بائعة الكبريت وأطفالنا في غزّة
طفلة فلسطينيّة نازحة في دير البلح خلال العدوان الإسرائيليّ، 19/11/2023 | أشرف عمرة
أدب الأطفال، وبشكل خاصّ التراجيديّ منه، يمكنه أن يتحوّل إلى محفّز سياسيّ داعٍ إلى النشاط والتحرّك. ليلة رأس السنة الميلاديّة، والتبدّل الرمزيّ للأرقام في التقويم السنويّ يمثّل الانتقال من عام إلى آخر، لكنّه يحمل في طيّاته كذلك ذكرى سنويّة لواحد من أبرز نصوص أدب الأطفال التراجيديّ، وهي قصّة «بائعة الكبريت الصغيرة». هذه القصّة، تحمل في طيّاتها تذكيرًا بالألم المتمثّل بالصقيع القارس، الّذي يعاني منه الأطفال في جميع أنحاء العالَم. ليست قضيّة مناهضة الصقيع هي الهدف، بل رمزيّتها إلى حتميّة القضاء عند صمت المجتمعات. في هذا العام، تفاقمت قصص معاناة الأطفال تحت القصف المستمرّ في قطاع غزّة، وتحوّلت بائعة الكبريت إلى رمزيّة ناعمة نسبة إلى ما يحدث في الواقع.
قصص قدّيسي الصقيع
بينما يحتفل العالم بموسم الدفء والفرح من خلال حكايات بابا نويل، وسانتا كلاوس، وديد موروز (Ded Moroz)، والأب صقيع (Father Frost)، يصبح من الضروريّ التذكّر والاعتراف بأنّه وسط السحر والدفء والاحتفالات السنويّة، هناك حقيقة صارخة – حقيقة أنّ هناك أطفالًا يتجمّدون حتّى الموت حين يغلبهم البرد، حقيقة الجوع في شوارع العالم الباردة.
قصّة «بائعة الكبريت الصغيرة» لا تعرض الروح الدافئة للقرّاء، بل تفرض عليهم الشعور بالألم، والبرد، وتعرض مجازيّة تغيّر المواسم بتغيّر الأرواح، وموت البعض مقابل ترف البعض.
إنّ السرد المنسوج حول قصص قدّيسي الصقيع، سواء كان سانتا كلاوس أو أيًّا من الكيانات الثقافيّة والأسطوريّة المماثلة، غالبًا ما تحمل معاني مجازيّة تمتدّ إلى ما هو أبعد من تمثيلها الحرفيّ. بعض المعاني المجازيّة الشائعة المرتبطة بشخصيّاتها تتمثّل بالكرم وإهداء الهدايا؛ إذ يعكس تقديم الهدايا متعة المشاركة وأهمّيّة اللطف نحو الآخر خلال أوقات الأعياد.
غالبًا ما ترتبط هذه الشخصيّات بالاحتفالات والفرح والبهجة والشعور بالعجب لكلٍّ من الأطفال والكبار. هذا إلى جانب فكرة الأمل والإيمان، الّذي يملأ الفرد بالدفء النفسيّ، كونه يعرف أنّ كلّ شيء سيكون على ما يُرام، ما يتعزّز بالتركيز على العائليّة والتجمّعات في الأعياد؛ لتزيد فكرة الانتماء والحضن الدافئ. في العديد من الثقافات، يرتبط تغيّر هذه الأرقام الرمزيّة بتغيّر الفصول، وخاصّة التركيز على فصل الشتاء، فقد ترمز إلى الطبيعة الدوريّة للحياة، فيها يمثّل الشتاء فترة من الراحة والتجديد قبل وصول الربيع.
مأساة أطفال غزّة
قصّة «بائعة الكبريت الصغيرة» لا تعرض الروح الدافئة للقرّاء، بل تفرض عليهم الشعور بالألم، والبرد، وتعرض مجازيّة تغيّر المواسم بتغيّر الأرواح، وموت البعض مقابل ترف البعض. ترافق رياح الفقر المروّعة والبرد القارس شخصيّة الطفلة المتشرّدة؛ لتشكّل تحدّيًا لنا للاعتراف بمسؤوليّتنا المشتركة عن خلق مجتمع رحيم. تعمل القصّة قوّةً مضادّةً مباشرةً ضدّ الآليّات الاجتماعيّة الّتي تديم الفقر والتشرّد بين الأطفال، وتحثّ البالغين على مواجهة حقيقة أنّهم يؤدّون دورًا في تشكيل العالم للأجيال القادمة. لهذا؛ أتناول القصّة كلّ عام من جديد؛ لأتذكّر وأذكّر بطبقيّة دفء الأعياد.
العام الحاليّ يضفي طابعًا كئيبًا على هذه الطقوس السنويّة. من الصعب التعبير عن ألم بائعة الكبريت، الّذي يرمز إلى المأساة الّتي يعيشها عدد لا يُحْصى من الأطفال على خلفيّة الأحداث الأخيرة. على مدى الأشهر الثلاثة الماضية، شهد العالم مأساة أطفال قطاع غزّة تحت العدوان الإسرائيليّ المتواصل. بخلاف بائعة الكبريت الصغيرة، فإنّ حياة هؤلاء الأطفال لا تفنى فقط بسبب تغيّر المواسم والبرد أو الجوع الناجم عن الفقر؛ بل إنّهم ضحايا واقع وحشيّ، قرّر نظام سياسيّ فيه أنّهم لا يستحقّون قدسيّة المأوى والأمان. إنّ محنة أطفال القطاع تمثّل خروجًا عن الآليّات الاجتماعيّة المرتبطة بطبقيّة الغنى والفقر. هذه ليست قصّة ذوات ومشرّدين؛ بل هي ملحمة مروّعة فيها تحوّل الأطفال إلى أهداف تحت عشوائيّة قصف قاسية خالية من العقلانيّة البشريّة.
