اللغة الاستعماريّة كأداة تضليل: النكبة الفلسطينيّة مثالا
تُشير النكبة الفلسطينية إلى النزوح القسري والتشريد الذي تعرّض له مئات آلاف الفلسطينيين، عقب إعلان قيام دولة إسرائيل عام 1948. وعلى الرّغم من وجود أدلة كافية على وقوع النكبة، إلّا أنّ هناك محاولة مستمرة ومقصودة لإنكار تأثيرها على الشعب الفلسطيني. غالبًا ما يتم تجاهل النكبة باعتبارها نتيجة لـ”هجرة عربية طوعية”، كما لو أنّ الفلسطينيين تخلوا عن منازلهم وأراضيهم بإرادتهم الحرة.
تتجاهل هذه السرديّة حقيقة أنّ الكثير من الفلسطينيين هُجّروا بالقوة من قبل ميليشيات صهيونية، أو هربوا خوفًا من العنف. وفي بعض الحالات، أُجبِر الفلسطينيون على التوقيع على اتفاقيات تنصّ على تنازلهم عن حقهم في العودة إلى منازلهم.
إنشاء دولة إسرائيل اعتمد على تكتيكات استعمارية عدّة، بما في ذلك توظيف اللغة كأداة للتضليل. يهدف هذا المقال إلى الكشف عن اللغة المضللة المستخدمة لإنكار النكبة الفلسطينية المستمرة إلى الآن.
اللغة كأداة تضليل
يقول الشاعر الفلسطيني الراحل مريد البرغوثي، إنّ معركة اللغة هي معركة الأرض “يؤدي تدمير إحداهما إلى تدمير الأخرى. عندما تختفي فلسطين ككلمة تختفي كدولة ووطن. كان لا بدّ أن يتلاشى اسم فلسطين نفسها. أراد الاحتلال أن تُنسى، وتنقرض، وتموت”.
كانت اللغة دائمًا جزءًا من الاستعمار الصهيوني حتى قبل وقت طويل من إنشاء إسرائيل نفسها على أنقاض المنازل والقرى الفلسطينية عام 1948. كانت فلسطين، وفقًا للصهاينة “أرضًا بلا شعب” لشعب بلا أرض. لم يكن هؤلاء المستعمرون أبدًا “مستوطنين غير شرعيين”، بل “عائدون يهود” إلى “وطن أجدادهم”، وبعد عودتهم تمكنوا من خلال العمل الجاد والمثابرة من “جعل الصحراء تُزهر”، ومن أجل الدفاع عن أنفسهم ضد “جحافل العرب”، كانوا بحاجة إلى بناء “جيش لا يقهر”.
ما يحدث في فلسطين منذ النكبة هو صراع على الرواية، لأن الرواية التاريخية هي امتداد للأصالة وأحقية الانتماء للأرض. وأول سلاح في هذا الصراع هو اللغة نفسها. إذ تُصمّم العبارات الاستعمارية بطريقة مدروسة، من الصيغة إلى وقعها وأثرها النفسي، ثم تتكرر حتى تتقرّر ويصبح من الطبيعي أن يُقال جيش الدفاع لا جيش الاحتلال مثلًا.
أرض بلا شعب لشعب بلا أرض
عبارة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” هي إحدى أشهر أمثلة الدعاية المغرضة في التاريخ المعاصر. استُخدم هذا الشعار لتبرير تهجير السكان الفلسطينيين الأصليين أثناء قيام دولة إسرائيل عام 1948. إلا أنّ هذه العبارة ليست أكثر من كذبة تتجاهل وجود وحقوق الشعب الفلسطيني. اختيرت العبارة بدقة وعُزّزت برسومات تصوّر فلسطين كأرض قاحلة وخالية.
استُعملت عبارة “أرض بلا شعب لشعب بلا أرض” للمرة الأولى للترويج لفكرة الاستيطان اليهودي في فلسطين، التي كانت آنذاك جزءًا من الإمبراطورية العثمانية. لم تكن هذه الفكرة جديدة، إذ كان الصهاينة يدافعون عن الاستيطان اليهودي في فلسطين لقرون، بناءً على تفسيرهم للكتاب المقدس.
