المواطنة الاستيطانية الاستعمارية في فلسطين الانتدابية
في دراسة بعنوان “التحديث والاقتلاع: المواطنة الاستيطانية الاستعمارية في فلسطين الانتدابية تاريخيًا”، المنشورة على موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية، يشير الباحث أمير مرشي بتحفظ إلى أن العديد من الأبحاث تعتبر سنة 1948 نقطة انطلاق تاريخية للنكبة وفهم الدولة الصهيونية، متجاهلةً الاستمرارية والتكامل مع الفترات التي سبقت إنشاء دولة اليهود. يركز الباحث على القوانين الاستعمارية وسيرورة إقصاء الشعب الفلسطيني وسلبه وتهجيره، محاولاً إعادة موضعة سنة 1917، التي تزامنت مع صدور وعد بلفور وبداية الانتداب البريطاني على فلسطين، كنقطة انطلاق حقيقية.
تغطية متواصلة على قناة موقع “عرب 48” في “تليغرام”
تدّعي الدراسة أن المشاريع الغربية فرضت سيادتها على الشعوب المستعمرة من خلال نموذج التحديث الذي تمثل أساسا في مشروع بناء الدولة القومية، وفرض السيادة الاستعمارية عبر سلطة الدولة الحديثة، التي أعادت إنتاج العلاقات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في الفضاء المستعمَر.
وفي فلسطين، قام الانتداب البريطاني في هذا السياق بتطبيق قوانين الجنسية عامة وقانون المواطنة النظامية لعام 1925 خاصة، وفق هذه المعايير الغربية. أرست المواطنة “التوثيقية” تصنيفا قانونيا وديمغرافيا جديدا للفلسطينيين، وفقا لفهم للجنسية والمواطنة يعكس المعايير الغربية. ووفقا للدراسة، شكّل هذا التصنيف أيضاً مصالح السيادة القومية الصهيونية على فلسطين والفلسطينيين المستعمَرين، حيث نزعت شرعية الانتماء الفلسطيني التاريخي إلى الأرض، وشرعنة الانتماء اليهودي العالمي إلى الأرض الفلسطينية.
وتشير الدراسة إلى أن “قانون القومية” لعام 1925 فضّل الحقوق الجماعية للمستعمِرين اليهود في الدستور، وشرّع الانتماء الجماعي (“القومية العالمية”) إلى أرض فلسطين، بينما أنكر الاعتراف بالحقوق القومية الجماعية للسكان الفلسطينيين الأصليين، كما أنكر أي صلة تجمعهم بأرضهم التاريخية. اعتبر القانون الإقامة خلال مدة زمنية محددة العامل الأساسي للاعتراف بحق الفلسطيني في المواطنة، مما حوّل الجنسية الفلسطينية عمليا، وبحسب القانون، إلى سمة أجنبية، وليس طابعا رسميا يشرعن علاقة الإنسان بالأرض والوطن.
وعند النظر إلى نص وعد بلفور وإشارته إلى “الجماعات غير اليهودية المقيمة في فلسطين”، يمكن استنباط أن النهج القانوني في التعامل مع الفلسطينيين صنّفهم منذ البداية كجماعة “مقيمة”، ما يعني أن علاقتهم بالأرض ترتبط بوجودهم الجسدي المادي عليها فقط. أدى ذلك إلى إسقاط الحقوق التاريخية للفلسطينيين وأحفادهم، وعلاقتهم الجماعية بالأرض، وتشتيتهم واقتلاعهم من الحيز المكاني الجغرافي الذي ينتمون إليه. وأرسى هذا القانون، وفق الدراسة، الإطار التشريعي الذي سهّل تنفيذ المشروع الاستعماري الاستيطاني على أرض فلسطين من جهة، وقمع الحقوق الوطنية للفلسطينيين من جهة أخرى.
