اللطرون وديرها… منطقة محرّمة
فصل الربيع، الأجمل للتنزّه والتجوال في أرجاء فلسطين، الجبليّة والساحليّة. عادة ما أقضي أوقاتًا كثيرة في الطبيعة خلال هذا الفصل، خاصّة في نهاية كلّ أسبوع؛ إذ يطغى الأخضر على مساحات أراضيها الوسيعة وألوان الزهور والزنبقيّات، وكذلك حقول اللوزيّات والذرة الخضراء وحقول القمح وغيرها، الّتي يفوح منها عبير الربيع، وللتأمّل أيضًا.
منطقة اللطرون من الأماكن الجميلة جدًّا في فلسطين، وتحمل تاريخًا يمتدّ آلاف السنين، حيث يعود تاريخها إلى الفترة الرومانيّة والبيزنطيّة، وتقع على مفترق طرق مهمّ. أمّا للوصول إليها فمن الجنوب طريق غزّة، ومن الغرب طريق يافا، ومن الشرق طريق باب الواد المعروف اليوم بالعبريّة ’شاعار هجاي‘، وشمالًا طريق القدس ورام الله. تاريخيًّا، كانت هذه المنطقة تُعْتبَر إستراتيجيّة جدًّا؛ كونها تقع في منتصف الطريق إلى البحر الموصل بين مدينتَي يافا والقدس.
تاريخ اللطرون
يعود اسم اللطرون إلى اسم قلعة «حصن الفرسان» الّذي أنشأه الصليبيّون في الفترة الصليبيّة في منطقة اللطرون، بين عامَي 1137 و1141[1]. ويُلْفَظ ليطورون بالفرنسيّة، وما زالت آثاره قائمة إلى يومنا. عبر الزمن أُنْشِئت قرية اللطرون العربيّة، وبُنِيت بيوتها داخل أسوار «حصن الفرسان»، وحول الحصن أيضًا. يشرف الحصن على دير اللطرون. وقد كانت قرية الللطرون العربيّة صغيرة جدًّا، مساحتها لا تزيد على أربعة دونمات. في عام 1922، كان عدد سكّانها 59 شخصًا، وفي عام 1931 وصل عددهم إلى 120 شخصًا، وكان عدد بيوتهم ستّة عشر بيتًا. وفي عام 1945 أصبح سكّان القرية 190 شخصًا[2].
كان موقع القرية إستراتيجيًّا؛ إذ كانت تقع على تلّة مرتفعة ومشرفة على جميع الجهات؛ فكان لها أهمّيّة إستراتيجيّة وعسكريّة. وفي عام 1948 أخلى الجيش الأردنيّ القرية لحماية سكّانها من القتال والحرب، ولأخذ المكان مقرًّا لهم كونه إستراتيجيًّا جدًّا. هُجِّرَ سكّان اللطرون إلى قرية عمواس، وبنى الجيش الأردنيّ مقرّه في أحد بيوت القرية داخل أسوار الحصن. وبنى الخنادق الّتي ما زالت موجودة إلى يومنا داخل أسوار القلعة الصليبيّة، وأضاف أيضًا نوافذ القتال الّتي منها أطلقوا النيران، والّتي ما تزال قائمة إلى يومنا. وفي عام 1948، حاولت ’الهاغاناه‘ احتلال اللطرون ستّ محاولات[3]؛ من أجل فتح الطريق إلى القدس الّتي كانت مغلقة من قِبَل الجيش الأردنيّ أمام الإسرائيليّين. لكنّ تحصينات الجيش الأردنيّ كانت قويًّة جدًّا، وباءت محاولات ’الهاغاناه‘ بالفشل، مع خسائر كبيرة بالأرواح. واضطرّ الإسرائيليّون لشقّ طريق التفافيّ إلى القدس، اسمها «طريق بورما». ولأنّ الجيش الأردنيّ كان محاصرًا كلّ الجهات، بعد أن ترك الجيش البريطانيّ مقرّ الشرطة (قلعة اللطرون تيغارد)[4]؛ استولى عليها الجيش الأردنيّ.
تقع قرية اللطرون شماليّ القدس، ويشرف موقعها اليوم على شارع رقم واحد، وعلى مدينتَي الرملة ومودعين، وبيوت قرية واحة السلام الّتي أُسِّست في عام 1969 على أراضٍ تابعة لدير اللطرون. بعد النكبة في عام 1948، بقيت اللطرون تحت سيطرة الجيش الأردنيّ ضمن المنطقة المحرَّمة[5]، حتّى عام 1967.