اكتسبت العبارة شعبية في أوائل القرن العشرين بين الحركة الصهيونية التي سعت إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين، واستخدمها الصهاينة للترويج لفكرة أنّ فلسطين أرض قاحلة وخالية تنتظر أن يفديها الشعب اليهودي. كانت هذه الدعاية تهدف إلى محو وجود وحقوق السكان الفلسطينيين الأصليين وتبرير تهجيرهم.
الحقيقة أنّ فلسطين كانت مجتمعًا متعدّد الثقافات والأديان، تعيش فيها المجتمعات المسلمة والمسيحية واليهودية جنبًا إلى جنب. كان السكان الفلسطينيون الأصليون، وهم في غالبيتهم من العرب، يعيشون في فلسطين منذ قرون ولهم جذور عميقة في الأرض. كان لديهم اقتصاد مزدهر، وتراث ثقافي غني، وشعور قوي بالهوية الوطنية.
تذكر الكاتبة الفلسطينية غادة الكرمي استنادًا إلى مؤرخين كثر، أنّ حاخمين زارا فلسطين عام 1897 وراسلا مبتعثيهم معلّقين عن أرض فلسطين “عروس جميلة لكنها متزوجة من رجل آخر”. وأول وأهم خطوة لتجريد فلسطين من الرجل الآخر والشعب الآخر كانت من خلال اللغة المُسيسة لصناعة الوهم.
عرب في أرض اليهود
لا شك في أنّ تسمية الشعوب مرتبطة بشكل كبير بانتمائهم لوطن محدد، ولذلك تعمد الأنظمة الاستعمارية على تقويض الهوية الوطنية من خلال التسميات. الاستعمار الفرنسي على سبيل المثال كان يطلق على الجزائريين تسمية العرب أو المسلمين. لا تختلف السياسة الإسرائيلية عن التي انتهجتها فرنسا، إذ تجنح إلى استخدام لفظ “العرب” على الفلسطينيين، وهو لفظ يحرم حامله من المطالبة بحقه في الأرض ومن تاريخ الفلسطينيين قبل الاستعمار، وذلك من خلال تعزيز رواية “أرض بلا شعب”. مثلًا، نُقل عن الرئيس الإسرائيلي السابق شيمون بيريز في عام 1970 قوله “كانت البلاد [فلسطين] صحراء فارغة، مع عدد قليل من المستوطنين العرب”.
بحسب الرواية الإسرائيلية التي كانت وليدة النكبة فالشعب “الآخر” ليس فلسطينيًّا. يُطلق عليهم لفظ “العرب”، وهو مصطلح سائل يصف عدم الانتماء إلى أرض مُعينة. إذ بحكم الأوجه العديدة للهوية في العالم العربي من الصعب “تصنيف” الأشخاص الذين ينتمون إلى طوائف وعشائر مختلفة؛ ونسبهم إلى أرض أو بلدة أو بلد معين، وإلى الوطن الأكبر الذي يشمل جميع الدول العربية. في إسرائيل، تُستخدم تسمية “العرب” كمحاولة لإقناع الفلسطينيين بالهجرة إلى دول عربية أخرى. أن يُطلق على المرء لقب عربي في إسرائيل يعني أنه غريب عن “أرض اليهود”.
اللغة الاستعمارية وتطويع الوعي الجماعي
منذ النكبة، استُخدمت اللغة فيما يسمّى البيولوجيا السياسية لتطويع التصور الجماعي للفلسطيني. استعمل العديد من الساسة الإسرائيليين عبارات من نوع “الفلسطيني مثل السرطان” وغيرها من العبارات التي لها تأثير طويل المدى. فالسرطان مثلًا لا يمكن التعايش معه.
