الوسيط الذي غيّر قواعد اللعبة
“الحياة مليئة بالأشياء الّتي لا وقت لديك لقراءتها”، يقول جيفري فولر، الكاتب في صحيفة واشنطن بوست. في مقال منشور مؤخّرًا للكاتب تحت عنوان “ليس لديك وقت للقراءة؟ ستحوّل تقنيّة الذكاء الاصطناعيّ الجديدة من جوجل أيّ شيء إلى بودكاست”، يناقش فولر فكرة عمل بودكاست عن طريق الذكاء الاصطناعيّ، إذ يمكن للذكاء الاصطناعيّ تحويل النصوص والأفكار الّتي لا تريد قراءتها، أو ليس لديك الوقت لقراءتها إلى بودكاست.
“لقد قمت مؤخّرًا بتحميل سياسة الخصوصيّة الخاصّة بفيسبوك والمكوّنة من 99 صفحة إلى موقع ويب تجريبيّ للذكاء الاصطناعيّ من “جوجل” Google يسمّى NotebookLM. وبعد دقائق، ظهر ملخّص وبودكاست مدّته سبعة دقائق ونصف حول ممارسات البيانات المخيفة لشركة Meta، مع مزاج هادئ ومرح بين مضيف ذكر وأخرى أنثى تمّ إنشاؤهما بواسطة الذكاء الاصطناعيّ”.
شعر الكاتب بالذهول من النتائج. ففي مرحلة ما يقول المضيف الذكر أنّه كان يتسوّق لشراء أحذية للمشي لمسافات طويلة، وبعد فترة قصيرة لاحظ أنّ فيسبوك بدا في عرض إعلانات للأحذية، فيقول الذكاء الاصطناعيّ “أعتقد أنّني أصبت بالجنون” هنا لدينا مضيف من الذكاء الاصطناعيّ يعلّق ساخرًا على سياسة الخصوصيّة عند فيسبوك واستهدافها للمشتركين عن طريق الإعلانات!
يعدّ تطبيق NotebookLM، المجّانيّ الاستخدام، أحد أوائل التطبيقات الناجحة الّتي حقّقت نجاحًا كبيرًا في إطار الجهود العديدة الّتي تبذلها شركة Google لتحويل الذكاء الاصطناعيّ الخاصّ بها إلى منتجات عمليّة تساعد الأشخاص العاديّين بشكل يوميّ. وبجهد بسيط للغاية، يمكنك استخدام ما يصل إلى 50 مستندًا وتحويلها إلى قاعدة معرفيّة شخصيّة. ويمكنك قراءة ملخّص مادّتك، وطرح الأسئلة عليه كما تفعل مع روبوت الدردشة، أو إنشاء بودكاست بطريقة إبداعيّة للغاية.
“هذه تجربة مختلفة تمامًا عن طرح أسئلة حول العالم باستخدام ChatGPT”. تقول ريزا مارتن، مديرة المنتجات في NotebookLM في مقابلة، “يبدو الأمر وكأنّك تستطيع التحدّث باستخدام دفتر ملاحظاتك”.
بدايات البودكاست
يشير الخبراء إلى أنّ فكرة البودكاست بدأت في مطلع الألفيّة الثالثة أي من مطلع العام 2000 تقريبًا. ومع انتشار الإنترنت بشكل كبير وتطوّر الأجهزة المحمولة والذكيّة بشكل كبير، كان ديف وينر، وهو من روّاد البرمجيّات، قد ابتكر طريقة لنشر المحتوى عبر الإنترنت تعرّف ب RSS، وهي تقنيّة تسمح بإيصال التحديثات للمشتركين بشكل فوريّ وسريع.
