الولايات المتّحدة وبريطانيا والدول العربيّة وحسم الموقف من التقسيم (32/12)
لم يبقَ لدى الفلسطينيين والعرب إلا فرصة واحدة لمنع اتخاذ قرار من الأمم المتحدة بشأن المسألة الفلسطينية، يؤيد إقامة دولة يهودية في فلسطين، وهذه الفرصة هي إقناع اللجنة المخصصة للقضية الفلسطينية، بالحلّ الذي يضمن استقلال فلسطين العربية. بل إن هناك فرصة أخرى، وهي التصويت النهائي في الجمعية العامة للأمم المتحدة على التوصيات التي ستقترحها اللجنة المخصصة، وهذا أمر يكاد أن يكون محسومًا لصالح العرب، إذ إن أي اقتراح حلّ يجب أن يحوز على أكثر من ثلثي أعضاء المجلس، أي يجب الحصول على 19 معارضاً فقط، ويشمل ذلك الدول العربية الستّة نفسها. كذلك كانت بريطانيا تقف على الحياد ولن تضع قوتها من أجل تنفيذ أي من التوصيات، كما أعلنت مرارًا وتكرارًا على الملأ، وما يعنيها فقط هو تحويل القضية برمتها إلى الأمم المتحدة والنفاذ بجلدها من العمل على تنفيذ القرارات المترتبة عن اجتماع الجمعية العامة، وهذا من شأنه أن يدخل التردد على مواقف دول كثيرة. من جهة أخرى، ما زال موقف الولايات المتحدة الرسمي يتأرجح ولم يُحسم بعد، رغم أن رئيسها “هنري ترومان” كان يضغط من أجل الهجرة إلى فلسطين، لأنها، أي الولايات المتحدة، خائفة من أن يتحول العرب باتجاه تأييد الاتحاد السوفييتي إذا وافقت على إقامة الدولة اليهودية بشكل رسمي، وبذلك يستفيد منافسها الأعظم على خيرات وثورات العالم العربي من النفط الذي اكتشف بوفرة في الشرق الأوسط.
على الجانب الآخر للمعركة، اعتبر الصهاينة أن تصويت الأمم المتحدة على توصيات “أنسكوب”، هو فرصتهم السانحة لإقامة الوطن القومي اليهودي الذين عملوا على تحقيقه منذ وعد بلفور قبل 30 عامًا، واعتقدوا أن ضياع هذه الفرصة سيكون السبب في القضاء على طموحاتهم الاستعمارية، وسيؤسس للدولة العربية الواحدة في فلسطين. ولذلك وضعوا كل قواهم المادية والدبلوماسية والسياسية في مشروع إقناع الدول المختلفة لتأييد مشروع التقسيم، خاصة الولايات المتحدة التي تعتبر مفتاحًا رئيسيًا لأبواب دول كثيرة لأن لديها كل الوسائل المتاحة للإقناع والضغط على دول مختلفة من أجل تأييد مشروع التقسيم.
أما الاتحاد السوفييتي نفسه، فكان ثابتًا على موقفه المؤيد للتقسيم، حيث إن روح خطاب “غروميكو” في الدورة السابقة للأمم المتحدة، تؤكد حق اليهود في تقرير المصير في فلسطين، عسى أن تكون هذه الدولة اشتراكية بسبب اليهود الذين سيهاجرون إليها من الدول الأوروبية الشرقية وروسيا.
كان للولايات المتحدة ورئيسها “ترومان”، دورًا كبيرًا في مجرى الأحداث حتى صدور قرار التقسيم؛ ولذلك سنعرضه هنا بشكل مفصل.