دير اللطرون
في السنوات الأخيرة، اعتدت التردّد إلى منطقة دير اللطرون لجمالها الأخّاذ، وأيضًا لاقتناء زيت الزيتون الموسميّ من متجر الدير، الّذي يصنعه الرهبان من كروم الزيتون المزروعة في مساحات أراضيها الواسعة، حيث يُعْصَر ويُحَضَّر في معصرة الدير. يُباع إلى جانب زيت الزيتون في المتجر من محاصيل أراضي الدير النبيذ الأحمر والأبيض والخلّ؛ حيث هناك مساحات كبيرة زُرِعت فيها كروم العنب. وتُباع أيضًا مكابيس من زيتون ولِفت وأنواع أخرى، إضافة إلى أغراض أخرى دينيّة. ويتوافد إلى المتجر الكثير من السيّاح المحلّيّين والأجانب، وفي يوم السبت تملأ البسطات حقول الزيتون بأغراضها المتنوّعة.
يقع دير اللطرون في أراضي قرية عمواس غربيّ مدينة القدس، وبُنِي الدير القديم في عام 1890، أنشأه الرهبان الأترابيّون الفرنسيّون، وهو دير كاثوليكيّ لاتينيّ. كان مدخل الدير، حين أُنْشِئ، متّصلًا بالشارع التركيّ الموصل بين مدينتَي يافا والقدس، الّذي شُقَّ في عام 1869، وهذا الشارع استمرّ استخدامه حتّى عام 1888، وفي نفس العام شُيِّد شارع التفافيّ جديد جنوبًا من دير اللطرون[6]. وسبب إغلاق الطريق أنّها صاعدة، وكان ذلك يُثقل على العربات ’الحناطير‘ الّتي كانت تجرّها الأحصنة من السير والصعد، وفي الشتاء كانت زلقة؛ ففتح الأتراك طريقًا جنوب الدير، وكانت مستوية وسهلة أكثر للعربات والدوابّ. وفي فترة الاستعمار البريطانيّ، أصبحت الطريق الرئيسيّ إلى القدس (طريق رقم 424 اليوم)، واستمرّ استخدامها إلى عام 1978، وفي نفس العام شُيِّد الشارع السريع رقم واحد، الواصل بين مدينتَي تل أبيب والقدس[7].
في عام 1927، بُنِي دير اللطرون الجديد الّذي نعرفه ونزوره اليوم، من تصميم وإشراف رئيس الدير الأوّل الآباتي بولس كوفرور، ونفّذ البناء رجال قرية عمواس. وبُنِي أيضًا سرداب تحت الأرض، يُوصِل بين الدير القديم والدير الحديث؛ لتسهيل حركة تنقّل الرهبان بين الأديرة. دير اللطرون هو عبارة عن كنيسة ومساكن للرهبان[8]، فيما خُصِّصَ القسم الأماميّ لزوّار الدير؛ وفيه معصرة زيتون، خمّارة لصنع النبيذ، منجرة، محددة، مخازن. وقد ضمّ الدير في الماضي أيضًا مشفًى ومدرسة داخليّة وبيت لليتامى إلى عام 1963. ولتعرُّف سرديّة دير اللطرون أكثر، وعلاقته بأهالي قرية عمواس؛ أجريت مقابلة مع الراهب الأب لويس وهبي[9]، الّذي استقبلني بترحاب في غرفة الضيافة التابعة للدير، صباح يوم السبت 11 آذار (مارس) 2023.
الأب لويس وهبي وحياة الرهبان
وُلِدَ الأب الراهب لويس وهبي عام 1938 في قرية بشعلة، قضاء البترون في لبنان، وقضى طفولته المبكّرة في القرية مع إخوته الأربعة. عندما أصبح صبيًّا في الحادية عشرة والنصف من عمره تجلّت لديه الرؤية والرغبة لتكريس حياته في خدمة الربّ، وذلك عبر الحياة الرهبانيّة. أخبرنا الأب لويس عن القدّيس شربل، الّذي كان أهل البلد يتحدّثون عن معجزاته، وهذا الشأن شدّه إلى التقرّب من الربّ.
