإسرائيلية تجاه المجتمع العربي التي ساهمت بارتفاع متدرج في حالات الطلاق، قال عجوة إن “حكومات إسرائيل المتعاقبة عمدت ومنذ النكبة سياسات التهميش تجاه العرب والتفكيك المجتمعي”.
السياسات الإسرائيلية
وأوضح أن “السياسات الإسرائيلية انعكست سلبا اقتصاديا واجتماعيا وخدماتيا على المجتمع الذي يعيش التهميش والتمييز والإفقار، وهي السياسات التي استنزفته على كافة المستويات وأبرزها المكون الأسري الذي يعتبر حجر الأساس لبناء المجتمع”.
ووفقا لطرح وقراءة أبو عجوة فإن حالات الطلاق ليست عرضية بل لها أسباب وإفرازات تتعلق بشكل مباشر بالسياسات الحكومية بحكم واقعنا كأقلية عربية وفي المدن الساحلية على وجه الخصوص، وعليه ليس مستغربا أن تسجل في يافا والمدن الساحلية حيفا وعكا معدلات طلاق مرتفعة أكثر من غيرها من المناطق العربية.
وبينّ أن “المؤسسة الإسرائيلية تحاول عبر الجهاز القضائي والشرطة فرض أجندة وقوانين لا تتوافق مع معتقدات وموروث ومبادئ المجتمع العربي بكل ما يتعلق في الأحوال الشخصية والعائلة”.
وأكد أن “الشرطة وُظفت من أجل التدخل في نزاع بين الزوج وزوجته، إذ أن مجرد أي شكوى يعقبها تحقيق وإبعاد وهو ما يؤثر سلبا على العلاقات بين الزوجين وتعمق الخلافات بينهما والتي تفضي إلى الانفصال والطلاق”.
مجتمع مفكك
ويعتقد أبو عجوة أن ارتفاع معدلات الطلاق بالمجتمع العربي وخصوصا بين أوساط العائلات مع أطفال يندرج ضمن مخطط للمؤسسة الإسرائيلية لتفكيك الأسرة العربية، إذ أن الطلاق هو معول الهدم الأول للمجتمع الذي يدخل في انحرافات وظلمات العنف والجريمة.
وشدد أبو عجوة على أن “المؤسسة الإسرائيلية تعكف على توفير البيئة الهدامة للمجتمع العربي من خلال القوانين والتشريعات وفضاء الشبكات الاجتماعية ومستنقع الجريمة الذي تتحكم به عصابات السوق السوداء التي تحظى بغطاء قانوني غير معلن من الجهات الرسمية”.
وأكد أن “هذه السياسات الإسرائيلية التي أفضت إلى ارتفاع معدلات الطلاق وتفكيك المجتمع العربي، تهدف إلى خلق مجتمع مأزوم ومفكك دون أن يكون بمقدوره مواجهة التحديات المفروضة عليه والقضايا الحارقة التي يعيشها، لتتمكن المؤسسة الإسرائيلية تدجينه وسلخه عن عروبته وهويته الوطنية والقومية والدينية”.
المصدر: عرب 48