اختلافات في آراء الأميركيّين بشأن التقسيم
في بداية أيلول / سبتمبر 1947، كان “ترومان” يعتقد أن الولايات المتحدة لن تستطيع أن تقيم تحالفات مع اليهود والعرب في نفس الوقت، وكان غير راغب في أن تتأثر السياسة الخارجية الأمريكية بأي اعتبارات انتخابية، وكان ينظر إلى الاعتبارات الأخلاقية على أنها ضارة بالدفاع عن المصالح الأمريكية. كذلك كان يفكر مستشاروه في السياسة الخارجية، مثل “جورج مارشال” وزير الخارجية، ووزير الدفاع “جيمس فورستال”، ومسؤولو وزارة الدفاع مثل “كينان”، و”بوهلين”، و”روبرت لوفيت” وكيل وزارة الداخلية، و”دين أتشيسون”. في الوقت نفسه، كان “ترومان” يميل إلى إقامة دولة يهودية، بسبب اهتمامه بحل مشكلة اللاجئين اليهود، ومع هذا كان غير مقتنع بشكل تام بفكرة الدولة اليهودية، برغم تعاطفه الكبير مع الصهيونية. في ذلك الوقت، كان “ترومان” يرفض مقابلة ممثلين عن صهاينة أمريكا، بسبب ممارستهم ضغطًا هائلًا عليه من أجل تأييد مطالبهم، خاصة الحاخام “آبا هيلل سيلفر” الذي يؤيد الحزب الجمهوري، ولذلك أصبح شخصًا غير مرغوب فيه في البيت الأبيض. كان اقتراح التقسيم يحظى بتأييد من أهم الصحف في واشنطن ونيويورك، ورئيسي الحزب الجمهوري والديموقراطي.
أما مدير مكتب شؤون الشرق الأدنى وأفريقيا وجنوب آسيا في وزارة الخارجية الأمريكية “لوي هندرسون”، فكان يعتقد أن أي موقف أمريكي يؤيد التقسيم سيهدد امتيازات النفط الأمريكية في الشرق الأوسط، وأن الاتحاد السوفييتي سيتسلل إلى الشرق الأوسط بواسطة استعمال الشيوعيين اليهود عبر الدولة العبرية، حيث إنه كان مقتنعًا بأنه يجب احتواء التوسع السوفييتي بكل الوسائل المتاحة، ناهيك أنه كان غير متعاطف مع اليهود مثل الرئيس”ترومان”. كتب “هندرسون” في أيلول / سبتمبر 1947 إلى وزير الخارجية “مارشال” أن “تقسيم فلسطين وإقامة دولة يهودية يعارضه كل عضو تقريبًا في وزارة الخارجية”، كذلك اعتبر أن تقرير الأغلبية للجنة الخاصة للأمم المتحدة “أنسكوب” مغالطة، وإذا تم قبوله، فلا يمكن تنفيذه إلا بالقوة، وهذا ما لا ينبغي للولايات المتحدة الموافقة عليه، لأنه سيجلب العداء العربي لأميركا.
رغم مواقف “هندرسون” تلك، لم يستطع “ترومان” تجاهله، لذلك قام بتعيينه مستشارًا لنائب رئيس الوفد الأمريكي “هيرشيل جونسون” إلى الأمم المتحدة، وممثلة في اللجنة المخصصة. في المقابل عيّن الجنرال “جون هيلدرينج”، الذي عمل سابقًا في مساعدة اللاجئين في أوروبا، وكان معروفًا بمواقفه المؤيدة الصهيونية، في منصب مماثل لمنصب “هندرسون”، بحيث يكون كلب “ترومان” الحارس على وزارة الخارجية، كذلك كانت الوكالة اليهودية تستعمله، أي “هيلدرينج”، في نقل المعلومات إلى الوفد الأمريكي، متجنبةً بذلك أعضاء الوفد من الخارجية. كان السيناتور “وارين ر. أوستن” يرأس الوفد الأمريكي في الجمعية العامة للأمم المتحدة، والذي يضم السفير الأمريكي في السويد “هيرشيل ف. جونسون”، و”جون فوستر دالاس”، و”إلينور روزفلت” زوجة الرئيس المتوفى “تيودور روزفلت”، واللواء “ماثيو ب. ريدجواي”، و”فيليب جيسوب”، بالإضافة إلى “هندرسون” و”هيلدرنج”.
