“باسم الله، الحزب، الوطن”.. قراءة مغايرة لمسيرة الحزب الشيوعي في البلاد
في كتابها الصادر حديثًا باللغة العبرية بعنوان “باسم الله، الحزب، الوطن”، تتناول د. ميسون ارشيد شحادة “قصة الشيوعيين العرب الفلسطينيين في البلاد على مدى خمسة عقود عاصفة – منذ مطلع عشرينيات القرن الماضي وحتى يوم الأرض 1976”.
تغطية متواصلة على قناة موقع “عرب 48” في “تليغرام”
يعتمد الكتاب على البحث الذي أُجري للحصول على شهادة الدكتوراه من قسم العلوم السياسية في جامعة بار إيلان، حيث يعالج مسيرة الشيوعيين العرب الفلسطينيين من خلال ثلاثة محاور رئيسية تناولتها فصوله: “الواقعية الطائفية”، “الهوية الهجينة”، و”الخطاب الديني كوسيلة لبلورة وتجسير الفجوات بين المجموعات الإثنية-القومية وداخلها”.
تبدأ الباحثة برصد تاريخ الحزب الشيوعي الفلسطيني منذ تأسيسه في عشرينيات القرن الماضي، حينما تشكّل على يد منشقين يهود من الجناح الراديكالي في الصهيونية الاشتراكية، والذين تبنوا مبادئ الشيوعية. ومرّ الحزب خلال تلك الحقبة بتحولات عديدة غيّرت وجهه وتركيبته، حتى تبلورت صورته الحالية كحزب ثنائي القومية، يضم رفاقًا غالبيتهم من المسلمين، إلى جانب مسيحيين (معظمهم من طائفة الروم الأرثوذكس) وأقلية هامشية من اليهود.
ويُظهر البحث أن الولادة الأولية للحزب ظلت تُلقي بظلالها على تركيبته خلال العقدين الأولين من الانتداب البريطاني، حتى أحداث ثورة البراق. هذه الأحداث دفعت الاتحاد الأممي للأحزاب الشيوعية “الكومنترن” إلى الدعوة للخروج من “الغيتو” اليهودي وتعريب الحزب ليواكب الواقع الديمغرافي لفلسطين ذات الأغلبية العربية. وقد اقتصر “الكومنترن”، وهو منظمة دولية تدافع عن الشيوعية العالمية، تعامله على قادة عرب ويهود من مواليد فلسطين، مع استبعاد القيادة المؤسسة التي تشكلت من مهاجرين يهود شيوعيين قدموا ضمن الهجرة الصهيونية.
إلا أن عوامل داخلية وخارجية تضافرت لعرقلة عملية التعريب. فعلى المستوى الداخلي، واجهت الفكرة معارضة من أعضاء الحزب اليهود، بينما تمثلت العوامل الخارجية في الحضور القوي للأحزاب الوطنية الفلسطينية وميل أمين الحزب، الرفيق موسى (رضوان الحلو)، إلى اتجاهها. هذه العوامل، إلى جانب اتهام الحزب بالتعاون مع “الهستدروت”، أدت إلى طرد الحزب من “الكومنترن” قبيل حله في عام 1943.
من المفارقات التاريخية أن يتزامن حل “الكومنترن” في 1943 مع انشقاق الجناح العربي عن الحزب وتأسيس “عصبة التحرر الوطني”. وتشير المؤلفة إلى أن العصبة ظهرت كتنظيم عربي خالص، قدم نفسه كفرع من جذور الحركة الوطنية، حيث انحدر قادتها وأعضاؤها من النخب المثقفة، خاصة المسيحية، على خلاف القيادات العربية السابقة في الحزب الشيوعي الفلسطيني، التي كانت تنتمي في الغالب إلى الأوساط العمالية.