يشير الكثيرون أنّ فكرة البودكاست أساسًا انطلقت من هنا. تقنيّة تسمح بإيصال التحديثات للمشتركين بشكل سريع، وروّاد أعمال كثر استطاعوا الاستفادة من تلك التقنيّة لنشر المحتوى. ومن هنا ولد البودكاست، وهو مجموعة من الحلقات “الصوتيّة” الّتي يتمّ إنتاجها ونشرها عبر الإنترنت، ويمكن للمستخدمين الاستماع إليها مباشرة أو تحميلها. محتوى البودكاست متنوّع جدًّا من القصص الوثائقيّة إلى المقابلات والنقاشات العلميّة وحتّى الاجتماعيّة. في يومنا هذا، يوجد برامج بودكاست تغطّي جميع المواضيع، من تحليل سياسيّ، وتطوير الذات، قصص غمضة، أحداث تاريخيّة والكثير من المواضيع المتنوّعة.
في إحدى الليالي الدافئة في صيف عام 2004 اجتمع مهندس البرمجيّات الأميركيّ ديف وينتر مع صديقه الصحفيّ الأميركيّ آدم كيري، ليبحث الاثنان فكرة جديدة مع انتشار الإنترنت وارتفاع السرعات الّتي يتمّ بها نقل البيانات. بالطبع، كأيّ فكرة تتحوّل إلى مفهوم يغيّر المفاهيم بشكل جذريّ، لم يتخيّل المهندس والصحفيّ أنّ تلك الفكرة الّتي ولدت في ذلك الاجتماع ستغزو العالم خلال سنوات قليلة، وتغيّر مفاهيم الإعلام وكيفيّة استهلاك الناس للإعلام المرئيّ والمسموع.
في نفس الشهر، أطلق كيري أوّل بودكاست ويسمّى Daily Source Code. كان البودكاست موجّهًا بشكل جزئيّ ليستهدف مواضيع مثل تقنيّة البودكاست نفسها وأخبار التكنولوجيا، بالإضافة إلى مواضيع تتعلّق بالموسيقى. وبالفعل، ساعد البودكاست في تعريف المفهوم وشرحه للناس ونشره على نطاق واسع، ويعتبر من أوائل المنصّات لتجربة وتطوير تقنيّة توزيع المحتوى الصوتيّ عبر الإنترنت، والّتي نعرفها اليوم بالبودكاست.
استمرّ البودكاست لسنوات عديدة، نشر خلالها كيري أكثر من 800 حلقة نشرت بشكل غير منتظم، ليصبح جزءًا من حياة مجموعة من المستمعين، خاصّة المهتمّين بتطوير تلك التقنيّة وتطويرها. كانت مدّة الحلقات بين 30 إلى 60 دقيقة بحسب المواضيع الّتي يناقشها كيري.
يعدّ عمل كيري منصّة رئيسيّة لاختبار وتطوير تقنيّة البودكاست، ففي ذلك الإنتاج عمل مجموعة من المطوّرين والمستمعين الّذين شاركوا في تشكيل البنية التحتيّة للبودكاست كما نعرفه اليوم، ودفع به إلى قائمة الوسائط المهمّة للناس العاديّين. على عكس البدايات المتواضعة من المستمعين، حيث كانوا محصورين في المهتمّين في التكنولوجيا والمطوّرين، فقد أصبح البودكاست اليوم وسيطًا يتابعه الملايين عبر مختلف المنصّات. وبالرغم من أنّ Daily Source Code توقّف لاحقًا بعد سنوات من العمل، إلّا أنّه يمكن العثور على الحلقات القديمة على الإنترنتت.
العقد الأخير ونجاح Serial
مع بداية العقد الثاني، وتحديدًا في مطلع 2014، ظهرت سلسلة بودكاست تدعى Serial، وكانت سلسلة وثائقيّة تسرد قصّة حقيقيّة عن جريمة قتل وقعت في بالتيمور، الولايات المتّحدة، في التسعينات. اعتمد البودكاست على أسلوب سرديّ مشوّق وقدّمت الصحفيّة سارّة كونينج تحقيقًا مفصّلًا حول الموضوع، لتجعل المستمعين ينتظرون كلّ حلقة بفارغ الصبر. خلال أشهر قليلة، أصبح البودكاست “ظاهرة” وحقّق ملايين التحميلات، وأعاد النقاش إلى الواجهة حول الجرائم الغامضة.