يقول الشاعر الفلسطيني الراحل مريد البرغوثي في مقال له عن الإبادة اللغوية “بكلمة واحدة يعيدون تعريف أمة بأكملها ويحذفون التاريخ. يفرض الاحتلال الإسرائيلي إعادة تعريف مزدوجة وثلاثية ولا نهاية لها للفلسطينيين. يسمّون الفلسطيني متشدد، خارج عن القانون، مجرم، إرهابي، غير مهم، سرطان، صرصور، ثعبان، فيروس – تصبح القائمة لا نهاية لها. كن من يصنع التعريفات. عرِّف! صنف! شيطن! ضلل! بسط! علق الملصقات! ثم أرسل الدبابات!”.
إن التصنيف البيوسياسي للفلسطيني على أنّه سرطان، متطرف، إرهابي، انتقامي، بغيض، هو مدبّر بشكل متعمد للإيحاء بحالة استثنائية دائمة داخل فلسطين وإسرائيل. إذ تسمح حالة الاستثناء هذه لإسرائيل بتعليق الحقوق المدنية للفلسطينيين.
توضح الباحثة في البيولوجيا السياسية بانو بارغو أنّ حالات الاستثناء غالبًا ما تُستخدم كذريعة للحكومات التي تنوي اعتماد “العنف السيادي الخارج عن القانون ضد شعبها”. كما يقترح الفيلسوف جورجيو أغامبين بأنّ حالة الاستثناء أصبحت “النموذج السائد للحكومة”. وبالتالي، فإنّ اللجوء إلى الإجراءات الخارجة عن القانون قد مكّن اسرائيل من التعليق الروتيني للقانون القضائي، والاعتماد على العنف السيادي المتواصل من النكبة إلى الآن. وبهذا يتضح أنّ توظيف لغة الشيطنة ضد الفلسطينيين أخطر من مجرد متنفس لغوي للكراهية، هو خطوة مدروسة لاستباحة حقوق الفلسطينيين.
هل إسرائيل دولة استعمارية؟
يشير مصطلح “الاستعمار” إلى سياسة أو ممارسة للسيطرة على دولة أخرى، واحتلالها بالمستوطنين، واستغلال مواردها لصالح القوة المستعمِرة. الاستعمار الاستيطاني هو نوع من الاستعمار تستقر فيه مجموعة من الناس في أرض أجنبية وتؤسس سيطرة سياسية واقتصادية واجتماعية على السكان الأصليين. وغالبًا ما يؤدي هذا إلى تهجير السكان الأصليين وإخضاعهم أو حتى القضاء عليهم وإبادتهم.
هذا ويختلف عن الأنواع الأخرى من الاستعمار التي قد يهتم فيها المستعمرون فقط باستغلال الموارد ولا يهدفون إلى الاستقرار الدائم في الأرض. من الواضح أن تاريخ إسرائيل يتوافق مع تعريف الاستعمار الاستيطاني، بدءًا من الحركة الصهيونية في أواخر القرن التاسع عشر، التي سعت إلى إقامة دولة يهودية في فلسطين.
في عام 1948، أعلنت إسرائيل استقلالها، وبذلك طردت بشكل منهجي أكثر من 700 ألف فلسطيني من ديارهم ثم شرعت الدولة المنشَأة حديثًا في احتلال واستعمار المزيد من الأراضي الفلسطينية، بما في ذلك الضفة الغربية وقطاع غزة.
واليوم، تواصل إسرائيل توسيع مستوطناتها، رغم الإدانة الدولية وانتهاك القانون الدولي. يُمنح المستوطنون الإسرائيليون معاملة تفضيلية على الفلسطينيين، ويستخدم الجيش الإسرائيلي العنف والقوة للحفاظ على احتلاله وسيطرته على الأراضي الفلسطينية.
كما تطبق الحكومة الإسرائيلية سياسات تمييزية تستهدف المواطنين الفلسطينيين في إسرائيل، الذين يشكلون قرابة 20٪ من السكان. وتشمل هذه السياسات القيود على ملكية المساكن والأراضي، والقيود المفروضة على المشاركة السياسية، وعدم المساواة في الوصول إلى الفرص الاجتماعية والاقتصادية مما يجعل إسرائيل دولة قائمة على التمييز والفصل العنصري.