إلا أن تجربة العصبة واستقامة الشيوعيين العرب مع موقف الحركة الوطنية الفلسطينية لم تدم طويلًا. ففي 22 مايو 1947، أعلن الشيوعيون العرب (عصبة التحرر الوطني) تنازلهم عن التعاون مع لجنة الأمم المتحدة، وأيد الشيوعيون العرب (عصبة التحرر) موقف شركائهم من الجناح اليهودي الذي قاده ميكونيس، سكرتير الحزب، ووصفوهم بالأصدقاء الذين يدعون إلى الاستقلال والوحدة.
الباحثة تدعم هذا الادعاء بمستند من أرشيف الحزب الشيوعي يكشف عن محادثات جرت بين عصبة التحرر الوطني والحزب الشيوعي الفلسطيني قبل إعلان قرار التقسيم. يشير المستند إلى أنه تم خلال هذه المحادثات تحديد المهمات المشتركة وتلخيصها في: تحقيق الاستقلال من خلال محاربة الاستعمار، التعاون والسلام بين الشعبين، وحدة وديمقراطية الدولتين، والدعوة لأن يقدم الشيوعيون من الشعبين نموذجًا للوحدة من خلال تنظيم الحزبين وإقامة وحدة تنظيمية تشمل جميع الشيوعيين بغض النظر عن انتمائهم القومي، مع سكرتارية واحدة ومؤسسات قطرية للدولتين ومنطقة القدس (الدولية).
لإلقاء المزيد من الضوء على موضوع الكتاب، حاورنا مؤلفته د. ميسون ارشيد شحادة:
“عرب 48”: اللافت أن الكتاب، الذي يتعامل بجرأة أكاديمية غير مسبوقة مع مسألة الانتماء الطائفي ومسائل أخرى هامة، يساهم في إزالة الكثير من الغموض عن العديد من القضايا والمواقف التي رافقت مسيرة الحزب الشيوعي التاريخية ويساعد في فهمها. وأقصد تحديدًا إزالة الضبابية عن حقيقة أن الحزب الشيوعي، منذ تأسيسه وعلى مدى سنوات عمره السابقة على قيام دولة إسرائيل، تشكّل أساسًا من اليهود والمسيحيين العرب من طائفة الروم الأرثوذكس، ولم يتمكن من اختراق الأغلبية السكانية التي تألفت من العرب المسلمين. كيف ينعكس ذلك على سلسلة مواقفه من القضية الوطنية الفلسطينية؟
ارشيد-شحادة: أولًا، الكتاب يقوم بقراءة مغايرة لمسيرة الحزب الشيوعي في البلاد بالتركيز على الشيوعيين العرب الفلسطينيين. وهو يرقب ويحلل محور السردية التاريخية للحزب الشيوعي منذ تأسيسه وحتى يوم الأرض 1976، إلى جانب محاور أخرى نسميها نقاط حرارية على محور السردية التاريخية لهذا الحزب، وهو ما لم يقم به أحد من قبل. هذه دعوة، ربما، لإجراء مثل هذه المراجعة لسائر أحزابنا وحركاتنا الأخرى، لأن ذلك يساهم في التوثيق بما يفيد الناس عمومًا، خاصة أعضاء الحزب الذين انضووا أو ما زالوا تحت لواء هذا الحزب.
ويعطيهم الكتاب الفرصة ليقرأوا تاريخهم ويقوموا بمراجعته، وربما هذا ما جعل طلبًا متزايدًا على الكتاب في منطقة تل أبيب، حيث أعيدت طباعته ثلاث مرات بناء على طلب قدامى الحزب اليهود وأقربائهم في منطقة المركز.
