القُبلةُ الّتي قصمَت ظهر البعير

منذ بداية الحرب وبيبي نتنياهو يحاول ترميم خسائره المعنوية بمزيد من الجرائم، ويبدو أنّ كل الجرائم التي ارتكبت حتى الآن بحق شعب فلسطين في قطاع غزّة لم تشف غليله بعد.
رفض نتنياهو على مدار خمسة عشر شهرًا وقف الحرب، وقد تحولت من الحملة العسكرية إلى حرب إبادة، إلى أن وصلت نقطة الموافقة على تبادل الأسرى وفي الأساس بفضل موقف دونالد ترامب الحازم، ووعده لنتنياهو كما تبيّن بأن يتقدم بصفقته لتهجير سكان القطاع، ووعده له بدعم عربي لخطّته، إضافة الى الخسائر الكبيرة التي مني بها جيش الاحتلال من غير تحقيق هدف تحرير الأسرى، وضغط أهالي الأسرى، ثم تأتي أدوار الوسطاء لتضيق شقّة الخلاف حتى التوصل إلى صفقة التبادل على مراحل، يفترض أن تنتهي بإعلان وقف الحرب وإطلاق جميع الأسرى من الجانبين.
خلال عمليات تبادل الأسرى ظهر ما تحوّل إلى أمر معتاد خلال عمليات التسليم، وهو استعراض القسّام لقدراته الإدارية وتعامله كحكومة مع الصليب الأحمر ومراسم التسليم. يلي ذلك حديث الأسرى الإسرائيليين عن معاملة إنسانية، رغم محاولات الإعلام الإسرائيلي إيجاد ثغرات في هذه الشّهادات لإدانة حماس وتبرير ما زعموه بأنّ المحتجزين يتعرضون للتعذيب وحتى الاغتصاب، وذلك لتجييش الرأي العام المحلي والعالمي وكسب التعاطف، أو على الأقل اللامبالاة بإزاء حرب الإبادة، إضافة إلى محاولة إزاحة الاهتمام عن الضربات العسكرية القاسية التي تعرض لها جيش الاحتلال.
وصف نتنياهو طقوس إطلاق سراح الأسرى بأنّها غير إنسانية ووحشية ونازية وإلخ. تفوّقت كتائب القسّام إعلاميًا بصورة مطلقة على نتنياهو وحكومته وإعلامه، وفي كلِّ دفعة من مراحل التبادل أعدّت مفاجآت جديدة، مثل الهدايا وغيرها، حتى أنّ بعض الأسرى كانوا يلوحون بأيديهم شاكرين "رجال الظلّ" على حسن المعاملة، والمهم أنه بعد دخول الأسرى إلى إسرائيل، ورغم محاولات الإعلام، فلم يجدوا أي أسير يشهد على بما يرضي الإعلام الإسرائيلي وامتداداته في أميركا والعالم ، بل كانت النتيجة عكسية، الجميع شهدوا على معاملة إنسانية وصلت إلى درجة الصّداقة مع الحراس "رجال الظّل"، إلى أنْ جاء آخرهم عوفر شمطوف وقبّل رأسيّ عنصرين من القسّام، وكان واضحًا أن الشاب عوفر هو الذي بادر إلى هذا وفعل ذلك بصورة عفوية، من غير إشارة أو دفع من أحدهم.
حاول الإعلام والمحللون النفسيون الحديث عن متلازمة ستوكهولم وغيرها من تحليلات نفسية، إلا أن المحصلة النهائية هي تأكيد على أن شمطوف كان على علاقة جيّدة جدًا مع حرّاسه.
هذه الرسائل يصل عكسها من جانب الأسرى الفلسطينيين، فهم يظهرون في حالات يرثى لها من الضّعف والتشويهات، وبعضهم فاقد القدرة على النّطق من شدّة القهر والتعذيب، وبعضهم في هزال شديد، إضافة إلى أعداد كبيرة ممن استشهدوا تحت التعذيب.
رغم ذلك، فإن الأسرى الفلسطينيين يتوعّدون بأنّهم سيواصلون النضال بعد خروجهم، وكتب بعضهم على جدران غرفة الاعتقال "لن ننسى ولن نغفر ولن نركع".
يتبيّن حجم الفشل العسكري عندما تجري عمليات التسليم في مواقع احتلها جيش الاحتلال ومكث في بعضها لأشهر، ودمّر كلَّ شيء فيها، ورغم ذلك نجحت المقاومة في بقائها في هذه الأمكنة، وبقيت محافظة على كثير من الأسرى أحياء، علمًا أن القصف الهمجي أدّى إلى مقتل كثيرين منهم.
هذه المشاهد أذلّت نتنياهو الذّي تحدث عن انتصار كامل وعن إبادة حماس، وأظهرت أنّ المؤمنين بقضيتهم أشد صلابة وبطولة مما حاول الاحتلال أن يبثَ وينشرَ.
نتنياهو يبحث عن موقف مقنع لوقف المفاوضات، ويصوّر مهرجانات تسليم الأسرى بالاستفزازات الوحشية ولكنّه غير مقنع، ولن تعد العودة إلى الحرب سهلة، على الأقل ليس قبل إتمام المرحلة الأولى من الصفقة.
يحاول نتنياهو منع القسّاميين من إظهار قوّتهم وتنظيمهم، فما يجري بالنسبة له كابوس، فالقسام مسيطرون بقوّة، ويظهرون دقة وتخطيطًا دقيقًا أثار إعجاب الأصدقاء والأعداء.
باتوا يشكّلون بنظر كثيرين صورة الفروسية وما تشمله من شجاعة وكرم وتضحية وعفّة لدى معظم أبناء الشعب الفلسطيني والعرب عموما وأبعد منهم إلى العالم.
سيحاول نتنياهو أن يعرقل ويفسد الصّفقة متذرّعا بتصرّفات حماس الاستفزازية، ولكن على الأرجح أن تستمر الصفقة وإنهاء المرحلة الأولى، لتبدأ مفاوضات المرحلة الثانية.
يفكّر نتنياهو في تحقيق أهداف الحرب عن طريق الضّغط الأميركي ونقل الكُرة إلى الجانب العربي، ولهذا يضع خيارين، العودة إلى الحرب أو أن يحقّقوا له أهدافه بالاتفاق ومن غير قتال، ولكن كما يبدو أن الأنظمة العربية بما في ذلك تلك المنهرقة على التّطبيع، لم تعد قادرة على تحمّل أطماعه وعنصريته وتعامله الفوقي وغير المتفهّم لظروفها، وسوف يفشل في وضع هذه الأنظمة في مواجهة عدائية معلنة مع الشعب الفلسطيني الذي يرفض التهجير، ويصرُّ على حقّه في الحرّية والكرامة على أرض آبائه وأجداده، سواء تواصلت الصفقة حتى نهايتها أو عرقلها نتنياهو.
المصدر: عرب 48