ذات يوم ذهب برفقة والده لزيارة قبر القدّيس شربل. وعندما عادا إلى البيت قال له والده مازحًا: “ما رأيك في أن تصبح قدّيسًا أو راهبًا مثل القدّيس شربل؟”. يقول الأب وهبي: “كأنّه سهم محبّة دخل في قلبي وأحدث لديّ فرحًا كبيرًا ورغبة في الرهبنة”. عندما أخذ الأمر بجدّيّة، قاطعه أقرباؤه وأهله في البداية، ويصف الأب ما حدث بينهم كما المعركة الّتي استمرّت سنة ونصفًا، واصفًا ذلك أن أصبح هناك معسكران؛ معسكر الأقارب والأهل مقابل معسكره هو وحده برعاية الربّ يسوع، وجميعهم كانوا رافضين طريقه الجديدة، ومع كلّ هذا الرفض والنبذ فقد زاده إصرارًا بخوض طريق الرهبنة وخدمة الربّ؛ وبالتالي وافق أهله أمام تعنّته.
في عام 1951 قدِم الأب لويس إلى دير اللطرون، وكانت سنّه ثلاثة عشر عامًا وثلاثة أشهر. في اللطرون وجد سعادته الحقيقيّة؛ وهي علاقته باللّه، وهذه العلاقة تروي عاطفته، ويضيف: “مع أنّ حياة الرهبنة صعبة، لكنّ المحبّة والهدوء الداخليّ يغلبان على الصعاب الّتي هي بمنزلة اختبارات للداخل”. ولحسن حظّه أنّ في الدير كانت مدرسة استوعبته، وتعلّم فيها إلى أن أصبحت سنّه ثمانية عشر عامًا، وهو الجيل الّذي يستطيع دخول الرهبنة والتنشئة الرهبانيّة.
في الفترة الأولى من قدومه إلى الدير، كان يتراسل مع أهله. في عام 1960 قدِم أهله من لبنان لزيارته في الدير؛ والدته ووالده وواحد من إخوته، ومع الوقت أدرك أهله حياة نجلهم الأب لويس، وأدركوا رسالته السامية في الحياة؛ فأصبحوا يشجّعونه معنويًّا. يروي الأب لويس أنّ رسائل والده بعد زيارته أصبحت تؤثّر فيه، وذات قيمة معنويّة؛ إذ أصبح والده يكتب له “أنت كنزي”، بعد أن كان حزينًا لأنّ والده في بداية طريقه رفض مسلكه، وفضّل إخوته عليه. تعلّم الفلسفة في الدير، وهو يجيد عددًا من اللغات: اللغة الأمّ العربيّة، والفرنسيّة، واللاتينيّة، والإيطاليّة، والإنجليزيّة، واليونانيّة، والسريانيّة، والعبريّة. وفي عام 1963 بعثه الدير بعثة لدراسة اللاهوت في فرنسا مدّة أربعة أعوام.
عدد الرهبان في الدير اليوم ستّة عشر راهبًا، وهذا يُعَدّ تراجعًا بعد أن كانوا أكثر من 35 راهبًا، ويعود ذلك إلى التطوّرات الّتي طرأت على العالم؛ فأصبح الناس يلجؤون أكثر إلى المادّيّات من الروحانيّات، والانجذاب نحو المتعة الدنيويّة على الروحانيّة الدينيّة، بحسب ما يعتقد الأب لويس. حياة الراهب اليوميّة روتينيّة؛ تبدأ في الرابعة أو الثالثة صباحًا بالصلاة، وفي نفس اليوم يؤدّون سبع صلوات، بينها وجبات الطعام، وخلال وجبات الطعام أيضًا تكون القراءة في الكتب. طعامهم متواضع يعتمد على الخضراوات والحبوب، لا يتناولون اللحوم، ويعيشون حياة التقشّف والبساطة، ويقضون أوقاتًا مخصّصة في الدراسة والقراءة والاعتكاف والتأمّل، وفي العمل اليدويّ في الدير.
تحوي مكتبة الدير أكثر من ثلاثين ألف كتاب بالفرنسيّة، والعربيّة، والإنجليزيّة، واللاتينيّة، ولغات أخرى. ويقيم الرهبان في الدير إقامة مؤقّتة كونهم يعيشون في منطقة (ج)، وبالعبريّة والإنجليزيّة منطقة (سي)، حسب «اتّفاقيّة أوسلو». مَنْ قدِم إلى الدير قبل عام 1945 يُطَبَّق عليه نظام الإقامة المؤقّتة، وفي كلّ عام يجب عليه تجديد إقامة، وهو ما يفعله الأب لويس في كلّ عام مقابل رسوم لتجديد الإقامة.