الكتاب تناول ثلاثة محاور أساسية: الأول هو العوامل التي دفعت نحو الانتماء للحزب الشيوعي. فالرفاق اليهود المؤسسون، كما هو معروف، هم رفاق انشقوا عن الحركة الصهيونية وأسسوا لاحقًا الحزب الشيوعي انطلاقًا من إيمانهم بالاشتراكية الماركسية. لكن السؤال الذي عالجه الكتاب هو: لماذا انضم العرب إلى الحزب الشيوعي؟
ثم تناول علاقة اليهود والعرب في الحزب، وموقفهم من الوحدة في إطار الحزب الشيوعي الفلسطيني. وأخيرًا، ناقش أسباب الانشقاق وتشكيل عصبة التحرر الوطني، ومن ثم العودة مجددًا إلى الوحدة في إطار الحزب الشيوعي الإسرائيلي.
المحور الثاني يتناول الهوية التي ساعد في تشكيلها الحزب الشيوعي بصفته اللاعب الأبرز في هندسة هوية العرب المتبقين في الحيز المكاني الذي أقيمت عليه دولة إسرائيل، والتي أسميها بالهوية الهجينة. أما المحور الثالث، فيتعلق باستعمال العبارات الدينية في الخطاب السياسي للحزب الشيوعي، وكيف يمكن لحزب علماني جدًا، حد الاتهام له بالإلحاد، أن يستعمل هذا الكم المكثف من العبارات والرموز الدينية الإسلامية خاصة، ولكن أيضًا المسيحية واليهودية، ولماذا؟
“عرب 48”: دعينا نتركز أساسًا في المحور الأول الذي يتناول تاريخ الشيوعيين العرب حتى نكبة عام 48 وإقامة دولة إسرائيل، كونه يضيء على الكثير من الجوانب المعتمة في التاريخ الفلسطيني. ونبدأ بالمسألة التي بدأت بها، والمتعلقة بالتركيبة الديمغرافية للحزب التي طغى عليها اليهود والمسيحيون العرب من طائفة الروم الأرثوذكس، كما أشرت؟
ارشيد-شحادة: المعلومة ليست دقيقة كما تطرحها أنت. أولًا، اليهود هم الذين أسسوا الحزب عام 1923 من منظمات ذات توجه اشتراكي ماركسي انشقت عن الحركة الصهيونية لهذا السبب، وظلوا مسيطرين عليه إلى أن توجهوا إلى موسكو لكي تعترف بالحزب، فاشترطت عليهم الأخيرة أن يكون الحزب أمميًا. عندها بدأوا بالتوجه إلى العرب للانضمام للحزب.
“عرب 48”: هذا ما سمي بالتعريب؟
ارشيد-شحادة: لا، التعريب درجة أعلى، وهي أن يمسك العرب زمام القيادة في الحزب. تلك كانت النقطة التي أدت إلى الشرخ الكبير في الحزب – كيف نسلم نحن الأوروبيين المثقفين، ولدينا تجربة وفهم ماركسي راسخ، قيادتنا لأناس لا يفقهون هذا الفكر على الأقل؟ فقد كان رضوان الحلو (مواليد يافا) أمين عام الحزب العربي الأول الذي جرى تعيينه وفق هذا التوجيه شبه أمي، لا يقرأ ولا يكتب، وكان من الصعب ابتلاع هذا التعيين من قبل قيادة الحزب الأوروبية المثقفة. ولا بد من الإشارة هنا إلى أن النظرة الاستشراقية لعبت دورًا في نزعة الاستعلاء وعدم التقبل.
ولكن إذا عدنا خطوة إلى الوراء، نجد أنه كان هناك مركزان أساسيان لتجنيد الرفاق العرب لصفوف الحزب. الأول هو منطقة القدس ويافا، حيث جرى تجنيد أوائل المنضمين، بينهم نجاتي صدقي ومحمود المغربي (الأطرش) وإخوتهما. (نجاتي صدقي ومحمود الأطرش اللذان جرى نفيهما بعد فترة وجيزة من قبل الانتداب البريطاني. لا أحد يذكرهما، الرفاق الشباب وغالبية الجيل القديم في الحزب الشيوعي لا يعرفون هذه الأسماء).
