الموضة السريعة: استغلال للبشر عابر للقارّات
تفتقر تلك المجتمعات إلى الحلول بشكل رئيسيّ؛ بسبب تغوّل أصحاب العمل، الّذين يرزحون تحت ضغوط كبيرة من العلامات التجاريّة؛ وبسبب ضغوط الموضة “السريعة” الّتي غالبًا ما يؤدّي الطلب العالي فيها إلى دورات إنتاج سريعة جدًّا…
قال مسؤولون في بنغلادش إنّ أغلب مصانع الملابس في أعادت فتح أبوابها بداية شهر أكتوبر/تشرين الأوّل، حسب رويترز، بعد يوم من احتجاجات عنيفة على زيادة الأجور أسفرت عن مقتل عامل وإصابة عدّة أشخاص آخرين. وواجهت بنغلادش، أحد أكبر منتجي الملابس في العالم ومورد للعلامات التجاريّة الغربيّة مثل “إتش آند إم” و “زارا” و “كارفور” احتجاجات واسعة النطاق استمرّت لعدّة أسابيع؛ ممّا أدّى إلى إغلاق عشرات المصانع.
وقال مسؤولون في الصناعة إنّ الاحتجاجات أدّت إلى تفاقم مشكلة تراكم الإنتاج الكبير بالفعل؛ بسبب الاضطرابات السياسيّة الأخيرة والفيضانات المدمّرة. وقال عبد اللّه هيل راكيب، نائب الرئيس الأوّل لجمعيّة مصنّعي ومصدّري الملابس في بنغلادش “معظم المصانع مفتوحة اليوم، وكلّ شيء يسير على ما يرام حتّى الآن”. وأضاف أنّ خمسة أو ستّة مصانع صغيرة فقط لا تزال مغلقة، لأنّها غير قادرة على سداد المدفوعات.
وقال رقيب إنّ الاضطرابات لا تزال مستمرّة في القطاع، ويرجع ذلك إلى حدّ كبير إلى قيام بعض المجموعات بنشر الشائعات واستغلال تدهور حالة القانون والنظام. وحثّ الحكومة على تعزيز التدابير الأمنيّة، حيث لا يستطيع بعض أصحاب المصانع العمل بسبب التخريب والاضطرابات المستمرّة، مشيرًا إلى أنّ “تعزيز الأمن أمر ضروريّ للحفاظ على استمرار الإنتاج بسلاسة وحماية صناعتنا”.
في العام الماضي، احتلّت بنغلادش المرتبة الثالثة بين أكبر مصدّري الملابس على مستوى العالم، بعد الصين والاتّحاد الأوروبّيّ، حيث صدرت ملابس بقيمة 38.4 مليار دولار في عام 2023، وفقًا لمنظّمة التجارة العالميّة. وتأتي الاضطرابات المستمرّة في لحظة حرجة بالنسبة لبنغلادش، حيث الحكومة المؤقّتة في البلاد، بقيادة الحائز على جائزة نوبل للسلام محمّد يونس، تحاول السيطرة بعد استقالة رئيسة الوزراء الشيخة حسينة. حذّر قادة الصناعة من أنّه إذا استمرّت الاضطرابات، فقد تحوّل العلامات التجاريّة العالميّة الإنتاج إلى دول أخرى، مثل إندونيسيا والهند وباكستان. وصرّح أحد أصحاب مصانع الملابس: “يجب على العمّال أن يفكّروا: إذا لم تنج الصناعة، فهل سيبقون على قيد الحياة؟”
شرق آسيا
في مختلف أنحاء آسيا، تعدّ صناعة الأزياء من أكبر مصادر التوظيف. ففي عام 2019 مثلًا، كان هناك أكثر من 65 مليون شخص يعملون في تجارة الملابس، أغلبهم من النساء. ظروف العمل السيّئة للغاية لا تزال تزداد سوءًا بسبب الضغوط من العلامات التجاريّة الّتي تسعى إلى تحقيق أرباح متزايدة، باستمرار، من خلال الترويج والمبيعات السريعة. وعندما نتخيّل تصنيع “الأزياء السريعة”، فقد نتخيّل صفوفًا من النساء في المصانع ينحنين على آلات الخياطة. لكنّ هذه ليست الصورة الكاملة.