كما تُظهر الدراسة مدى الاتساق بين هذه القوانين وممارسات دولة إسرائيل الحالية، من خلال “حق العودة” ليهود العالم ورفض حق عودة الفلسطينيين، وقانون أملاك الحاضرين الغائبين، وهي قوانين تضفي الصفة الرسمية على العلاقة بين “الشعب اليهودي” في أماكن وجوده كافة والأرض الفلسطينية، مع ضمان التمثيل المؤسساتي من طرف دولهم الأصل. أما الفلسطينيون، فيُشرعَن حقهم في المواطنة فقط في حال وجودهم الفعلي على الأرض، بينما يُترك غير الموجودين من دون حق العودة إلى وطنهم، ومن دون أي تمثيل مؤسساتي رسمي وفعّال في أماكن وجودهم.
لإلقاء المزيد من الضوء حول الموضوع، أجرى “عرب 48” هذا الحوار مع باحث الدكتوراه في جامعة ميشيغان، أمير مرشي.
“عرب 48”: تتحدث عن توظيف الدولة الحديثة عموما كآلية استعمارية، وفي فلسطين تحديداً يظهر انعكاس تشابك مصالح الكولونيالية البريطانية والحركة الصهيونية من خلال إدماج وعد بلفور في منظومة المواطنة التي أنشأتها السلطة الاستعمارية؟
مرشي: الصورة التي انطبعت في أذهاننا عن الانتداب البريطاني بأنه نظام عسكري، هي صورته ما بعد ثورة البراق عام 1929، والتي شهدت أيضاً أحداث ثورة 36-39 وأحداث نكبة 48. لكن في بدايته، وأقصد من 1917 وحتى ذلك التاريخ، كان الانتداب البريطاني نظاماً “طبيعياً” يحاول أن يؤسس نفسه على منظومة استعمارية تخدم المشروع الصهيوني في فلسطين، ولكن من خلال أدوات سياسية وقانونية.
وفي هذا السياق، يجب التنويه إلى أنه بعكس الفكرة القائمة لدى الكثير من الباحثين بأن الانتداب البريطاني هو استعمار “عادي” إلى جانب منظومة صهيونية تؤسس نفسها لإقامة دولة إسرائيل، فإنه في الواقع صهيوني بحد ذاته. فأول مندوب سامٍ بريطاني في فلسطين، والذي يحتل مكانة رئيس دولة (هربرت صموئيل)، كان يهودياً صهيونياً. هذا ناهيك عن أن الوكالة اليهودية كانت هي من تصنع القوانين وتعدّ القرارات التي تتبناها سلطة الانتداب البريطاني، وكأننا نتحدث عن منظومة صهيونية بنفس المفهوم الذي نعيشه (أهل الداخل) اليوم، ولكن تحت يافطة بريطانية.
“عرب 48”: تقصد التشابه في سياق قمع التطلعات الوطنية من خلال آليات سياسية وقانونية بخلاف ما يجري في غزة والضفة الغربية؟
مرشي: صحيح، وهذا يدحض الفكرة التي تدّعي أننا بحالة مميزة لتمتعنا بالمواطنة، نسبة إلى الفلسطينيين الآخرين الذين يقعون تحت احتلال عادي، متجاهلين أن الاستعمار كان عموماً تحت منظومة استعمارية كلاسيكية، وهو ما ساد في فلسطين في العقد أو حتى العقدين الأولين، أي حتى 1936 تقريباً، إذا استثنينا فترة أحداث ثورة البراق.
خلال تلك الفترة، كان الفلسطينيون تحت منظومة مواطنة شبيهة بالمواطنة التي يتمتع بها فلسطينيو الداخل اليوم، والتي هي مواطنة منقوصة مصممة للنيل من حقوقنا، وليس لإعادة حقوقنا.