المسار الثاني هو مسار منطقة الجليل ومركزها الناصرة-حيفا، حيث نجح تجنيد مكثف لرفاق من أبناء الطائفة المسيحية من الروم الأرثوذكس بسبب القضية الأرثوذكسية التي كانت تتفاعل. سببها كان عدم رضا أبناء الطائفة عن إدارة شؤونها من قبل رجال الدين اليونانيين الذين سيطروا على أملاك الطائفة ومواردها. وقد تزامن تفاعل هذه القضية مع مطلب ضم العرب للحزب الشيوعي. فوجد العرب الأرثوذكس في الحزب الشيوعي ملاذًا لهم، وذلك لسببين: الأول هو أن الكنيسة الروسية هي كنيسة أرثوذكسية تنضوي تحت الشق الشرقي للكنيسة المسيحية، وبالتالي فإن الانضمام للحزب الشيوعي إذا ما فهمناه، تم ضمن إطار البحث عن أب راعٍ لأبناء الطائفة يتمثل في روسيا وكنيستها.
(تجدر الإشارة إلى أن روسيا القيصرية، وقبل تشكيل الاتحاد السوفييتي، مدت يدها إلى الشرق الأوسط، وخاصة إلى منطقة فلسطين والأردن، وقامت ببناء مؤسسات وشراء أملاك ممتدة لخدمة أبناء الطائفة من جهة، ولإحكام سيطرتها الدينية والسياسية في المنطقة ضمن ما سمي فيما بعد الكنيسة البيضاء).
هنا من الجدير التنويه أن الأحزاب الشيوعية العربية، المصري، السوري-اللبناني، العراقي، والسوداني، قياداتها البارزة كانوا من أبناء الأقليات. فالحزب الشيوعي المصري اشترك في تأسيسه وقاده اليهود والأرمن، وكذلك الحزب السوري-اللبناني، حيث عمل على تأسيسه الرفاق اليهود في الحزب الشيوعي الفلسطيني مع رفاق سابقين التقوهم في مصر ورفاق أرمن. وكانت الهوية الأممية لهذه الأحزاب تتيح ذلك. لكن في فلسطين تحديدًا، لا نستطيع القول بأن المسيحيين انضموا للحزب الشيوعي، بل طائفة منهم فقط، وهم الروم الأرثوذكس. وكما أسلفت، فإن ذلك يرتبط بالقضية الأرثوذكسية، وهم بطبيعة الحال لم يكونوا من مؤسسي الحزب أو قيادته الأولى.
“عرب 48”: السؤال هو لماذا لم يستطع الحزب الشيوعي التغلغل في صفوف الأغلبية العربية (المسلمة)، والمفارقة أنه نجح في التغلغل بين العرب فقط عندما تحولوا إلى أقلية داخل الوطن، أي أنه ظل حزب الأقلية قبل الـ 48، وبعد الـ 48؟
ارشيد-شحادة: الحقيقة أن مسألة ضم العرب وتحقيق اختراق في هذا المجال كانت مطروحة دائمًا على بساط الحزب بتوجيه وضغط من الاتحاد السوفييتي واتحاد الأحزاب الشيوعية (الشيوعية الدولية-الكومنترن). وقد جرى تطبيق القاعدة التي تستند إليها هذه الأحزاب بأن تكون قيادة الحزب الشيوعي منتمية إلى الأغلبية. وبناءً عليه، جرى تعيين رضوان الحلو أمينًا عامًا للحزب عام 1934 كعربي مسلم يمثل أغلبية سكان المكان. وقبله تم ضم ثلاثة مسلمين إلى اللجنة المركزية للحزب، من ضمنهم نجاتي صدقي ومحمود المغربي، تحت نفس التعريف.