يشارك الملايين من العمّال في تجارة الملابس، ليس في المصانع فقط، وإنّما خارج بوّابات المصنع، مثل خياطة وتعبئة وتشطيب الملابس من منازلهم أو ورش العمل الصغيرة الغير منظّمة. يعمل أولئك الناس من المنزل، وهم القوّة العاملة غير المرئيّة في عالم الموضة والموضة السريعة بشكل خاصّ.
وتشير التقديرات إلى أنّ هناك ما لا يقلّ عن 50 مليون امرأة في الهند وبنغلاديش وباكستان ونيبال وفيتنام يعملن في تلك الأدوار. ونظرًا لأنّ العمل من المنزل غير منظّم إلى حدّ كبير، فإنّ هؤلاء العاملات غالبًا ما يحرمن من الحدّ الأدنى للأجور والمزايا الحكوميّة، مثل إجازة المرض وإجازة الأمومة والمعاشات التقاعديّة.
ويعدّ انعدام المزايا الصحّيّة من أهمّ المشاكل الّتي تتعرّض لها العاملات في تلك البيئة، إذ غالبًا ما يتمّ اختيار العمّال المنزليّين من أكثر المجتمعات تهميشًا مثل العمّال المهاجرين، ويتمّ “تجنيدهم” عندما لا تتمكّن المصانع من تلبية الطلب، أو للقيام بأعمال تحتاج إلى العمل اليدويّ. ويمكن أن تشمل هذه المهامّ الخياطة والتطريز والتشطيب والتعبئة أو إضافة أربطة وأزرار إلى العناصر. ويعدّ ذلك العمل المتكرّر غالبًا إلى إجهاد وإصابات طويلة الأمد. وفي غياب مكان عمل رسميّ، لا يتمتّع العاملون المنزليّون بحماية أساسيّة للصحّة والسلامة، وغالبًا ما يعملون في ظروف ضيّقة مع القليل من الضوء والهواء المليء بغبار الأقمشة.
تقول العاملة المنزليّة جيه ساتيا في جنوب الهند عن صديقتها سوماثي “تعمل سوماثي في مصنع حيث يتمّ تحويل القطن الخامّ إلى حبال أو حزم قطنيّة”، تشرح ساتيا. “كان من الصعب عليّ البقاء هناك؛ لأنّ العمليّة تخلق الكثير من الغبار، لكن سوماثيّ تقوم بعملها دون ارتداء قناع حتّى”.
أمّا بالنسبة للأجور، فتعدّ تلك المهن محفوفة بالمخاطر، ولا يوجد ضمان للعمل، في عمليّات الطلبات والشراء في صناعة الأزياء غير أخلاقيّة بشكل سيّئ جدًّا، حيث يتوقّع من المصانع إجراء تغييرات في اللحظة الأخيرة على الطلبات والكمّيّات والتصميمات دون دفع إضافيّ. وبالتّالي يواجه العاملون من المنزل ضغوطًا هائلة لإكمال الطلبات الكبيرة أثناء الاستعداد لمواسم الأعياد مثل الكريسماس ورأس السنة، بينما في أوقات أخرى لا يتلقّون أيّ عمل على الإطلاق.
وحسب تقرير مصوّر في موقع “نيونت” تقول كامالام من تيروبور “أحصل على أجر بالقطعة فقط، وإذا لم أكن بصحّة جيّدة ولا أستطيع العمل، فلن أحصل على أجر في ذلك اليوم. لا يوجد دخل ثابت. لا يوجد تأمين طبّيّ أو معاش تقاعديّ”. وبحسب تصريحات تلك العاملة المنزليّة، لا حدّ أدنى من الأجور لحماية العمّال، وبدلًا من ذلك يتمّ دفع أجورهم حسب القطعة، والّذي غالبًا ما يكون بضعة سنتات فقط. وغالبًا لا يوجد عقد مكتوب رسميّ، ولا يتمّ الاعتراف بهم رسميًّا كعمّال، ممّا يعني أنّهم لا يتلقّون أيّ مزايا من الدولة.