حرب حزيران… العودة إلى قرى خالية
عند انتهاء أبينا لويس من دراسته في فرنسا، وقبل عودته بأيّام، وقعت حرب عام 1967. كان تاريخ عودته من فرنسا إلى الدير مقرَّرًا بـ 12 حزيران (يونيو) 1967، لكنّ التغيّرات الجيوسياسيّة صعّبت عليه العودة؛ لكونه يحمل الجنسيّة اللبنانيّة. بعد مفاوضات قُبِلت عودته، وكانت عودة حزينة بالنسبة إليه. يروي أنّه عندما عاد ذهب لتفقُّد قرية عمواس لرؤية ما حدث لها، سرد: “الجرح الكبير والصدمة إلى يومنا هذا ملازمان لي، ولم أُشْفَ منهما”. أصابه حزن شديد لما جرى لجيرانه بقرية عمواس. عندما سافر ودّع جيرانه تاركًا القرية عامرة بأهاليها، وعندما عاد وجدها مدمَّرة خالية من أيّ إنسان. بين يوم وليلة انتهت قرية بأكملها من الحياة، وكان الأب لويس الراهب الوحيد الّذي بقي من الّذين قدموا إلى الدير قبل عام 1967.
يروي الأب لويس أنّ مشفى الدير عمل حتّى تاريخ 5 حزيران (يونيو) عام 1967؛ إذ كان يتعالج فيه أهالي قرية عمواس والقرى المجاورة. مبنى المشفى يقابل غرفة متجر الدير اليوم، ويُسْتخدَم اليوم مكانًا خاصًّا للرهبان. حتّى تاريخ 5 حزيران، سُجِّل المرضى الّذين تعالجوا في المشفى، وسجلّات المشفى موجودة في أرشيف الدير. وبعد هذا التاريخ لم يُسَجَّل أيّ متعالج في سجلّات المشفى؛ فلم يعد لهم وجود أصلًا؛ فقسم منهم أصبحت القبور منازلهم، وآخرون نازحون في الوطن وخارجه.
في عام 1967، خلال ستّة أيّام الحرب، هُزِم الجيش الأردنيّ، وانتصر جيش الاستعمار الإسرائيليّ الّذي بدأ على الفور بتسليم أوامر بطرد أهالي القرى، ومنها قرية عمواس الّتي احتمى ولجأ قسم من سكّانها في نفق الدير. وبعد إخلاء القرية دُمِّرت بيوتها بالكامل. وحتّى اليوم، ثمّة تواصل بين مهجَّري عمواس الموجودين في قرية بيتونيا ورام الله والقدس وفي الأردنّ.
أطلعني الأب لويس على كتيّب مذكّرات الراهب اللبنانيّ غاي خوري، وهو من رهبان الدير، والّذي عاش فيه بين عاميّ 1936-2005. وقد كتب مذكّراته عن حرب عام 1967 في منطقة اللطرون، وتدمير قراها الثلاث، وكذلك عن لجوء أهالي عمواس إلى الدير وتقديم المساعدة لهم، وكيف هجّرهم الإسرائيليّون من الدير، وعلاقة أهل عمواس مع الرهبان[10]. بعد ذلك طردت العصابات الصهيونيّة الجميع وأعلنت المنطقة منطقة عسكريّة، وقبل هدم القرية، أمروا بإخلائها، لكنّ عددًا من المسنّين لم يتمكّنوا من الخروج فهُدِمَتْ البيوت وهم في داخلها. يحتفظ الأب لويس بأسماء بعض المسنّين الّذي ماتوا خلال عمليّات الهدم، لأنّ رهبان الدير تسلّلوا لإنقاذ مَنْ يستطيعون إنقاذه في عمواس بعد الهدم، وشاهدوا بأمّ أعينهم المسنّين تحت الأنقاض.
