المشهد السوري بعيون سورية
تتسارع الأحداث في سورية بعد ما أطلقت عليها فصائل المعارضة السورية في الأسبوع الماضي عملية “ردع العدوان”، إلى ما هو أبعد مما تقصده العملية في مسمّاها، مستعيدة فيها سيطرتها على كبرى المدن السورية من حلب إلى حماة نزولا حتى أبواب حمص، فيما تحركت مؤخرا في جنوبي سورية فصائل محلية في درعا أخرجت المدينة عن سيطرة النظام، وكذلك في السويداء التي تشهد حراكا سلميا مناهضا للنظام في الأشهر الأخيرة، وتمكن قوى محلية فيها من السيطرة على مقرات ومبانٍ تابعة لإدارة وأمن النظام، فيما متوالية انهيار جيش النظام وأجهزته الأمنية تتسارع تباعا على نحو غير متوقع.
لا يمكن فصل ما يحدث في سورية عن سياق الجاري إقليميا منذ طوفان الأقصى، بما ترتب على هذا الأخير من حرب إبادة على قطاع غزة، ثم على لبنان وضرب حزب الله حتى إضعافه، والاستهداف الإسرائيلي المستمر للوجود الإيراني في سورية، وكذلك الانشغال الروسي بالحرب مع أوكرانيا؛ بالتالي، لا يمكنا النظر إلى عملية “ردع العدوان” من دون أخذ العامل الخارجي الإقليمي منه والدولي بعين الاعتبار، خصوصا تركيا الدولة التي اعتبرت امتدادا جغرافيا وسياسيا، وكذلك عسكريا لأزمة السوريين منذ اندلاع ثورتهم سنة 2011، وقد بدا الرئيس التركي أردوغان في تصريحاته، أمس الجمعة، بشأن العملية العسكرية التي تشنها فصائل المعارضة في سورية، كما لو أنه زعيم سوري معارض يشرف على سير العملية من منفاه، حين أكد على أن العاصمة دمشق ستكون هدفا لها.
ومع ذلك، فإن ترحيل كل ما يتصل بالسؤال السوري إلى العامل الخارجي والأجندات الأجنبية يظلُّ تعسفا بحق السوريين، وقصورا يغفل أهمية الفواعل الداخلية – السورية وتأثيرها على الدفع بعملية “ردع العدوان”، ومن ثم مجراها كما لو أنها شقيقة الطوفان من سورية شمالا في إدلب وصولا إلى درعا في الجنوب، لأنه لا يعقل النظر إلى الشعوب والمجتمعات العربية رغم فشل دولها حديثا، على أنها مجرد أحجار على رقعة شطرنج الأجندة الخارجية، ووضعها خارج قوانين الاجتماع والتاريخ.
منذ أن اندلعت الثورة السورية في آذار/ مارس 2011، وقبل تحولها إلى احتراب أهلي داخلي، واعداؤها وكذلك خصومها من النظام ومن حلفائه يداومون على رد بواعثها للأجندة الخارجية، إلى حد اعتبروا فيه ثورة السوريين “مؤامرة كونية” على سورية، في محاولة لنزع الشرعية عن الثورة، فيما هذه الأخيرة كانت تستمد شرعيتها من مجرد حدوثها. لذا، فمن لم يكن مع ثورة السوريين عام 2011 في ظل سياق ثوري – عربي في حينه، لن يكون اليوم مع “ردع العدوان” الذي يأتي في سياق حرب إبادة تشنها إسرائيل على غزة، وعلى بعض قوى المحور الإيراني الذي يعتبر النظام السوري أحد أركانه.