الحلو، الذي عُيّن لكونه عربيًا مسلمًا من مواليد يافا، يعكس الأغلبية في فلسطين، تزوج (أو على الأقل كان في وضع مساكنة دائمة) من سمحا تسباري، والتي كانت واحدة من اثنين يهود ولدوا في فلسطين. شكّل الحلو مع سمحا، تحت طلب الكومنترن، قيادة الحزب الشيوعي في حينه. واستمر هذا الوضع حتى انشقاق الجناح العربي عن الحزب، والذي “اتهم” فيه إميل حبيبي (نائب الأمين العام) وفرع حيفا بتدبيره بواسطة توزيع منشور محرض باسم “قيادة الحزب الشيوعي” دون علم رضوان الحلو.
ورد في المنشور أن الحزب هو حزب عربي وطني يضم يهودًا في صفوفه، الأمر الذي أثار غضب الرفاق اليهود الذين رأوا أنفسهم جزءًا من حزب أممي هم من أسسه أصلاً. وانتهى الأمر، بسبب هذا المنشور أساسًا، إلى تفكك الحزب إلى أحزاب، ومن ضمنها عصبة التحرر الوطني عام 1943، لتعود جميعها للاتحاد من جديد في سبتمبر 1948 ضمن الحزب الشيوعي الإسرائيلي.
وكان إميل حبيبي قد أنكر “تهمة” توزيع منشور الانشقاق (منشور حيفا)، بينما أخذ أعضاء اللجنة المركزية عبدالله البندك، ويعقوب الأرمني، وسعيد قبلان المسؤولية على عاتقهم واستقالوا من اللجنة المركزية. منشور حيفا، الذي جرى توزيعه في 29 مايو 1943، يُسجل كأحد الأحداث المؤسسة في تاريخ الحزب الشيوعي، لأنه، وفق ميكونيس، بنى ووفر الأساس النظري لانشقاق الحزب وبناء حدود هويته المتعددة والتي أساسها الانتماء القومي.
“عرب 48”: أعتقد أن إميل حبيبي نفسه، الذي “اتهم” بالتسبب بانشقاق الحزب الشيوعي الفلسطيني وتشكيل عصبة التحرر الوطني عام 1943، هو نفسه الذي “اتهم” عام 1947-1948 بإعادة توحيده تحت اسم الحزب الشيوعي الإسرائيلي، بعد أن قاد مع توفيق طوبي تأييد عصبة التحرر الوطني لقرار التقسيم الذي عارضه إميل توما وبولس فرح؟
ارشيد- شحادة: عصبة التحرر الوطني تشكلت لتقول أولًا إن الشيوعيين العرب هم جزء مندمج في حركة التحرر الوطني الفلسطينية. وفعلاً، حاولت العصبة جاهدة خلال فترة حياتها التقرب من الحركة الوطنية بقيادة الحاج أمين الحسيني، لكن خيوط العلاقة المعلنة سابقًا والخفية لاحقًا بين جناحي الحزب العربي -عصبة التحرر الوطني- واليهودي -الحزب الشيوعي الفلسطيني، الذي غيّر اسمه بعد صدور قرار التقسيم إلى الحزب الشيوعي الأرض إسرائيلي- حالت دون ذلك، لأن الحركة الوطنية ببساطة لم تفتح أبواب ثقتها للعصبة وأبقتها خارجها.
خلال تلك الفترة، كانت اليد العليا في سياق العلاقة بين جناحي الحزب لعصبة التحرر الوطني، بينما كان الجناح اليهودي في حالة “ترجي”، إن صح التعبير، لإعادة تشكيل الحزب العربي-اليهودي “الأممي”، لأن هذا التوجه يخدم مصالحه ويتلاءم مع موقف الاتحاد السوفييتي والأحزاب الشيوعية.