عمواس… وخوف الغزاة من الذكريات
كانت منطقة اللطرون تضمّ حتّى عام 1967 ثلاث قرًى عربيّة؛ عمواس وقريتَي يالو وبيت نوبا. تاريخ قرية عمواس، الواقعة جنوب شرق الرملة، يعود إلى آلاف السنين. عمواس تُلْفَظ بفتح العين أو كسرها، وهي بلدة قديمة كان اسمها في الفترة الرومانيّة ’نيقوبوليس‘ بمعنى ’مدينة النصر‘[11]. ولها معنى ’الينابيع الحارّة‘ أيضًا. من الآثار القائمة في القرية «الكنيسة البيزنطيّة» والفسيفساء ومدافن القبور الصخريّة، و«الحمّام الرومانيّ»[12]، و’بئر الحلو‘ وعين ماء، ومقبرة القرية ومقام الصحابيّ معاذ بن جبل. في عام 1922 كان عدد سكّان عمواس 824 نسمة، وفي عام 1931 ارتفعوا إلى 1021، وكان لهم 224 بيتًا، وفي عام 1945 ارتفع عدد سكّانها إلى 1450. وفي عام 1961 كان عدد سكّانها 1955[13].
في مقابلة هاتفيّة أجريتها مع حيدر إبراهيم أبو غوش، من مواليد قرية عمواس في عام 1953، يسكن في مدينة القدس، أخبرنا عن حرب عام 1967، وكيف خرجوا من القرية. يذكر حيدر أنّ في عام 1967، عند بدء الحرب، قدِم قائد الجيش الأردنيّ إلى قرية عمواس؛ ليخبر مختار القرية آنذاك قائلًا: “نحن سننسحب، وأنتم دبّروا حالكم”. ويذكر كيف عمّت الفوضى والرعب في تلك الفترة، حيث انتقل أهل القرية في حافلة إلى دير اللطرون للاحتماء واللجوء. وفي الصباح، طلبت العصابات الصهيونيّة منهم عدم البقاء في الدير، والرحيل إلى رام الله. كان حيدر ابن الرابعة عشرة في ذلك الوقت، وأخبرني عن التقرير الّذي نُشِر في صحيفة «هآرتس» في تاريخ 17 حزيران (يونيو) 2022، عن تهجير قرى منطقة اللطرون وتدميرها في عام 1967، وكانت الصحيفة قد نشرت في التقرير صورة لتهجير أهل قرية عمواس، واكتشف حيدر ظهوره في الصورة.
ترك حيدر القرية إلى رام الله، وترك وراءه أحلامه وذكرياته. تعلّم في مدرسة البنين في عمواس، والّتي كانت تُدرّس حتّى الصفّ التاسع الإعداديّ، وكان الطلّاب يكملون تعليمهم الثانويّ في مدينة رام الله. وكذلك كانت هناك مدرسة للبنات في القرية، تُدرّس حتّى الصفّ السادس الابتدائيّ. سرد حيدر أنّه كان في القرية مجموعة دكاكين، وفرنان، وطوابين، ومقهًى صاحبه صالح الحاج، وعين ماء الحلو[14].
اليوم، يرافق حيدر فرقًا أجنبيّة ومحلّيّة إلى قرية عمواس، ويسرد قصّتها عليهم. ومنذ عام 1967 إلى يومنا، تُعْتبَر أراضي اللطرون وعمواس في حيّز أراضي الضفّة الغربيّة. وأمّا من الناحية الفعليّة فهي في حيّز دولة إسرائيل، وإدارتها لها غير شرعيّة، ومع ذلك أُقِيم «متنزَّه أيالون بارك كندا» في عام 1973، على أراضي عمواس، بدعم من صندوق يهوديّ كنديّ، وبالتعاون مع «الصندوق القوميّ الإسرائيليّ»، الّذي حرّشها لإخفاء جرائم الحرب الّتي ارتُكِبت في حقّ القرية الجميلة.
عند كتابة سطوري الأخيرة لقرية عمواس، زرت القرية، وهناك التقيت بعائلة من قرية “أبو غوش”، الّتي تعود أصولها إلى القرية قبل عام 1948. تحدّثنا عن القرية والأيّام الّتي مضت، افترقنا، هم ساروا باتّجاه ’بئر الحلو‘، وأنا سرت باتّجاه المقبرة. الهدم هو معاناة يُحْدِثُها الاستعمار لطمس معالم المكان، وحرمان صاحبه، ليس فقط بالعودة إليه بل الأصعب هو محو الذاكرة والتذكّر البصريّ للمكان.
إحالات
[1] حتّى عام 1994، كان يُعْرَف أنّ بناء القلعة الصليبيّة بين عامَي 1150 و1170، إلى أن اكتُشِفت وثائق جديدة حول بناء الحصن، تشير إليه بين عامَي 1137 و1141، جدير أن يُتابَع الموضوع لتصحيح السنوات.