يُتهم “ردع العدوان” السوري، وفي توقيته خصوصا، بالعبث الخارجي، وسؤال “التوقيت” عربيا، هو سؤال تشكيكي عادة أقرب ما يكون إلى عالم سوق سوداء الأفكار. تماما كما يشكك من يقف في صف نتنياهو وحربه على غزة طوفان الأقصى بوقوف أطراف خارجية – إيران مثلا – خلف اندلاعه صبيحة يوم السابع من أكتوبر 2023؛ فيما بواعث الطوفان وفواعله كانت داخلية في أصلها، متصلة بسياسات الحصار والتجويع والتركيع التي مارستها حكومات الاحتلال الإسرائيلي على مدار سنوات طويلة في القطاع. وكذلك هو “ردع العدوان” في سورية، ينبعث من تحت رماد نار إرث ثورة السوريين وقمعهم وقتلهم، ثم تشريدهم بالملايين على يد النظام السوري الذي استعان عليهم بالميلشيات الطائفية الإقليمية والقوى الأجنبية. كان الدعم العسكري الخارجي شرط بقاء نظام الأسد وليس الثورة عليه، التي ظلت داخلية في أصلها وأصالتها حتى من خارج سورية، فيما بقي النظام السوري يتصرف دخيلا على الأرض السورية وشعبها، حتى بعد هزيمته للسوريين الثائرين عليه سنة 2016.
قد يفسر العامل الخارجي (الإقليمي والدولي) توقيت اندلاع عملية “ردع العدوان”، غير أن جهوزية مقاتلي المعارضة وعزيمتهم القتالية، في مقابل تآكل معنويات جيش النظام وانهياره أمام ضربات المعارضة في حلب وحماة وريفهما، لا يفسره إلا محلية الشأن السوري وحال السوريين، خصوصا وأن من أهالي المدن المستعادة قد استقبل المعارضين استقبال الفاتحين فيما يحمل هؤلاء بنادقهم والخبز معا، والخبز وليس البنادق من يفسر حال السوريين من النظام وأحوالهم في ظله. كانت مشاهد كسر مقاتلي المعارضة لأقفال أبواب سجون النظام كافية لتظهير رمزية كل ذلك الإرث المتصل بالظلم الذي وقع على السوريين، ولا نظن أن أي فلسطيني حر يزعجه كسر أقفال سجون أقفلت على مساجينها بعضهم لمدة أربعة عقود، بلا تهمة في حماة وحلب.
استطاعت المعارضة بخطابها الذي بدا أنضج سياسيا مما كان عليه، وأبعد عن الروح الثأرية والانتقام، وكذلك سلوك مقاتليها المسؤول تجاه المدن وأريافها المُستعادة، تحويل بعض سكانها إلى ثوار معهم على النظام أو حاضنة لردع العدوان على الأقل. كما نجحت فصائل المعارضة حتى الساعة في تحويل عمليتها من مجرد هجوم عسكري إلى حراك ثوري – وطني مسلح متجاوز لجغرافيا الشمال السوري بعد استجابة مدينتي درعا والسويداء في الجنوب، وكذلك متجاوزة للمعارضة المحسوبة على طائفة بعينها.
ومع ذلك، لم يحسم سؤال مصير النظام السوري بعد، بالرغم من رفع حلفاء النظام (روسيا وإيران) أياديهم عنه كما تشي تصريحاتهم في اليومين الأخيرين، بأنه “لا تملك روسيا خطة لإنقاذ الأسد كما تجهل إيران مصيره”. وهذا يعني أن النظام بات عبئا عليهما، كما بات عبئا على المقاومة أيضا، التي لا يمكنها من أجل إبقاء سورية مجرد خط إمداد للسلاح من إيران إلى لبنان، مشروطة بقتل السوريين وتهجيرهم.
مصير سورية منوط بالسوريين أولا وأخيرا، ووعيهم بالتحديات التي تحيق بهم وبوطنهم، خصوصا وأن سورية محفوفة بالأجندات الخارجية الإقليمية منها والدولية. وما من تغيير إلا والتخلص من النظام المتهاوي شرطه الأول، وعودة السوريين من مخيمات لجوئهم ومنافيهم إلى مدنهم وقراهم، لأن سورية للسوريين، تماما كما أن فلسطين للفلسطينيين. وعلى المعارضة من اختلاف مشاربها المثابرة على إنتاج خطاب وطني جامع لكل السوريين باختلاف مكوناتهم المذهبية والإثنية، فالناس في المدن المستعادة تسلم للمعارضة مصيرها ومخاوفها معا، و”الملدوغ يخاف من جرة الحبل” كما يقول المثل الشعبي المأثور.
حفظ الله سورية وكل السوريين وسائر بلاد العرب.
المصدر: عرب 48