بالرغم من أنّ قصّة «بائعة الكبريت الصغيرة» مؤثّرة ومركزيّة في تسليط الضوء على المسؤوليّات المجتمعيّة، إلّا أنّها تفشل في تصوير مدى تعقيد الفظائع الّتي تتكشّف كلّ يوم في القطاع. إنّها تذكير صارخ بأنّ التمييز، في هذه المرحلة، بين المستحقّ وغير المستحقّ؛ المتعمّد وغير المتعمّد؛ المسيّس وغير المسيّس، ليس له أهمّيّة، وغير مثير للاهتمام في مواجهة مأساة إنسانيّة تتحدّى المنطق البشريّ.
زرع بذور الأمل
لقد ألغى العديد معالم الاحتفال ومظاهره هذه السنة في الأعياد؛ تمثّل بإلغاء حفلات موسيقيّة، وعرض لوحات فنّيّة لقدّيسي الصقيع المختلفين، يبحثون عن الأطفال لتقديم الهدايا دون إيجادهم، وإعداد موسيقى بديلة لتوعية العالم وتنبيهه على ما يحدث في فلسطين، وفي قطاع غزّة بشكل خاصّ؛ فهذا نداء إلى الأهالي في فلسطين وخارجها، لاتّخاذ موقف واضح وشجاع تجاه أطفالهم، أن يحكوا لهم عمّا يحدث في العالَم، وقصص الأطفال، حتّى تراجيديّاتها، هي أداة ناجعة لهذا الهدف.
في قطاع غزّة، ثمّة العشرات من المتطوّعين الشجعان الّذين ما زالوا يشعلون عيدان الثقاب واحدًا تلو الآخر؛ لإنارة الأمل في الظلام السائد، والبرد القارس لتدفئة قلوب الأطفال.
هذا العام، بدلًا من الاكتفاء بقصص قدّيسي الصقيع، أو تجاهل الموسم، يمكن أن تكون فرصة لقراءة قصص وشهادات وحكايات من أدب الأطفال الفلسطينيّ. أن تكون فرصة لتوعية الأطفال للواقع من حولهم. يمكن اللجوء إلى الرمزيّة لحمايتهم، من خلال قصّة «بائعة الكبريت الصغيرة»، كذكرى توعويّة لكلّ ما يواجه أطفال العالم. أمّا الأجيال الملائمة للقراءة، فليس هناك أدرى من كلّ والدة ووالد بمدى جاهزيّة أطفالهم للاستماع للقصص.
في قطاع غزّة، ثمّة العشرات من المتطوّعين الشجعان غم الألم، الّذين ما زالوا يشعلون عيدان الثقاب واحدًا تلو الآخر؛ لإنارة الأمل في الظلام السائد، والبرد القارس لتدفئة قلوب الأطفال. ونحن نتابعهم عبر الشاشات يقرؤون لهم القصص كما فعل محمود البلبيسي، ويعدّون لهم حيّزات مرتجلة للعب كما فعل الشهيد محمّد سامي قريقع. علّنا نتعلّم من هذه التجارب زرع بذور الأمل والصمود والإصرار على الحياة، لعلّ عيدان الثقاب الصغيرة تصبح منارة في الظلام ومدفأة في الشتاء.
الاعتراف بالألم
بينما نبحر في تعقيدات عالمنا، فإنّ قصّة «بائعة الكبريت الصغيرة» تدعونا إلى التفكير ليس فقط في البنيويّة المجتمعيّة الّتي تديم فقر الأطفال، لكن أيضًا في الحاجة الملحّة إلى فهم إمكانيّة الفصل بين المأساة الممنهجة وإسقاطاتها، وبين الحاجة الملحّة والطارئة إلى معالجة الأهوال غير المسبوقة الّتي تواجه الأطفال في مناطق الصراع، في فلسطين والسودان وأوكرانيا وجمهوريّة إفريقيا الوسطى وغيرها.
إنّ رياح الظلم المروّعة تجتاح وعينا الجماعيّ، ومن خلال التذكّر والتوعية والفعل السياسيّ والجماهيريّ مهما كان شكله، فإنّنا في الواقع لا نبتعد عن روح الأعياد حقًّا، بل نحقّقها؛ من خلال الاعتراف بالألم، لكن أيضًا من خلال إلزام أنفسنا باتّخاذ المسؤوليّة على بناء واقع، تكون فيه حماية حقّ كلّ طفل في الحياة والدفء والفرح.
باحث ومحاضر في ثقافة الأطفال والشباب، طالب دكتوراه في «جامعة تل أبيب»، في أدب الأطفال العالميّ والفلسطينيّ، ومحرّر موقع «حكايا».
المصدر: عرب 48