علاوة على ذلك، فرضت الحكومة الإسرائيلية حصارًا على غزة منذ عام 2007، مما أدى إلى تقييد حركة الأشخاص والبضائع، الأمر الذي تسبّب في ارتفاع معدلات البطالة، والحد من الوصول إلى السلع والخدمات الأساسية، بما في ذلك الكهرباء والمياه.
بالإضافة إلى ذلك، شنّت الحكومة الإسرائيلية هجمات عسكرية على غزة، تسببت في دمار كبير وخسائر في الأرواح، بما في ذلك ما أطلقت عليه إسرائيل تسمية “عملية الجرف الصامد” عام 2014، التي قتلت أكثر من 2100 فلسطيني، من بينهم أكثر من 500 طفل.
تسيطر إسرائيل حاليًا على البر والبحر والجو، والوقت! فحتى الوقت تمكنت إسرائيل من احتلاله من خلال مراكز التفتيش والسيطرة القمعية على حركة وتنقل الفلسطينيين. ومع ذلك، يبقى وصف إسرائيل بالمستعمر مستهجنًا في الغرب.
في مقالتها “أهمية اللغة في الحديث عن فلسطين” (2016)، تشرح جولي بيتيت كيف يمكن للمصطلحات أن تؤثر بشكل مباشر على تصورنا للخيارات والأفعال السياسية. حسب بيتيت، الكلمات مثل “احتلال” و “استعمار” و “استعمار استيطاني” تحمل دلالات مختلفة يتم توظيفها والتلاعب بها بشكل استراتيجي من قبل إسرائيل. استثناء القضية الفلسطينية من المسار التاريخي للاستعمار والتهجير يؤثر على حق الفلسطينيين في السعي إلى السيادة. لذا، يجب أن يتحول الخطاب من الدعوة إلى الانسحاب من الأراضي المحتلة إلى الدعوة إلى إنهاء الاستعمار.
موتى بطريقة جميلة تلفازيًا
عندما أصبح الإعلام شاهدًا على شهداء المجازر الإسرائيلية في غزة، سارعت إسرائيل إلى استخدام اللغة لتجريد الضحايا حتى من صفة “قتلى” أو “ضحايا”. عام 2014 وصف نتنياهو ضحايا الغارات الإسرائيلية على غزة بالموتى “الصالحين للعرض التلفزي”. مهما كان العدوان على الفلسطيني جائرا فحسب الروايات الإسرائيلية فهو دائما المذنب وليس الضحية.
في عام 2009 أصدرت منظمة مشروع إسرائيل “قاموسًا” للمصطلحات يعدّ أقرب لدليل تخاطب مناور من إعداد المستشار الأميركي الجمهوري فرانك لونتز. “القاموس” يقترح مصطلحات دقيقة “لشرعنة” الخطاب الإسرائيلي بموازاته مع القيم الأميركية وحجب الرواية الفلسطينية بالمقابل.
مثلًا، يوضح الفصل 15 من القاموس أنّ الأطفال والطفولة وسيلة ناجعة لكسب قلوب العالم في “معركة لغوية كبرى”، وذلك من خلال تصوير الفلسطينيين كشعب يقلل من قيمة أطفاله لأنهم مستعدين للتضحية بهم. بذلك تتملص إسرائيل من مسؤولية القتل بقرار منها وتلقي بها على عاتق الضحايا نفسهم.
كما ينصح القاموس بإقامة صلة مستمرة بين “حماس المدعومة من إيران” و”حزب الله المدعوم من إيران”. من الواضح أنّ إسرائيل تواصل العمل على التلاعب اللغوي لكسب التعاطف الدولي.
من الجاني ومن ضحية التطهير العرقي؟
انتهجت إسرائيل منذ النكبة سياسة الاستيلاء اللغوي على الرواية الفلسطينية وتحويرها كي تصبح إسرائيل الضحية لا الجاني. أفضل مثال على ذلك هو الاستيلاء على الاتهام بالتطهير العرقي. ما قامت به الحركة الصهيونية أثناء النكبة بما في ذلك تدمير ما قد يزيد عن 500 قرية فلسطينية، وطرد وتهجير أزيد من 700 ألف فلسطينيًّا من أرضهم، لا يستحق أن يوصف بأقل من تطهير عرقي. في المقابل إسرائيل ترفض الاعتراف بجرائمها وتدعي أن الدعوة لتفكيك المستوطنات الإسرائيلية هي مشروع تطهير عرقي.