Serail مثل تجربة فريدة عاشها المستمعون مع كلّ حلقة، ونجحت تلك التجربة في جعل المستمعين يشعرون بأنّهم جزء من التحقيق حول الجريمة، ولعب دور المحقّق. ويشير البعض إلى أنّ المزج بين القصّة والواقع هو أحد الأسباب الرئيسيّة الّتي جعلت من البودكاست شيئًا مختلفًا عن البرامج الإذاعيّة التقليديّة.
العقد الثاني من القرن الحاليّ يشكّل بداية ظهور ذلك الوسيط إلى الواجهة وجذب المستمعين والإعلاميّين، وأصبح بمثل “بديلًا” سهلًا وعمليًّا عن البرامج التقليديّة الّتي تتطلّب الاستماع في وقت معيّن، وعلى موجة إذاعيّة محدّدة. في المقابل جاء البودكاست كوسيط يمكن الاستماع إليه في أيّ وقت وأيّ مكان، في السيّارة أو المنزل، أثناء الطهي في المنزل أو حتّى أثناء العمل.
وعند مقارنة البودكاست مع الراديو التقليديّ الّذي يبثّ الأخبار والبرامج الحواريّة والموسيقى في أوقات محدّدة، نجد أنّ البودكاست يمكن الاستماع له بحرّيّة، إذ يمكنك تحميل الحلقة والاستماع إلى في أيّ وقت ومكان. على الجهة الأخرى تتميّز برامج الراديو بالمواضيع “العامّة” الّتي تناسب جمهورًا أوسع، بينما يمكن للبودكاست أن يكون أكثر تخصّصًا في المواضيع الّتي يقدّمها تستهدف جمهورًا محدّدًا، فتجد برامج بودكاست مهتمّة بالطهي النباتيّ مثلًا أو التاريخ أو التكنولوجيا بالإضافة إلى تفاعل المذيعين بشكل أكبر وأعمق مع الجمهور في حالة البودكاست.
تأثير البودكاست
اليوم لا يعدّ البودكاست مجرّد شكل جديد “للترفيه” بل أصبح وسيلة للتغيّر الإعلاميّ والاجتماعيّ على مستوى المجتمعات والدول. ولا تزال المؤسّسات الإعلاميّة الكبيرة تطلق البودكاست الخاصّ بها مثل “نيويورك تايمز” و “بي بي سي” لتستغلّ تلك المنصّة للتواصل بشكل أكبر مع جمهور أوسع وأكثر تنوّعًا.
وفتح البودكاست المجال أمام الكثير من الأصوات والمواهب الّتي لم يكن لها مساحة في الإعلام التقليديّ إذ يمكن اليوم لأيّ شخص أن يبدأ بودكاست باستخدام معدّات بسيطة وزهيدة الثمن ومشاركة الأفكار مع العالم، تلك الحرّيّة في الإنتاج من أهمّ الأسباب الّتي جعلت البودكاست ينمو بوتيرة سريعة جدًّا!
ومن العوامل الأخرى الّتي جعلت البودكاست “يغزو” العالم بهذه السرعة توفّر الهواتف الذكيّة بشكل كبير وسرعات الإنترنت الكبيرة وانخفاض أسعار الهواتف واستهلاك الإنترنت. فأصبح يمكن الوصول إلى أيّ مجتمع في العالم في وقت قصير جدًّا وبسهولة. أضف إلى ذلك تنوّع المحتوى حسب رغبة المستمعين واستقلاليّة الإنتاج الّتي لا تحكمها مؤسّسات أو أيديولوجيّات معيّنة توفّر ميزانيّات الإنتاج مقابل فرض نوع المحتوى على المنتجين.