خطاب وزير الخارجية الأميركيّ أمام الجمعية العامة
كان وزير الخارجية الأمريكي “جورج مارشال” يعتقد أن الوفد الأمريكي عليه أن يدعم إنشاء دولة يهودية، ولكن موظفي وزارة الخارجية أخبروه أن هذا خطأ، بحيث أنه قال “أن تمسكه بدعم توصيات لجنة “أنسكوب” مخالف لنصيحة جميع الخبراء المؤهلين في الوزارة”. ولذلك دعا جميع أعضاء الوفد الأمريكي إلى اجتماع تحضيري من أجل التحضير لخطابه أمام الجمعية العامة، وذلك في 15 أيلول / سبتمبر 1947، وطلب مشورتهم حول مسألة تأييد التقسيم في خطابه. عندها أعلن “هندرسون” أن أعضاء لجنة “أنسكوب” لم يؤيدوا جميعًا التقسيم، وربما تصل الأمم المتحدة إلى حل يرضي جميع الأطراف. ردّ “هيلدرينج” عليه بشكل فوري، مؤكدًا أن عدم تأييد التقسيم سيكون مخيبًا لليهود في أميركا وكل العالم، لأنهم يعتقدون أن على أمريكا أن تؤيد رأي الأغلبية في لجنة “أنسكوب”. هنا أجابه “مارشال” بأن الصهاينة يضغطون من أجل قرار لصالحهم، ولكنه يخشى من رد فعل العرب إن فعلت أميركا هذا. “يجب على أميركا أن تتجنب إثارة العرب وتسريع تقربهم للاتحاد السوفييتي، في الأسبوع الأول أو العشرة أيام الأولى من اجتماعات الجمعية العامة”، من ناحية أخرى خاف “مارشال” أن يُتهم بالتباطؤ إذا كان موقفه غير واضح.
كانت السيدة “روزفلت” مؤيدة متحمسة للصهيونية، لذلك قاطعت “مارشال” ولفتت انتباهه إلى أن عدم تأييد الولايات المتحدة لتقرير أغلبية أعضاء “أنسكوب” سيؤثر سلبًا على الأمم المتحدة ككلّ؛ بسبب عدم دعم الولايات المتحدة لها. عاد “هندرسون” وحذر من أن تأييد التقسيم يعني أنه يجب أن ينفذ بالقوة، عندها ستحارب الولايات المتحدة الإرهابيين من الطرفين، وأضاف أن على الولايات المتحدة أن تبقى محايدة حيث لا يوجد أي مبدأ في هذه المسألة. أما “أوستن” فلم يعتقد أن التقسيم سينجح، “إذ إن فلسطين أصغر من أن تستوعب داخلها دولة أصغر حجمًا منها”، وقال “إن على كل طرف أن يستعمل “حرابه إلى الأبد، حتى يغرق في دمائه”.
بعد يومين، أي في 17 أيلول / سبتمبر 1947، ألقى “مارشال” خطابه أمام الجمعية العامة، وفيه أعلن أن الولايات المتحدة تعطي وزنًا كبيرًا للتوصيات التي اتخذت بإجماع “أنسكوب”، وكذلك بالتوصيات التي حصلت على الأغلبية أيضًا. كان هذا الخطاب الوسطي مثيرًا لغضب العرب الذين اعتبروا الولايات المتحدة بأنها مؤيدة للتقسيم، وكان مخيبًا لآمال الصهاينة الذين أرادوا تصريحًا واضحًا وصريحًا بشأن تأييد التقسيم.