قامت الباحثة جولي بتيت بتحليل خطاب نتنياهو الذي يستخدم عبارات “أمطرت علينا صواريخ حماس” وهو وصف غير دقيق يتعمد تضليل الرأي العام عبر إيهامه أنّ حماس أقدمت على عدوان أعجز إسرائيل. في الحقيقة فما وصفه نتنياهو لا يقارب العدوان الإسرائيلي على غزة.
تُعلّق جولي بتيت عن اللغة الاستعمارية المضللة قائلة “في هذا المجال اللغوي، تصبح الأراضي المحتلة أرضًا متنازع عليها والمستوطنات مجرد أحياء. يتم تصور الجانبين على أنهما بطلين متكافئين في الصراع؛ والفلسطينيون يضحون بأطفالهم عن طيب خاطر، مما يُجبر الإسرائيليين على قتلهم دفاعًا عن النفس”.
يتم دس مصطلح “الصراع” بدون وجه حق على تاريخ حركة استيطان بَنت دولة على حساب تدمير فلسطين وقتل وتهجير الفلسطينيين. مصطلح “الصراع” ينفي أحقية الفلسطينيين بالأرض وشرعية مطالبهم بالعودة إلى أرضهم.
في كثير من الأحيان، تشير وسائل الإعلام الغربية السائدة إلى الوضع في فلسطين وإسرائيل على أنه “نزاع”، وإلى مختلف العناصر المحدّدة لهذا الصراع المزعوم على أنه “نزاع”. على سبيل المثال، “النزاع الفلسطيني الإسرائيلي” و “مدينة القدس الشرقية المتنازع عليها”.
يحدث “النزاع” عندما يكون للطرفين مطالبات مقنعة بالقدر نفسه في أي قضية. عندما تُجبر العائلات الفلسطينية في القدس الشرقية على مغادرة منازلها، والتي يتم تسليمها بدورها إلى متطرفين يهود، فلا يوجد أي “نزاع”. المتطرفون لصوص والفلسطينيون ضحايا، هذه ليست مسألة رأي، القانون الدولي نفسه يتفق مع ذلك.
“الصراع” مصطلح عام. وبما أنّ الغرب قد تلقّن عقيدة حب إسرائيل وكراهية العرب، فإنّ الوقوف إلى جانب إسرائيل في “صراعها” مع الأخير يصبح الخيار العقلاني الوحيد. حافظت إسرائيل على احتلال عسكري بنسبة 22٪ من الحجم الإجمالي لفلسطين التاريخية منذ يونيو/حزيران 1967. وقد اغتصب ما تبقى من الوطن الفلسطيني، باستخدام العنف الشديد والفصل العنصري الذي تقره الدولة.
من منظور القانون الدولي، لم تكن مصطلحات “احتلال”، “القدس الشرقية المحتلة”، “مستوطنات يهودية غير شرعية”، وما إلى ذلك، محل نزاع مطلقًا. إنها مجرد حقائق، حتى لو اختارت وسائل الإعلام الأميركية الرئيسية التلاعب بالمصطلحات، لتقديم إسرائيل على أنها ضحية، وليس معتدية.
بعد محاولة إسرائيل طرد سكان حي الشيخ الجراح بالقدس، استخدمت الصحافة العالمية لغة غير معهودة لإدانة إسرائيل. هذا النهج الصحفي الناشئ حديثًا، وعلى الرغم من قصر عمره كان له أيضًا تأثير على مصطلحات مستخدمة مثل “الضم غير القانوني” و”الاستعمار الاستيطاني”، استخدمت بجرأة من قبل وسائل الإعلام الرئيسية في الولايات المتحدة. كما أثار الجدل الأيديولوجي نقاشًا جديدًا حول مخاوف أعمق مثل أخطار الخلط بين معاداة إسرائيل ومعاداة السامية.