الشرق الأوسط
استغلال العمّال من الماركات التجاريّة الكبيرة لا يتوقّف عند الملابس، بل يمتدّ إلى العطور أيضًا. يشير تحقيق أجرته شبكة “بي بي سي” البريطانيّة الصيف الماضي عن سلاسل توريد العطور إلى أنّ الياسمين الّذي يستخدمه موردو “لانكوم” و “آيرين بيوتي” كان يتمّ قطفه من قبل قاصرين. وبالرغم من أنّ جميع العلامات التجاريّة للعطور الفاخرة تزعم أنّها لا تتسامح مطلقًا مع عمالة الأطفال، إلّا أنّ التقرير يشير إلى عكس ذلك.
وصرّحت شركة لوريال، مالكة لانكوم، إنّها ملتزمة باحترام حقوق الإنسان. وقالت شركة إستي لودر، مالكة آيرين بيوتي، إنّها اتّصلت بمورديها على إثر التحقيق. ويأتي الياسمين المستخدم في “لانكوم إيدول لينتنس” و”إيكات جاسمين” و “ليمون دي سيسيليا” لشركة “آيرين بيوتي” من مصر، الّتي تنتج حوالي نصف إمدادات العالم من زهور الياسمين وهو أحد مكوّنات العطور الرئيسيّة.
وحسب التقرير يشير المطّلعون على صناعة العطور أنّ حفنة من الشركات الّتي تمتلك العديد من العلامات التجاريّة الفاخرة تضغط على الميزانيّات، ممّا يؤدّي إلى انخفاض الأجور بشكل كبير. ويقول جامعو الياسمين المصريّون إنّ هذا يجبرهم على إشراك أطفالهم في العمل، بالإضافة إلى أنّ أنظمة التدقيق الّتي تستخدمها صناعة العطور للتحقّق من سلاسل التوريد فيها الكثير من العيوب.
وقال المقرّر الخاصّ للأمم المتّحدة المعنيّ بأشكال العبوديّة المعاصرة، تومويا أوبوكاتا، إنّه منزعج من الأدلّة الّتي قدّمتها هيئة الإذاعة البريطانيّة بي بي سي، والّتي تتضمّن تصويرًا سرّيًّا في حقول الياسمين المصريّة خلال موسم قطف العام الماضي.
“على الورق، يعدّون بالعديد من الأشياء الجيّدة، مثل شفّافيّة سلسلة التوريد ومكافحة عمالة الأطفال. ولكن بالنظر إلى هذه اللقطات، فإنّهم لا يفعلون في الواقع الأشياء الّتي وعدوا بها”.
توقظ هبة، الّتي تعيش في قرية في محافظة الغربيّة، قلب منطقة الياسمين في مصر، أسرتها في الساعة 03:00 لبدء قطف الزهور قبل أن تلحق بها حرارة الشمس الضرر. وتقول هبة إنّها تحتاج إلى مساعدة أطفالها الأربعة الّذين تتراوح أعمارهم بين 5 و15 عامًا. ومثل أغلب العاملين في قطف الياسمين في مصر، فهي ما يعرف بـ”العاملة المستقلّة” وتعمل في مزرعة صغيرة. وكلّما تمكّنت هي وأطفالها من قطف المزيد من أزهار الياسمين، كلّما زاد دخلهم.
وفي الليلة الّتي صوّرت فيها هبة من قبل بي بي سي، تمكّنت هي وأطفالها من قطف 1.5 كيلوجرام من أزهار الياسمين. وبعد دفع ثلث أرباحها لمالك الأرض، لم يتبقّ لها سوى 1.5 دولار أميركيّ تقريبًا مقابل عمل تلك الليلة. وهذا أقلّ قيمة من أيّ وقت مضى، نظرًا لأنّ التضخّم في مصر بلغ أعلى مستوياته على الإطلاق، وكثيرًا ما يعيش العاملون في قطف الياسمين تحت خطّ الفقر.
أفريقيا
تشير تقارير عدّة إلى أنّ العمّال في مصانع توريد “بي في إتش” في إثيوبيا مجبرون على العمل الإضافيّ غير المدفوع الأجر وفقدان أجور مياه الشرب في محطّات عملهم، وفقًا لاتّحاد حقوق العمّال WRC ومقرّه الولايات المتّحدة، والّذي يراقب ظروف العمل في جميع أنحاء العالم. بدوره وجد تقرير صادر عن اتّحاد حقوق العمّال أنّ مديري التوظيف في أحد المصانع فحصوا بطون المتقدّمين للوظائف لمعرفة ما إذا كانوا “حوامل”.
ووجدت دراسة أجرتها مؤسّسة Wage Indicator Foundation في كانون الثاني/ يناير في إثيوبيا، والّتي تنشر بيانات عن الأجور في جميع أنحاء العالم، أنّ حوالي 1000 عامل في مصانع الملابس الّتي استطلعت آراءهم يكسبون أقلّ من أجر المعيشة البالغ 143.90 دولارًا أميركيًّا شهريًّا. بدورها، قالت بينيلوبي كيريتسيس، الباحثة في اتّحاد حقوق العمّال “لسوء الحظّ بالنسبة لعمّال الملابس في البلاد، هناك فجوة هائلة بين الادّعاءات الأخلاقيّة للعلامات التجاريّة وواقع مكان العمل للأشخاص الّذين يخيّطون ملابسهم”.
التقارير طالت عملاق صناعة الملابس “إتش آند إم” H&M ومصانعه في إثيوبيا. وردًّا على تلك التقارير قال المتحدّث باسم H&M، إنّ الحصول على الملابس من إثيوبيا يدعم الاقتصاد المحلّيّ، ويعزّز خلق فرص العمل، وأضاف أنّهم يأخذون هذه المزاعم على محمل الجدّ. المتحدّثة باسم H&M قالت “نحن نأخذ على محمل الجدّ أيّ مزاعم بانتهاك معايير العمل، وسنستمرّ في متابعة المورّدين وتنفيذ برامجنا الّتي تعالج ظروف العمل وحقوق العمّال”.
ومع ارتفاع تكاليف العمالة والموادّ الخام والضرائب في المصانع الآسيويّة، تسعى إثيوبيا إلى تقديم بديل أرخص، وجذب العلامات التجاريّة الكبرى مثل سلسلة جاب GAP الأمريكيّة و H&M السويديّة. وتسعى إثيوبيا إلى تحويل تركيزها الاقتصاديّ من الزراعة إلى التصنيع، في مواجهة التدقيق المتزايد على ظروف العمل ومعدّلات الأجور في سلاسل توريد العلامات التجاريّة العالميّة للأزياء.
إنّ الاستغلال في صناعة الملابس، وخاصّة في آسيا وأفريقيا، يتجلّى في أشكال كثيرة منها ظروف العمل القاسية وغير الآمنة، بالإضافة إلى ساعات العمل الطويلة بدون أيّة أجر إضافيّ وانعدام فترات الراحة. الأجور المنخفضة من الأسباب الأخرى، إذ يتلقّى العمّال أجوراً متدنّية جدًّا تصل إلى دولار أميركيّ واحد في اليوم!
أمّا بالنسبة للأطفال، فإنّ قضيّة عملهم ليست المشكلة الوحيدة، بل إنّهم يعملون في ظروف سيّئة جدًّا؛ وبذلك تمحى آمال الأطفال في أيّة تعليم أو طفولة مقابل تلك الأجور المنخفضة. العمّال المهاجرون أيضًا من الفئات الّتي تتعرّض لتلك الممارسات الاستغلاليّة للحصول على خدماتهم بسعر زهيد، بالإضافة إلى وضع قيود لحركتهم.
وتفتقر تلك المجتمعات إلى الحلول بشكل رئيسيّ؛ بسبب تغوّل أصحاب العمل، الّذين يرزحون تحت ضغوط كبيرة من العلامات التجاريّة؛ وبسبب ضغوط الموضة “السريعة” الّتي غالبًا ما يؤدّي الطلب العالي فيها إلى دورات إنتاج سريعة جدًّا، وذلك يزيد من الضغط على العمّال واحتماليّة حدوث انتهاكات للسلامة. أضف إلى ذلك افتقار العمّال إلى التمثيل القانونيّ في بلادهم؛ ممّا يجعلهم عرضة للاستغلال بشكل أكبر.
البيئة لم تسلم من الموضة السريعة، فهناك حالات تلوّث كبيرة في دول شرق آسيا وأفريقيا وأميركا اللاتينيّة؛ بسبب تلك المصانع في وقت قصير جدًّا في صناعة تعتمد بشكل كبير على خفض التكاليف بشكل مستمرّ لزيادة الأرباح.
المصدر: عرب 48