Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار الشرق الأوسط

المؤتمر الوطنيّ الفلسطينيّ… فعل تحرّريّ ممتدّ

على مرّ تاريخ المجتمعات البشريّة حتّى اليوم، لم تنقسم النخب بين من ينافح عن النظام القائم بغضّ النظر عن عدالته أو ظلمه، وبين من يتحدّى النظام السياسيّ والاجتماعيّ، فحسب، بل أيضًا انقسمت النخب ذاتها الّتي تتحدّى النظام حول الوسائل والرؤى والبرامج.

عرفت كلّ من الحركات الاجتماعيّة المناهضة للنظم السياسيّة الحاكمة في بلادها، والحركات الوطنيّة التحرّريّة الّتي خاضت نضالًا تحرّريًّا ضدّ الوجود الاستعماريّ في بلادها هذه الانقسامات، بل الصراعات المريرة. وقد كتبت كتبًا ودبّجت مقالات نظريّة وفكريّة، وعقدت مؤتمرات وأقيمت أطر ومنظّمات نتيجة هذه الاختلافات والصراعات حول كيفيّة التغيير، وحول الأيديولوجيّات والعقائد المحبّذة.

في حالة حركات التحرّر الوطنيّ، شكّل الانقسام جرحًا عاطفيًّا ونفسيًّا كبيرًا على المستوى الشعبيّ، جرحًا أشدّ وأكثر وقعًا ممّا هو الحال في الحركات الاجتماعيّة، كون العدوّ أجنبياً غريباً، وليس نظامًا من حكّام البلد.

في الحالة الفلسطينيّة، أوصلنا الانقسام الّذي تجذّر بمعايير خياليّة بل سرياليّة، إلى واقع شديد التعقيد تداخل فيه التكلّس والفئويّة والعامل الشخصيّ، والعوامل الخارجيّة الّتي باتت تتحكّم بخيارات أحد أطراف الانقسام، ما انعكس سلبًا على النخب أيضًا، وعلى قدراتها في خلق البديل.

من نافل القول أن نذكر أنّ غالبيّة الشعب الفلسطينيّ، وكذلك نخبه، لا يساوون بين من يقاوم ويقدّم التضحيات بالأرواح، حتّى لو ارتكب أخطاء في الحسابات وفي قراءة تعقيدات المشهد الإسرائيليّ والإقليميّ والدوليّ، وبين من قبل وذوت الهزيمة، ومستمرّ في تكريسها من خلال التسليم بدوره كوكيل.

ولكنّ الوجه الآخر من الأزمة، ليس كامنًا في طرفي الانقسام، وليس في من حاول التوسّط العبثيّ بينهما منذ حدوث هذا الجرح الغائر في الجسد الفلسطينيّ، بل في الّذين يسعون إلى تشكيل بديل عن هذه الحالة الرثّة، إذ إنّ العديد من هؤلاء يتصرّفون تجاه بعضهم كما تتصرّف السلطة السياسيّة الحاكمة تجاههم. لا يصبرون على بعضهم، وتحكمهم رواسب قديمة، ويصدرون الأحكام المجحفة بخفّة بالغة، غافلين عن كارثيّة الواقع والمشهد السياسيّ، الّذي يتطلّب أقصى درجات المسؤوليّة والتعقّل.

خاض المبادرون إلى التغيير حتّى الآن محاولات متكرّرة لإصلاح الحالة الفلسطينيّة السياسيّة الداخليّة، وعمر بعض هذه المبادرات سنوات، دون النجاح في إحداث كوّة في جدار العدميّة الّذي يحتمي خلفه عتاة الفساد السياسيّ والمتمسّكين بامتيازاتهم. ومع ذلك، وهو أمر مهمّ، لم يتوقّفوا عن تجديد المحاولات وطرح أفكار جديدة.

يتوزّع هؤلاء المبادرون، المستقلّون على التنظيمات، بين مثقّف وأكاديميّ، وناشط، وإعلاميّ، وقياديّ سابق في تنظيم سياسيّ. وبطبيعة الحال، ومثلما هو الحال في كلّ مجتمع، فإنّ تجاربهم ورؤاهم وأيديولوجيّاتهم متنوّعة، وكذلك تصوّراتهم لإستراتيجيّة الخلاص الوطنيّ.