تبرئة جيش الاحتلال من خلال تسميته
يشير مصطلح “جيش الدفاع الإسرائيلي” إلى دور الجيش كقوة سلمية تعمل فقط للدفاع عن إسرائيل. ومع ذلك، وكما سيُظهر هذا المقال، فإن جيش الاحتلال سبّاق للهجوم وانتهاك الحقوق. نظراً للدور الدي يلعبه جيش الاحتلال فتسميته بجيش الدفاع مجرد حيلة لغوية للتلاعب بالرأي العام.
لطالما اتّهم جيش الاحتلال الإسرائيلي بارتكاب جرائم حرب وانتهاكات لحقوق الإنسان ضد الفلسطينيين. ووُجهت هذه الاتهامات من قبل منظمات حقوقية مختلفة، بما في ذلك منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش. تم اتهام الجيش الإسرائيلي باستخدام القوة المفرطة وقتل المدنيين الأبرياء وتدمير المنازل والبنى التحتية الأخرى في الأراضي المحتلة.
أخطر الاتهامات الموجهة للجيش الإسرائيلي هي جرائم الحرب. بموجب القانون الدولي، تشمل جرائم الحرب أفعالاً مثل قتل المدنيين عمدًا والتعذيب. الجيش الإسرائيلي متهم بارتكاب كل هذه الأعمال وأكثر.
من أكثر الحوادث المعروفة مقتل أربعة صبية من عائلة بكر كانوا يلعبون على شاطئ غزة في عام 2014. كان الأولاد، هم وأبناء عمومتهم، يلعبون كرة القدم عندما أطلقت سفينة بحرية إسرائيلية النار عليهم، مما أسفر عن مقتل الأربعة. تم تسجيل الحادث بالفيديو وحظي باهتمام إعلامي واسع. زعم جيش الاحتلال الإسرائيلي أنه اشتبه بكونهم من نشطاء من حركة حماس لكن شهود العيان ومنظمات حقوق الإنسان شككوا في ذلك.
حادثة أخرى حظيت باهتمام دولي كانت مقتل أكثر من 60 فلسطينيًا خلال الاحتجاجات على حدود غزة في 2018. استخدم الجيش الإسرائيلي الذخيرة الحية ضد المتظاهرين، الذين كانوا غير مسلحين، وأصاب أكثر من 1000 آخرين. واتهمت منظمات حقوقية الجيش الإسرائيلي باستخدام القوة المفرطة وارتكاب جرائم حرب.
بالإضافة إلى جرائم الحرب، تم اتهام الجيش الإسرائيلي بارتكاب مجموعة واسعة من انتهاكات حقوق الإنسان ضد الفلسطينيين. وتشمل هذه الانتهاكات الاعتقال التعسفي والتعذيب وتدمير المنازل والبنى التحتية الأخرى. من أكثر انتهاكات حقوق الإنسان إثارة للقلق استخدام الاعتقال الإداري. وهذه ممارسة يتم فيها احتجاز الفلسطينيين لفترات طويلة دون تهمة أو محاكمة.
التعذيب هو ممارسة شائعة أخرى يستخدمها جيش الاحتلال الإسرائيلي. يعدّ استخدام التعذيب غير قانوني بموجب القانون الدولي، ومع ذلك لا يزال الجيش الإسرائيلي يستخدمه ضد الفلسطينيين. تشمل أساليب التعذيب الضرب والحرمان من النوم والوضعيات المجهدة.
تدمير المنازل والبنية التحتية الأخرى هو انتهاك رئيسي آخر لحقوق الإنسان يرتكبه جيش الاحتلال الإسرائيلي. غالبًا ما يتم هدم المنازل كشكل من أشكال العقاب الجماعي، حيث يتم معاقبة أسر المقاتلين المزعومين على أفعال فرد واحد. بالإضافة إلى المنازل، دمّر الجيش الإسرائيلي المدارس والمستشفيات والبنية التحتية الأساسية الأخرى في الأراضي المحتلة.