العرب يردون على الموقف الأميركيّ، خطاب فارس الخوري أمام الجمعية العامة
في 22 أيلول / سبتمبر 1947، ألقى فارس بيه الخوري ممثل سوريا في الأمم المتحدة، خطابًا أمام الجمعية العامة أعلن فيه موقف العرب من توصيات لجنة “أنسكوب”، محاولًا التأكيد على الجانب القانوني من أجل دحض المقولة بأن لليهود الحق بتأسيس دولتهم الخاصة في فلسطين. ابتدأ فارس الخوري خطابه قائلًا إن تصريح الممثل الرئيسي للولايات المتحدة بأن حكومته ستعطي وزنًا هامًا لتوصيات أغلبية اللجنة الخاصة، لا يعني بالضرورة أن بلاده ستؤيد بشكل كامل هذه التوصيات، ولكن هذا يجعله مجبراً على تفسير موقف بلاده من هذا الموضوع.
اعتبر الخوري أن لجنة “انسكوب” قد تخطت صلاحياتها عندما اقترحت التقسيم، بل تجاوزت عن ميثاق الأمم المتحدة، حتى إنها أعطت اليهود القسم الأكبر من فلسطين، بل إنها ابتدأت بتحضير مسودة لدستور الدولتين المقترحتين، واقتراح قوانين تسري على سكان فلسطين. وهذه الاقتراحات تتنافى مع مبدأ الشعوب في تقرير المصير وتحديد طريقة الحكم والدستور في بلادهم.
كذلك، قال الخوري إن سبب المشكلة في فلسطين هو الأطماع الاستعمارية للمنتصرين في الحرب العالمية، ولولا ذلك لبقيت فلسطين جزءاً من سوريا، كما كانت على مدار مئات السنين. “وحتى صكّ الانتداب ووعد بلفور الذين تستند عليهم اللجنة الخاصة من الناحية القانونية، شملا على وعد لليهود بوطن قومي، وليس دولة ذات سيادة كما تقترح اللجنة”. ودحض الخوري في خطابه ادعاء اللجنة بأن فلسطين العربية لم تكن مستقلة على شكل دولة، بل كانت جزءاً من الإمبراطورية العثمانية والعربية، على مرّ التاريخ، ولذلك ليس هناك حق لأهلها بالحصول على الحرية وتشكيل دولة مستقلة، بينما رأت اللجنة أن لليهود حقاً تاريخياً في فلسطين، كونهم أقاموا دولتهم قبل أكثر من ألفي عام في أجزاء من فلسطين، وهنا قال إن اليهود، في ذلك الوقت، كانوا قد استوطنوا الجزء الشرقي من فلسطين، وليس السهل الساحلي، ولو كان الأمر مبنياً على حقهم التاريخي، إذًا لماذا اقترحت اللجنة أن يقيموا دولتهم في غرب فلسطين على ضفاف البحر؟ ثم هل هناك حقّ ملكية تدوم صلاحيته لآلاف السنين؟ كذلك تحدث فارس الخوري عن أن اليهود لا يشكلون شعبًا؛ ولذلك ليست لهم حقوق قومية، إذ إن اليهودية ديانة ينتمي حاملوها إلى الشعوب والقوميات التي يعيشون بينها، فكيف للجنة أن تبني استنتاجاتها على ادعاء باطل؟
وفي النهاية توجه الخوري مرة أخرى للولايات المتحدة، التي قال إن أموالها تستعمل في الدعاية الصهيونية الواسعة، وفي دعم الإرهاب اليهودي في فلسطين، مطالبًا إياها بالوقوف مع أغلبية السكان في فلسطين، كما تفعل في أماكن أخرى في العالم، لا أن ترسل دعمًا لأقلية مستعمرة، تعمل بكل الأساليب والإرهاب ضد السكان الأصليين لفلسطين. ولخص المندوب السوري موقف بلاده والبلاد العربية الأخرى بالرفض القاطع لتوصيات أغلبية لجنة “انسكوب”، وأن العرب لن يسمحوا بزرع إسفين غريب ومعادٍ لهم وسط أرض أجدادهم.