البودكاست بالأرقام
حسب تقرير “أديسون” Edison Research فإنّ البودكاست شهد نموًّا هائلًا خلال السنوات الماضية. ووفقًا للإحصائيّات فإنّ هنالك أكثر من 5 ملايين بودكاست في العالم تتوزّع على أكثر من 70 مليون حلقة، وبالرغم من العدد الكبير، إلّا أنّ نسبة كبيرة توقّفت عن نشر حلقات جديدة ويوجد حاليًّا حوالي 700 ألف بودكاست نشط! وتشير الأرقام إلى أنّ 57% من سكّان الولايات المتّحدة استمعوا إلى حلقة بودكاست واحدة على الأقلّ في 2023. ويستمع 78% من هؤلاء إلى البودكاست على هواتفهم المحمولة. ويستمع إلى البودكاست حوالي 90 مليون أميركيّ في الشهر.
جغرافيًّا، الولايات المتّحدة هي السوق الأكبر للبودكاست، ولكنّ أسواق مثل البرازيل والمكسيك والهند تشهد ارتفاعات كبيرة في نسب المستمعين. مؤخّرًا، 57% من سكّان كوريا الجنوبيّة استمعوا إلى بودكاست واحد على الأقلّ في عام 2023. أمّا بالنسبة للّغة، فبالرغم من أنّ الإنجليزيّة هي اللغة المهيمنة على ذلك الوسيط، إلّا أنّ الإسبانيّة والعربيّة في تزايد كبير جدًّا، خصوصًا في الشرق الأوسط، وفي البلدان الناطقة بالإسبانيّة.
وعن البودكاست كمهنة أساسيّة للعاملين عليها فإنّ إيرادات الإعلانات المرتبطة بالبودكاست بلغت 2.13 مليار دولار في الولايات المتّحدة وحدها، ويتوقّع أن يرتفع الرقم عالميًّا حوالي 4 مليارات دولار أميركيّ بحلول عام 2025. وتعدّ البرامج الأعلى استماعًا هي برامج التعليم والترفيه والأخبار والصحّة.
وحسب موقع “وورلد بيومستريكس” World Biometrics، فإنّ أكثر حلقة تمّت مشاهدتها على الإطلاق في العالم كانت حلقة في بودكاست The Joe Rogan Experience والّتي استضاف فيها إيلون ماسك في الحلقة رقم 1169. وتمّ بثّ هذه الحلقة في 6 أيلول/سبتمبر 2018، وجذبت انتباهًا كبيرًا عندما قام ماسك بتدخين عشبة “القنّب” أثناء الحلقة، ممّا أثار ضجّة واسعة في وسائل الإعلام، وأدّت إلى عدد كبير من المشاهدات. وحصلت الحلقة على أكثر من 60 مليون مشاهدة على منصّة يوتيوب وحدها!
حتّى عام 2024، لا يزال “The Joe Rogan Experience” يتصدّر مشهد البودكاست، حيث يحقّق أكثر من 200 مليون تحميل شهريًّا. تغطّي الحلقات مجموعة واسعة من المواضيع، بدءًا من الكوميديا والسياسة وصولًا إلى العلوم والثقافة، وغالبًا ما تستضيف شخصيّات متنوّعة مثل السياسيّين والعلماء والمشاهير.
تأتي تلك الإحصاءات لتكون دليلًا على حجم الإنتاج والتأثّر عالميًّا لوسيط جديد نسبيًّا مثل بودكاست الّذي غيّر قواعد اللعبة. ويأتي البودكاست كتجربة شبيهة بالأفلام حسب الطلب مثل منصّة نيتفليكس وأمازون برايم وغيرها. فعند النظر إلى البودكاست مقابل الراديو نجد أنّ تجربة الأفلام حسب الطلب تتشابه مع البودكاست في التحكّم في التجربة من ناحية الوقت والمكان، فللمشاهد أو المستمع أن يشاهد أو يستمع في أيّ وقت ومكان يناسبه بالإضافة التنوّع في المحتوى وسهولة الوصول وسرعة الاستهلاك وكون البودكاست يمثّل تجربة شخصيّة تفاعليّة أكثر من الراديو.
المصدر: عرب 48