القتل المبني للمجهول
غالبًا ما تحذف العناوين الرئيسية في التقارير الإخبارية الواردة عن إسرائيل هوية مرتكب أعمال العنف ضد الفلسطينيين، بينما تشير بصيغة المبني للمجهول إلى “مقتل المتظاهرين”. يعد استخدام صيغة المبني للمجهول أداة دعائية شائعة الاستخدام، فهي تسمح للدعاية بالتعبير على الأخطاء دون الاعتراف بالمسؤولية عنها. هذه اللغة تخفي حقيقة أنّ الجيش الإسرائيلي مسؤول عن قتل العديد من الفلسطينيين.
على سبيل المثال، يقول عنوان صحيفة ذا نيويورك تايمز “احتجاجات عنيفة تترك العشرات من القتلى، مع افتتاح السفارة في القدس”، مما يعطي الانطباع بأنّ المتظاهرين كانوا سبب العنف، وليس القناصة الإسرائيليين الذين قتلوهم. هذا تصوير مضلل يحوّل اللوم عن مذبحة ارتكبها الجنود إلى احتجاج عنيف.
كما أنّ هناك نقصًا في المعلومات الواضحة حول كيفية مقتل الفلسطينيين. تميل التقارير إلى أن تكون غامضة، مستشهدة بالفوضى والدخان والغاز المسيل للدموع. الأمر الذي يسمح للحكومة الإسرائيلية بإخفاء أخطائها وتجنب المساءلة عن أفعالها.
من المهم الاعتراف بالحقائق وكان من الأصدق تقديم السياق كاملًا: يعيش سكان غزة في سجن مفتوح مع نقص في الغذاء والماء والكهرباء، ويُحرمون من الإمدادات الأساسية بسبب الحصار المستمر. احتجّ الفلسطينيون من خلال محاولة عبور الحدود إلى إسرائيل، في محاولة للعودة إلى الأرض التي كانت عائلاتهم قد اتصلت بها ذات يوم. المقاومة هذه تهدف إلى لفت الانتباه إلى عبثية استخدام القوة العسكرية لإبقاء الناس في أقفاص ومنفصلين عن وطنهم. استخدمت إسرائيل الذخيرة الحية لفتح النار على المتظاهرين.
تبرّر إسرائيل عمليات القتل من خلال وصف الاحتجاجات على الحدود بأنها عنيفة، على الرغم من حقيقة أنه لم تكن هناك تهديدات خطيرة للإسرائيليين. لا يشمل تعريف العنف هنا الأذى الجسدي الفعلي للمواطنين الإسرائيليين، بل محاولة اختراق الحدود. هذا تعريف ضار، لأنه يساوي الضرر الذي يلحق بالأسوار بالضرر الذي يلحق بالبشر. حتى أنّ إسرائيل هددت بقتل كل من يحاول عبور الحدود، واصفة إياه بالدفاع عن النفس. هنا تعريف إسرائيل “للأمن” يعطي الأولوية للحدود الجغرافية على حياة الإنسان، ويبرر قتل أي شخص يتجاوز الخط التعسفي.
ختاما منذ النكبة، تم تسليح الكلمة واستمر استخدامها ضد الفلسطينيين لحرمانهم من حقهم في الانتماء إلى الأرض حتى اليوم، فالحرب اللغوية مستمرة بالتوازي مع الحروب الميدانية. لذلك يجب أن تعتمد مقاومة الاستعمار بشكل كبير على مقاومة اللغة الاستعمارية المضللة. إسرائيل دولة استعمارية، وعلى العالم أن يعترف بهذه الحقيقة. وعلى الرغم من محاولات إنكار ذلك، يعكس تاريخ إسرائيل وسياساتها الحالية أجندة استعمارية أدت بشكل منهجي إلى تهجير واضطهاد الشعب الفلسطيني لعقود.
إنّ مقاومة الاستعمار هي أيضًا مجهود لغوي لمنع اللغة المضللة من أن تكون هي اللغة السائدة. فاللغة قادرة أن تمنع جيش العدوان من أن يتحول إلى “جيش الدفاع” وقادرة على وصف إسرائيل بالوصف الدقيق اللائق بسياستها وتاريخ نشأتها: استعمار.
المصدر: عرب 48