البيان البريطاني أمام اللجنة المخصصة
في اليوم التالي لخطاب فارس الخوري أعلن الأمين العام للأمم المتحدة عن تشكيل اللجنة المخصصة (Ad-Hoc committee for Palestine)، التي ترأسها “هيربرت فير إيفات”، وزير الخارجية الأسترالي (كما تقدم في الحلقة السابقة)، والذي قرر، في الجلسة الأولى، أن يدعو جميع الأطراف للإدلاء بآرائهم أمام اللجنة، وذلك حتى يثبت استقلاليته التامة في التفكير، وأن طبيعة الإجراءات في اللجنة ستكون قضائية. بناءً عليه تقرر دعوة حكومة الانتداب واللجنة العربية العليا والوكالة الصهيونية للشهادة أمام اللجنة.
في الاجتماع الثاني للجنة في 26 أيلول / سبتمبر 1947، مثل وزير المستعمرات البريطاني “كريتش جونز” أمام اللجنة المخصصة، وأعلن أن حكومته توافق على توصيات لجنة “أنسكوب” الإثني عشر العامة، خاصة البند الأول الذي يقضي بضرورة إنهاء الانتداب، والبند الثاني بخصوص الاستقلال، وأعتبر هذين البندين “تعبيرًا دقيقًا عن المبادئ التوجيهية للمملكة المتحدة، كما يتبين من المحاولات العديدة التي بذلتها بريطانيا من أجل الوصول إلى اتفاق بشأن المسألة الفلسطينية”. كذلك أشار إلى أن البند السادس المتعلق بإيجاد حلّ لمشكلة اللاجئين اليهود في أوروبا تشكل مسؤولية دولية، وعلى كل الأمم أن تشارك في إيجاد حلّ لها.
وأعلن “جونز” أمام اللجنة بأن المملكة المتحدة توافق على انتهاء الانتداب البريطاني في فلسطين، وأنها لن تقف عقبة أمام أي حل تجده الأمم المتحدة مناسبًا، ولكنها في نفس الوقت لن تشارك في محاولة تنفيذ هذا الحلّ على أرض الواقع إن لم يكن مقبولًا على طرفي الصراع، وذلك لأن المملكة المتحدة لا ترى نفسها مشاركة في صراع عسكري من أجل إجبار أحد الطرفين على قبول ما لا يتفق مع طموحاته. وصرّح أن حكومته قد أصدرت التعليمات بخصوص انسحاب القوات البريطانية من فلسطين في حال لم يتم التوصل إلى اتفاق لا يرضي العرب واليهود على حدّ سواء.
كذلك مثل وزير المستعمرات البريطاني أمام اللجنة المخصصة مرة أخرى في اجتماعها الخامس عشر، والذي انعقد في 16 تشرين أول / أكتوبر 1947، وصرح أن البيت الوطني اليهودي قد تحقق فعلًا بمساعدة بريطانيا، وهي بهذا نفذت وعد بلفور. أما بالنسبة للصراع العربي اليهودي على أرض فلسطين، ولأن بريطانيا حاولت خلال سنين عديدة أن تجد له حلًا، ولم تستطع ذلك، فإنها قررت إنهاء الانتداب، وعلى طرفي الصراع أن يعرفوا أنهم سيتحملون عواقب ما سيجري إذا لم يقوما بحل المشاكل بينهما، إذ إن القرار البريطاني يشمل انسحابًا كاملًا خلال فترة محددة. وقال إن بقاء بريطانيا في فلسطين خلال الفترة الانتقالية التي يتحدث عنها تقرير لجنة “أنسكوب”، منوط بإيجاد حلّ يرضي العرب واليهود على حدّ سواء، واستعداد أطراف أخرى للمساعدة في إدارة البلاد في الفترة الانتقالية.
أما الموقف البريطاني من الحلول المطروحة، فقد قال إن لدى بريطانيا وقتاً لإعلان موقفها، وسيكون مبنيًا على التزامها بعلاقات جيدة مع العرب واليهود على حدّ سواء، ووضع حدّ للحالة المأساوية في فلسطين.