“عرب 48”: كأنك تتحدث في دراستك عن “مواطنة” و”قانون قومية” وغيرها من المصطلحات السياسية والقانونية الدارجة في علاقتنا مع الدولة اليوم، بلغة الماضي الاستعماري البريطاني، فيبدو وكأنها مفاهيم مستنسخة يُعاد تغليفها بغلاف إسرائيلي؟
مرشي: هناك الكثير من الأكاديميين الذين يبحثون في موضوع المواطنة الاستعمارية، مثل نديم روحانا وأريج خوري صباغ، يدعون أن المواطنة أداة بيد الاستعمار. وهذا يتعارض مع الخطاب الذي يقول إن المواطنة أداة للتحرر من الاستعمار، وهو ما يشير إلى تناقض كبير في خطابنا كحقوقيين نؤمن بقيم الدولة الحديثة إلى حد ما، ويستدعي منا المراجعة وإعادة التفكير.
منظومة الانتداب كانت تبني نفسها في السنوات الأولى بمعزل عن المقاومة الفلسطينية، وفي ظل حالة هدوء نسبي. وبالعودة إلى الوراء اليوم، نستطيع أن نفهم مدى تأثير هذه المنظومة القانونية والسياسية على المجتمع الفلسطيني في تلك الفترة.
حينها، كان المؤتمر العربي الفلسطيني، الذي تبنّى في مؤتمريه الأول والثاني فكرة القومية السورية التي كانت تعتبر فلسطين جزءاً من سوريا الكبرى، قد تخلى عن هذه الفكرة في المؤتمر الثالث، بعد أن تخلى فيصل عن بعض حقوق الفلسطينيين. لاحقاً، تم سحق هذا المشروع من قبل الفرنسيين والبريطانيين. بعدها جاء تكوين اللجنة العربية بقيادة موسى كاظم الحسيني. إذا ما استرجعنا تلك الفترة، وخاصة السنوات العشر الأولى للانتداب، نجد أن العمل انصب على بناء منظومة الدولة الحديثة القائمة على المواطنة.
“عرب 48”: لكن الصهيونية كانت في صلب بناء الدولة تلك وهي من ترافق وتسير خطواتها نحو إقامة الدولة اليهودية؟
مرشي: نعم، الفلسطينيون توهّموا أن بإمكانهم أخذ بنية الدولة الحديثة، التي تقوم المواطنة في مركزها، حتى لو كانت استعمارية، لتشكل أساساً لدولتهم العتيدة. لكن في الواقع، فإن الدولة الحديثة تقوم على دستور وقوانين مبنية على وعد بلفور.
الدستور هو أساس التشريع ومبني على وعد بلفور، ولا يمكن استخدام أدوات هذه الدولة عندما يكون دستورها مبنياً على فكرة إقامة الدولة اليهودية.
“عرب 48”: المسألة إذن لم تقتصر على أن وعد بلفور كان جزءاً من صك الانتداب فقط، بل هو في أساس دستور الدولة؟
مرشي: صحيح، وهذا ما أورده رشيد الخالدي في كتابه القفص الحديدي، بأن وعد بلفور تم ترجمته إلى دستور الانتداب. الدستور يضم 28 صكاً، جميعها ترجمة لوعد بلفور، سبعة منها تمثل ترجمة مباشرة لهذا الوعد، في حين أن أيّاً من هذه الصكوك لا يعطي شرعية لمشروع وطني يستطيع أن يتبناه أهالي البلد.
بين تلك المواد، تأتي الفقرة 2 التي نصّت على تهيئة الظروف السياسية والاقتصادية “لتأمين إقامة وطن قومي لليهود”، بينما ألزمت الفقرة 7 الانتداب بـ”سنّ قانون للقومية” يتوافق مع وعد بلفور. وقد جاء في نصها أنه “يجب أن يشتمل ذلك القانون على نصوص تسهّل اكتساب الجنسية الفلسطينية لليهود الذين يتخذون فلسطين مقاماً دائماً لهم”. وبصورة عامة، خُصّصت حقوق فردية وسياسية منفصلة للفلسطينيين العرب الذين شكّلوا نحو 93% من السكان في ذلك الوقت.