[2] مصطفى مراد الدبّاغ، موسوعة بلادنا فلسطين، (كفر قرع، الهدى للطباعة والنشر، 2002)، ص515.
[3] للمزيد عن معركة اللطرون، انظر/ي: المعركة على الطريق إلى القدس، آريه يتسحاقي (القدس، 1982).
[4] بين أعوام الثورة العربيّة الكبرى (1936-1939)، الّتي زاد القتال والعنف فيها بين العرب واليهود والإنجليز، عندما أدرك العرب جيّدًا أنّ مخطّطًا شرسًا يسلب منهم أراضيهم تدريجيًّا، من خلال الهجرات اليهوديّة إلى فلسطين، ومن بيع الأراضي وإقامة المؤسّسات العبريّة. صمّم ضابط شرطة بريطانيّ يُدْعى تشارلز تيغارد (1881-1946)، كان خبيرًا في قمع التمرّدات ومكافحة الإرهاب، صمّم في عام 1938 مبنى مراكز الشرطة البريطانيّة المعروفة باسم «قلاع تيغارد»، وأشرف عليها. أُنْشِئت عشرات المراكز في رحاب فلسطين، أحدها قلعة مركز الشرطة البريطانيّ في اللطرون، على سبيل المثال مركز الشرطة في عكّا، الّذي يُسْتخدَم اليوم أيضًا مركزًا للشرطة.
[5] في نصّ اتّفاقيّة الهدنة بين الأردنّ وإسرائيل في عام 1949، حُدِّدت أربع مناطق محرَّمة؛ ثلاث بالقدس والرابعة قطعة زراعيّة من أراضي اللطرون.
[6] ب. قيدار، نظرة ونظرة أخرى على فلسطين/ صور جوّيّة من الحرب العالميّة الأولى مقابل صور جوّيّة معاصرة/ الناشر يد بن تسفي – القدس 1991، صفحة 106 (بالعبريّة).
[7] الجدير ذكره أنّ شارع رقم 1 بين عامَي 1948 و1967 كان مغلقًا أمام حركة الإسرائيليّين؛ ولذلك شقّ الإسرائيليّون شارع هغبورا، اليوم يُعْرَف بشارع رقم 44.
[8] الدير فقط للرهبان، لا يوجد راهبات، يوجد للأترابيّين في العالم 92 ديرًا للرهبان، و72 ديرًا للراهبات، موزّعات في العالم
[9] مقابلة شخصيّة في دير اللطرون يوم السبت 11 مارس/ آذار 2023.
[10] مذكّرات الأب غاي خوري الخاصّة، المذكّرات الخاصّة براهب لبنانيّ حول التدمير الصهيونيّ لقرى اللطرون الفلسطينيّة، تُرْجِمَ إلى العربيّة عن الفرنسيّة عام 2008، من ترجمة الأب جايمس كونولي.
[11] بلادنا فلسطين، ص510.
[12] أضيفت ثلاث قباب إلى المبنى (الحمّام الرومانيّ)، وهذا كان متداولًا في الفترة العثمانيّة لتحويل المكان إلى معلم إسلاميّ، وهذه القباب كانت دارجة في تلك الفترة. وأهل القرية يعتقدون أنّ هذا هو مقام الصحابيّ أبي عبيدة الجرّاح، الّذي حارب في المنطقة مع جنوده، وتوفّي مع عدد كبير من جنوده في مرض الطاعون الّذي كان آنذاك. الحقيقة أنّ ضريح أبي عبيدة في الأردنّ. أبو عبيدة مرّ ومكث في هذا المكان الّذي كان جند فلسطين في الفترة الإسلاميّة. رواية المقام يتداولها أهل القرية، وهي ظنون بشريّة لا تمتّ للعلم بحقيقة، أقصد أنّ الحمّام التركيّ هو مقام أو ضريح الصحابيّ أبي عبيدة.
[13] بلادنا فلسطين، ص512.
[14] مقابلة هاتفيّة، 8 مارس/ آذار 2023.
باحثة في التاريخ الاجتماعيّ وكاتبة مقالات، من سكّان مدينة حيفا. صدر لها كتاب «حيفا في الذاكرة الشفويّة، أحياء وبيوت وناس»، عن «المركز العربيّ للأبحاث ودراسة السياسات» في عام 2022.
المصدر: عرب 48