ترومان لم يحسم موقفه بعد أيلول / سبتمبر 1947
رغم خطاب “مارشال” أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة المذكور آنفًا، لم يكن موظفو وزارة الخارجية مقتنعين بأن على الولايات المتحدة أن تؤيد التقسيم، بل على العكس تمامًا، حاول “هندرسون” مدير مكتب شؤون الشرق الأدنى وأفريقيا وجنوب آسيا في وزارة الخارجية الأمريكية أن يقنع “ترومان” بعدم تأييد التقسيم، ولذلك أرسل إلى وزير الخارجية الأمريكي مذكرة مفصلّة حول الأسباب التي يجب أن تمنع الولايات المتحدة من تأييد التقسيم، خاصة العلاقة مع العرب، ودفعهم لتأييد للاتحاد السوفييتي في حالة تأييد الولايات المتحدة للتقسيم، وإمكانية تحمل الولايات المتحدة العبء الأكبر في تحقيق التقسيم عسكريًا وسياسيًا. اقترح “هندرسون” الحلّ الذي يراه ملائمًا وهو إبرام اتفاق بين اليهود والعرب المعتدلين بشكل مباشر، وليس من خلال منظمة خارجية. قام “مارشال” بإرسال المذكرة إلى “ترومان” والذي استدعى بدوره “هندرسون” إليه من أجل مناقشة مذكرته، وكان معه، أي مع “ترومان”، مستشاري الرئيس “كلارك كليفورد”، و”ديفيد نايلز”، وعدد من موظفي البيت الأبيض الذين قاموا باستجواب “هندرسون”، وسؤاله عن مصادر معلوماته وآرائه، ما اعتبره “هندرسون” محاولة لإذلاله، وأجاب بأن هذه آراء البعثات الدبلوماسية والمسؤولين القنصليين في الشرق الأوسط، ومسؤولي وزارة الخارجية، وهو يرى أن عليه أن ينقل للرئيس خطورة عواقب تأييد التقسيم ودعم الدولة اليهودية.
أدّى الاستجواب القاسي إلى ارتباك لدى “ترومان” مما جعله يترك الجلسة بدون أن يحسم أمره من التقسيم، مما اعتبره “هندرسون” إشارة إلى أن “ترومان” لم يتخذ قراره بعد بشأن إقامة الدولة اليهودية. على الرغم من ذلك، لم يقبل “ترومان” ووزير الخارجية “مارشال” مقترحات “هندرسون” وشعبته، وفي 24 أيلول / سبتمبر 1947، اجتمع “مارشال” مع “اليانور روزفلت” و”دين راسك”، و”تشالز بوهلين”، والجنرال “جون هيندريج” وقرروا بأن يقوم ممثل أميركا في اللجنة المخصصة “وارن أوستن” بالامتناع عن تقديم بيان افتتاحي في الاجتماعات الأولى للجنة المخصصة. بل يقوم بذلك “هيرشيل جونسون” بعد الاستماع إلى مناقشات اللجنة العربية العليا، والحركة الصهيونية، والمملكة المتحدة.
حسم الموقف الأميركي لصالح التقسيم تشرين أول / أكتوبر 1947
في بداية تشرين أول / أكتوبر 1947، قدمت وزارة الخارجية الأمريكية مذكرة تتضمن اقتراحات تتضمن تعديلًا لاقتراح التقسيم الذي قدمته اللجنة الخاصة (“أنسكوب”). كان الاقتراح يقضي بضم الجزء الجنوبي للنقب للدولة العربية، كذلك يتم ضم الجليل الغربي، وحتى أن يحصل العرب على مناطق شرقي الجليل الغربي بحيث تضم الدولة العربية مدينة صفد ذات الأغلبية العربية. وأفادت المذكرة الأمريكية بأن العرب سيرفضون هذه الاقتراحات التي تعد في صالحهم، لأنهم لن يقبلوا إلا أن تكون فلسطين كلها عربية. وأكد وزير الخارجية “مارشال” بأن الولايات المتحدة، وبرغم أنها تدعم هجرة اليهود إلى فلسطين، إلا أنها لم تكن ملتزمة بإقامة الدولة اليهودية، ولذلك لن تقوم الولايات المتحدة بإقناع أعضاء الجمعية العامة بالتصويت لخطة الأغلبية في لجنة “أنسكوب”.