وفي سنة 1925، قُدّم مقترح “قانون الجنسية”، وجرى إقراره بالطريقة ذاتها، وبالروح والوتيرة اللتين صيغ وأُقر فيهما لاحقاً “قانون القومية” لعام 2018. في الحالتين، لم يكن للسكان الفلسطينيين الأصلانيين أي دور في صوغ القانون وتحديد طبيعته، بينما كان للصهاينة الدور الكامل في ذلك.
وباعتباره قانوناً قائماً على تصنيف من يملك، ومن لا يملك حق المواطنة في الدولة، ومن يحظى بحق حماية الدولة له، والسفر، والتجنيس، فقد عمل على بناء وصيانة هوية قومية معينة ومحددة (اليهود)، بينما قمع وأقصى هوية قومية أخرى (الفلسطينيون). جاءت المعايير التي حددها مرسوم الجنسية الفلسطينية للحصول على المواطنة للفلسطينيين استناداً إلى مفاهيم ومعايير “كونية” متعلقة بالوجود أو عدم الوجود داخل حدود الدولة.
“عرب 48”: التشابه عجيب بين قانون القومية-الجنسية لعام 1922 وقانون الجنسية الإسرائيلي لعام 1952 وقانون القومية الجديد الذي سنته إسرائيل مؤخراً؟
مرشي: نعم، لقد حصلنا على الجنسية وفق قانون القومية الانتدابي، ليس بسبب انتمائنا الفلسطيني لهذه الأرض، بل لكوننا موجودين عليها، في حين حصل اليهودي على الجنسية لكونه يهودياً بغض النظر عن مكان ولادته. بمعنى آخر، حصل عليها بسبب انتمائه إلى مجموعة تدّعي ارتباطها بهذه الأرض.
هذا يتسق إلى حد بعيد مع ممارسات دولة إسرائيل اليوم من خلال “حق العودة” ليهود العالم، ورفض حق عودة الفلسطينيين، وقانون أملاك الحاضرين الغائبين. هذه القوانين تجتمع في إضفاء الصفة الرسمية على العلاقة ما بين “الشعب اليهودي” في كل أماكن وجوده وبين الأرض الفلسطينية، مع التنكر لهذا الحق بالنسبة للفلسطينيين.
“عرب 48”: يبدو وكأن منظومة دولة الانتداب وضعت الأساس لدولة إسرائيل، أو أن الأخيرة هي استمرار لهذه المنظومة القائمة على أساس ما يصطلح عليه بالمواطنة الاستعمارية؟
مرشي: من الواضح أن دستور الانتداب الذي أرسى قواعد الدولة الحديثة في فلسطين كان صهيونياً. بناءً عليه، فإن قانون الجنسية وقانون القومية الإسرائيليين هما استمرار لهذه المنظومة القانونية القائمة على تفضيل اليهود وتهميش السكان الأصليين (الفلسطينيين).
كل هذه القوانين قامت على قاعدة إنكار الحقوق القومية الجماعية للسكان الفلسطينيين الأصلانيين والصلة بينهم وبين أرضهم التاريخية. كما اعتمدت الإقامة خلال مدة زمنية محددة كعامل أساسي للاعتراف بحق الفلسطيني في المواطنة. هذا جعل الجنسية الفلسطينية، عملياً وبحسب القانون، سمة أجنبية، وليس طابعاً رسمياً يشرعن علاقة الإنسان بالأرض والوطن.
وقد عبّر قانون القومية الإسرائيلي عن هذا بوضوح، من خلال قصر حق تقرير المصير على الأرض على اليهود فقط.
أمير مرشي: خريج ماستر من جامعة شيكاغو، طالب دكتوراه في التاريخ والإنثرولوجيا في جامعة ميشيغان آن أربور، من مدينة الناصرة.
المصدر: عرب 48