حتّى الآن لم تنجح كلّ المحاولات في جمع كلّ من يحمل راية التغيير في كتلة تاريخيّة عريضة وفاعلة، قادرة على إحداث ارتجاجات في الواقع السياسيّ الفلسطينيّ، وتوليد قيادات جديدة تعيد تشكيل النظام السياسيّ الفلسطينيّ، وتقود المشروع التحرّريّ نحو دحر النظام الاستعماريّ وتحقيق العدالة.

لكن، يمكن القول إنّ مجموعة واسعة من هذه النخب الناشطة تمكّنت مؤخّرًا من إرساء تقليد جديد من التعاون والتحاور وإتقان العمل الجماعيّ، متجاوزة صعابًا ورواسب كثيرة، وهي الّتي افتتحت مؤتمرًا وطنيًّا في العاصمة القطريّة، الدوحة، لمدّة ثلاثة أيّام، 17 – 19 من الشهر الجاري، وهو المؤتمر الوطنيّ الفلسطينيّ.

جاء هذا المؤتمر تتويجًا لنشاط مكثّف وحوارات على مدار عام، ومتمّمًا لنداء أطلقه ما يزيد عن 1500 شخصيّة فلسطينيّة من خيرة أبناء الشعب الفلسطينيّ، من الداخل والخارج، قبل عام، أي بعد أربعة أشهر من حرب الإبادة على غزّة والتطهير العرقيّ على الضفّة الغربيّة.

تجاوز الكثيرون ممّن شاركوا في النقاش حول المكان، وممّن لديهم تحفّظ ونقد لما يعتبرونه دور قطر، تصرّفوا برجاحة عقل وواقعيّة من خلال التركيز على جوهر المهمّة، خصوصًا بعد أن رفضت الجزائر، بلد المليون شهيد، تحت ضغط فريق السلطة الفلسطينيّة، استضافة هذا المؤتمر. وهذا البلد العزيز على الشعب الفلسطينيّ كان خيار كلّ أعضاء المؤتمر بلا استثناء. وقد مارست السلطة الضغط على دول عربيّة أخرى لرفض قبول عقد المؤتمر على أراضيها، ونجحت. وحجّتها الّتي تثير السخرية أنّ المؤتمرين يسعون لإقامة بديل عن منظّمة التحرير الفلسطينيّة، مع أنّ الهدف الرئيسيّ للمؤتمر هو تحرير منظّمة التحرير الفلسطينيّة من سلطة أوسلو المعتقلة تحت الاحتلال، وإعادة بنائها كحركة تحرّر وطنيّ، تمثّل الكلّ الفلسطينيّ، عبر الانتخابات الديمقراطيّة، في الداخل والخارج.

إنّ مهمّة المؤتمر تنطوي على تحدّيات وصعوبات جمّة، من الداخل والخارج، وهي مهمّة كفاحيّة حقيقيّة، وتعتبر في هذه الظروف مقدّسة. ولذلك، لا يعتبر المؤتمر نهاية المطاف، بل منطلقًا لمسار بناء سياسيّ مستمرّ، وفعل تحرّريّ ممتدّ يبني ويجمع، متبنّيًا برنامج عمل مفصّل ورسالة وحدويّة تحرّريّة، تفتح أفقًا للعمل الوطنيّ المشترك، وتخطّ نهجًا وطنيًّا متجدّدًا، يعتمد التخطيط العقلانيّ والقراءة الصحيحة لعلاقات القوّة القائمة، وما يترتّب على ذلك من بلورة لإستراتيجيّة عمل معقولة.

يمكن القول إنّ كتلة وطنيّة صلبة ونوعيّة ووازنة، مكوّنة من أفضل الخبرات والتخصّصات فضلًا عن التجربة، في طور التشكّل. كتلة تفكّر وتتبادل الآراء بين أعضائها، وتنأى بنفسها عن التهويش والنزق، فالكارثة الإنسانيّة والمخاطر السياسيّة الّتي يعيشها الشعب الفلسطينيّ لا تحتمل كلّ ذلك. كما أنّ ما سطره الشعب الفلسطينيّ من صمود ملحميّ في وجه التوحّش الغربيّ – الصهيونيّ، يستحقّ أن يقابل بما يليق به.

المصدر: عرب 48

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *