المُسن محمود رباح يستذكر قريته المهجرة حطين
يروي المُسن المُهجّر من قرية حطين الحاج محمود رباح، والذي يسكن في مدينة عرابة البطوف، ذكرياته في قريته وتهجيرهم منها إلى لبنان، ومعاناة اللجوء ثم العودة والعيش بعيدا عن منزل أسرته.
المُهجّر من حطين، محمود رباح (عرب 48)
يستذكر المُهجّر من حطين الحاج محمود رباح ويسكن في عرابة البطوف طفولته الجميلة في قريته، وذكريات وجراح عديدة، ونكبة عائلته وتهجيرها إلى لبنان بعد عودتها، ومعاناة اللجوء ثم العودة، وهي باختصار صفحات أليمة في ذاكرته حُفرت عميقا، ولا تزال حاضرة.
يقول المهجر محمود رباح، لـ”عرب 48” إنه “ولدت في حطين قضاء طبرية عام 1936، البلدة كان عدد سكانها قبل النكبة نحو 1400 نسمة، وكان فيها مدرسة حتى الصف السابع، ومن ينهي الصف السابع يكمل دراسته في طبرية، وحطين بلدة غنية تملك مساحات شاسعة من الأراضي، وفيها ثلاثة ينابيع هي ينبوع النبي شعيب، وينبوع القسطل، وينبوع في المنطقة الشمالية في وادي الليمون (الحمام)، وكانت بساتين كثيرة في حطين وتصدّر الفواكه إلى طبرية، وعاش أهل حطين حياة غنى ورفاه، كانوا يبيعون منتجاتهم في حسبة طبرية، لدى شخص يدعى أبو عرب، وبرع أهل حطين في زراعة الفواكه والتوت، وكان ينقلون الفواكه والخضار بسحّارات (صناديق خشبية) تحمل على الدواب إلى الحسبة”.
محمود رباح أبو شوقي، مهجر من حطين ويسكن مدينة عرابة، يحدثنا عن قريته الواقعة بالقرب من طبرية وعن حياته فيها قبل تهجيرها pic.twitter.com/Ni9n2UypXo
— موقع عرب 48 (@arab48website) June 2, 2024
وفي حطين، تكثر أشجار الزنزلخت، ويفسر ابن حطين كثرة أشجار الزنزلخت قائلا إنه “كان لها استخدامات عديدة لدى أهل حطين، خشبها كان يستخدم لأسقف البيوت، ونظرا لأنها شجرة طاردة للحشرات الضارة فكان خشبها هام جدا للبيوت ويدوم طويلا، ثم إن أوراقها كانت تستخدم لوضعها تحت الفواكه داخل سحارات لتصل إلى طبرية وتغطى الفواكه أيضا بأوراق الزنزلخت، لأن فيها مرارة شديدة وطاردة للحشرات”.
وعن احتلال حطين، قال رباح إنه “في عام 1948 وصل إلى قرية حطين جيش الإنقاذ وحط في المدرسة (ساحة جامع صلاح الدين)، وكان يسيّر دورية فوق قرون حطين، وعند انسحاب جيش الإنقاذ كانت إشارة بأن اليهود سيهاجمون حطين، وكان ذلك في 15.05.1948، في اليوم الذي سقطت فيه صفورية والناصرة ولوبية وكافة القرى في المنطقة حتى دير حنا وعرابة (حدود التقسيم 1947)، وبعد خروجنا من حطين توجهنا إلى قرية وادي سلامة، ثم فراضية حتى 30.10.1948 حينها سقط الجليل كله، من سهل البطوف حتى الحدود الشمالية، فغادرنا متجهين إلى لبنان، واستأجر والدي دواب من قرية عين الأسد خاصة وأن عمتي كانت حاملا في شهرها، وركبت على بغل، ولدى وصولنا إلى رميش في لبنان أنجبت في تلك الليلة على البيادر دون ضوء وتدفئة وحتى الماء لم يتوفر”.
وعن المعاناة في اللجوء، قال المهجر رباح إنه “بعد وصولنا رميش انتقلنا إلى بنت جبيل، ومن بنت جبيل إلى عين الحلوة في صيدا لأن أهل حطين سبقونا إلى هناك، ولكن المخيم لم يعد يتسع في عين الحلوة، وقالوا إن هناك قطارا ينقل المسافرين من صور وصيدا إلى حلب نحو مخيم النيرب. كانت أسرة خالي قد سبقتنا إلى هناك قبل ذلك بيوم، وعشنا عدة عائلات في محطة قطار طرابلس في الفرغين (عربات القطار) المعدة للشحن، كل مجموعة في فرغون، وبعد 15 يوم نقلونا إلى ثكنة عسكرية كانت للجيش الفرنسي، لكن الظروف كانت سيئة فعدنا إلى منطقة مخيم عين الحلوة، ورفضوا دخولنا من قبل الشرطة، فدخلنا إلى كنيسة قريبة وكنا مجموعة عائلات، وصولا إلى نهاية العام في شهر كانون الأول، وكانت أيام باردة جدا وأراد الدرك إخراجنا وحاصر المكان وأدخلنا لحافلة ثم نقلونا إلى زحلة، وأذكر أنه في زحلة كان يباع العنب في الدكاكين في شهر كانون الثاني، ثم أوصلونا إلى بعلبك ليلا وأسكنونا في قاووش طويل وكنا نحو 20 عائلة، ولم يكن فيه سوى باب واحد، وفصلوا بين العائلات عبر ساتر من القماش بين كل عائلة وعائلة”.
وتابع أنه “أمضينا هناك ثلاثة أشهر، وأيضا هذه المرة قررنا العودة إلى عين الحلوة، ولكنهم أوصونا بالعودة إلى بلدة المية ومية، وهناك أمضينا شهرين حتى قرر والدي أن نعود إلى فلسطين، وكنا نعرف ما يحدث في الداخل حتى التسجيل للهويات بسبب الدخول والخروج عبر الحدود وغيرها، وكان أبي قد سجل نفسه وحصل على رقم هوية، هو وأعمامي، فقط الرجال كانوا مسجلين في سجل النفوس في إسرائيل. بدأنا السفر ليلا وقبل الحدود مع فلسطين تقصى أحد الكبار المنطقة ولما عرف أن المنطقة خالية من الجيش قطعنا الحدود وصولا إلى وادي الذبان بين حرفيش وبيت جن، أشرقت الشمس ونحن باب هذا الوادي في شهر أيار وأمضينا ساعات ثم وصلنا إلى بيت جن، وهناك كان لنا أصدقاء من عائلة أبو حيّة فقدموا لنا الطعام ثم واصلنا السير نحو سهل دير حنا”.
وأشار رباح إلى أنه “في دير حنا أمضينا لدى بيت عمي ليلتين، ثم انتقلنا إلى عرابة حيث يسكن الأنسباء الذين أعطوا لكل عائلة مكانا، ووالله وصلنا ولم يكن بحوزتنا شيئا، فلقد سبق في لبنان أن سطا لصوص على الدواب التي حملت أغراضنا جميعها حتى الملابس الجديدة التي أبقيناها للبسها لدى وصولنا فقدناها، وأذكر جيدا قبل خروجنا من المية ومية في لبنان اشترى لي والدي بدلة جديدة وحذاء وكذا أيضا لأخي، ولكنه قال لا تستبدلوا ملابسكم القديمة فأمامنا طريق وعر، ولدى وصولنا إلى هناك تبدلون ملابسكم، وفي النهاية لم يصل معنا إلا إبريق حملته أنا كنا نملأه بالماء عند كل نقطة نجد فيها ماء. في عرابة ساعدونا في تجميع بعض الأغراض والأغطية للمبيت، وبعد فترة سمعنا مناد لمنح هويات للسكان في بيت المختار، والدي حصل على بطاقة هوية لأن اسمه كان مسجلا والموظف تساهل معه ومنح أمي والأبناء الذين لم يسجلوا سابقا هويات مع أرقام من تسلسل جديد. والدي حصل على رقم تسلسلي فوق مئة ألف ونحن فوق 500 ألف، بينما رفض الموظف إعطاء هوية لزوجة خالي وخالي اللذين كان لديهما رقم هوية وسجلات بينما لم يكن للزوجات والأبناء سجلات، وهكذا تم تجميع كل من لم تكن لديه هوية من أقاربنا ثم هجروهم إلى اللجون ومنها إلى جنين، ولكنهم عادوا أكثر من مرة إلى أن هجروهم عبر الحدود إلى لبنان وبقوا في لبنان حتى يومنا هذا”.
وعن الحياة والتعليم في حطين، قال المسن المهجر إنه “تعلمت في مدرسة حطين، داخل الصفوف الجديدة، في ساحة الجامع، الذي بناه صلاح الدين بعد معركة حطين وكما أشهر أيضا مقام النبي شعيب، في ساحة الجامع، كانت مدرسة قديمة مع عقدين، ثم أنشأت مدرسة محاذية مع مبنى أحدث، وفي الساحة كانت ثلاث برك، تصل إليها المياه من نبع القسطل، وبقيت تجري المياه فيها حتى غمرها التطوير في مقام النبي شعيب قبل سنوات، فالبركة الأولى كانت معدة للوضوء، وكان المكان حول البركة مرصوفا بالحجر وصولا إلى مدخل الجامع، كي لا تتسخ أقدام المتوضئين، ثم بركة الغسل والاستحمام، وهي معدة لاستحمام الرجال بعد الحصيد أو العمل في البساتين، وكانت الإشارة لوجود أحد في الداخل من خلال تعليق الثوب في الخارج، وكنا نحن الأطفال نستغل ساعات الصباح للاستحمام في هذه البركة، أما البركة الثالثة فكانت معدة للنظافة في المراحيض القريبة. كانت حياتنا سعيدة في حطين، السكان أغنياء، وبإمكان كل امرأة أن تعيش بكرامة من بيع بيض عشر دجاجات فقط، والمياه وفيرة وتجري في كل حدب وصوب، والحصاد وفير، وبساتين الفواكه وكروم الزيتون تمتد على مساحات واسعة في المنطقة”.
وختم رباح حديثه بالقول إن “طبرية كانت حاضرة مدنية، كان فيها مستوصفات وسوق وحياة، أذكر في طفولتي أنني نمت ليلة في طبرية حين أصبت من الحصان الذي كان يدرس على البيدر، كان عمري نحو عشر سنوات، وكنت خلف الحصان الذي يدور لدراسة البيدر، ولكنه رفسني فأصبت واحتجت لعلاج، عندها حملوني على دابة إلى طبرية التي تبعد 9 كم عن حطين، قدموا لي العلاج ونمنا في طبرية وفي اليوم التالي عدنا إلى حطين. عندما أقف هنا في حطين أتذكر تلك الأيام، أتذكر ما كان يحكى عن والدي وهو في المدرسة، عن حياتنا الأولى في حطين، وشريط الذكريات الجميلة والمؤلمة التي حلت مكانها.. كانت لنا حياة في حطين”.
المصدر: عرب 48