ازدادت الضغوط على “ترومان” من أجل دعم التقسيم، فتلقّى العديد من الرسائل بهذا الشأن من شخصيات وقيادات صهيونية، كذلك كان أعضاء الحزب الجمهوري وأعضاء الحزب الديموقراطي يقومون بالضغط من أجل تأييد خطة الأغلبية، حيث التقى السيناتور الجمهوري “آرثر فاندنبرغ”، رئيس لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ بالحاخام “سيلفر” وأبلغه تأييده للتقسيم، “لأنه الحل الوحيد الذي يبعث على الأمل في حلّ مشكلة فلسطين”.
قام “فاندنبرغ” بالضغط على كبار الديموقراطيين من أجل قبول تقرير أغلبية لجنة “أنسكوب”، بالإضافة إلى حكام ثلاث وعشرين ولاية مطالبًا إياهم بالإعلان عن تأييد التقسيم علنًا. هذه الضغوط وضعت “ترومان” في مواجهة حقيقة الموقف الأمريكي، هل يجب أن تؤيد الولايات المتحدة التقسيم؟ وإذا كان تقرير أغلبية لجنة عينتها الأمم المتحدة يدعو إلى التقسيم، فلماذا لا تقوم الولايات المتحدة بدعم المؤسسة الأممية عن طريق تأييد اقتراح لجنتها؟ فكر “ترومان” في وجهة نظر السيدة “روزفلت” والتي ضغطت من أجل دعم الأمم المتحدة التي ما زال في نعومة أظفارها.
ما جعل “ترومان” يعلن موقفه ويعطي الأمر لوزارة الخارجية بدعم التقسيم، كان تقريرًا وضعه الصحفي “كليفتون دانييل” من صحيفة “نيويورك تايمز”، في 9 تشرين أول / أكتوبر 1947، إذ تحدث التقرير عن اجتماع للجامعة العربية في لبنان، الذي كان يبحث التدابير العسكرية التي يجب اتخاذها في حالة صدور قرار بتقسيم فلسطين، وجاء في التقرير أن الجامعة العربية دعت إلى محاربة أي محاولة لإقامة الدولة اليهودية بالقوة.
وصل التقرير إلى “ترومان”، الذي اعتقد أن موقف الجامعة العربية هو “موقف عدواني، يتضمن تحدّيًا للأمم المتحدة”، مما جعله يأمر وزارة الخارجية بتبني خطة التقسيم. في 11 تشرين أول / أكتوبر 1947، أعلن “هيرشيل جونسون” أمام اللجنة المخصصة بأن الولايات المتحدة تدعم تقسيم فلسطين، ودعاها، أي الأمم المتحدة” إلى إنشاء قوة شرطية من أجل المساعدة على حفظ السلام في فلسطين. وصرح بأن على بريطانيا أن تأخذ على عاتقها إدارة الحكم في البلاد خلال الفترة الانتقالية حتى استقلال الدولتين المقترحتين.
منذ الآن أصبح التقسيم هو الموقف الرسمي للولايات المتحدة الأمريكية، لذلك دعت هي ودولة السويد اللجنة المخصصة بالمضي قدمًا في مناقشة حدود الدولتين المقترحتين، العربية واليهودية، بناءً على تقرير أغلبية “أنسكوب”، إلا أن “إيفات” رئيس اللجنة المخصصة، عارض هذا الاقتراح، راسمًا خطة خاصة به من أجل مناقشة هذا الموضوع بدون عوائق ومشاكل تثيرها الوفود العربية في اللجنة، ونجح في ذلك بواسطة حيلة وضعها له مسؤول أمريكي قبل انعقاد اجتماع اللجنة المخصصة في 21 تشرين أول / أكتوبر 1947.
المصدر: عرب 48