لكن المعادلة انقلبت بعد أن جاء قرار الاتحاد السوفييتي المؤيد لقرار التقسيم وموافقة عصبة التحرر الوطني عليه، وصار الجناح اليهودي في الموقع الأقوى، حيث نجح في جذب عصبة التحرر إلى ساحته مجددًا بعد تشكل الأرضية المشتركة للتوحد في إطار الحزب الشيوعي الإسرائيلي لاحقًا. وكانت أولى ترجمات هذا التقارب قد ظهرت في الاتفاق على تشكيل وفد مشترك للمشاركة في اجتماع “الكومنفورم” – مؤتمر التنسيق بين الأحزاب الشيوعية الذي شكله ستالين. وسفرة إميل حبيبي في مطلع شباط 1948 مع ميكونيس على نفس الطائرة وإلى نفس البلد (بلغراد) ظلت تلاحقه بشكل شخصي وحزبي، كونها ارتبطت بجهود ميكونيس لتجنيد سلاح لقوات “الهاغاناه”، والتي عُرفت لاحقًا بـ”صفقة السلاح التشيكية”.
“عرب 48”: وهل حقًا ساهم حبيبي في ذلك؟
ارشيد- شحادة: من الواضح أن إميل حبيبي لم يسافر مع ميكونيس لهذا الغرض، بل هم أرادوا (الشيوعيون اليهود والعرب) إظهار حقيقة مفادها أن الحزب الشيوعي الذي سينشأ في الدولة اليهودية بعد تطبيق قرار التقسيم هو حزب أممي، وأن العرب في هذا الحزب موافقون على قرار التقسيم وعلى قيام الدولة اليهودية. هذا هو “الكرت” الذي استعمله ميكونيس لتجنيد السلاح.
لكن، وإن كان من الصعب التصديق أيضًا بأن المعلومات المرتبطة بمحادثات تجنيد السلاح الذي انشغل بها ميكونيس والوكالة اليهودية لم تصل إلى مسامع حبيبي، الذي أمضى تلك الفترة (من شباط وحتى أيار) في الدول الاشتراكية، فمن الجدير التأكيد أنه ما كان باستطاعته (حبيبي) التأثير في الموضوع. كما أن الوكالة اليهودية هي من عقدت الصفقة، ومن أحضرت الأموال، وهي من أفشل صفقة السلاح السورية أيضًا، بينما ساهم دور ميكونيس والحزب الشيوعي في دعمها ودعم تجنيد مقاتلين وسلاح. وأعتقد أن دور إميل حبيبي في هذا السياق كان غير مؤثر لكنه تواجد في المكان. وفي نهاية الأمر، قيادة الحزب الشيوعي جلست أكثر من مرة وراء يافطة مكتوب عليها “لولا جهود الاتحاد السوفياتي لم تكن الدولة لتقوم”، وهذا صحيح بسبب صفقة السلاح التشيكية.
من المهم أن أذكر أن قيادة وأعضاء العصبة لم يكونوا محصنين ولا محميين لا من قبل قادة الدولة اليهودية ولا من قبل الحركة الوطنية الفلسطينية. لقد وجدوا أنفسهم ملاحقين من الحركة الوطنية الفلسطينية بعد موافقتهم على قرار التقسيم، وسط أصوات تطالب بمحاكمتهم. ولذلك، غادر غالبيتهم البلاد، وألقي القبض على إميل توما وسجن فعليًا في لبنان، رغم أنه كان في البداية من بين الذين عارضوا قرار التقسيم في التصويت الداخلي للحزب، والذي تم في مدينة الناصرة. كما غادر إميل حبيبي، بعد عودته من الدول الاشتراكية، هو الآخر إلى لبنان، وعاد إلى الوطن بعد فترة قصيرة. من بقي في حيفا وحيدًا من القيادة التي وافقت على التقسيم هو توفيق طوبي، الذي اهتم أيضًا بترحيل عائلته إلى لبنان.
“عرب 48”: نستطيع القول إن الشيوعيين العرب تجاذبتهم النزعة الوطنية بما تمليه من التزام، والنزعة الأممية بما تفرضه من قيود وارتباطات، ووقعوا في النهاية في “شرك” موقف الاتحاد السوفييتي المؤيد لقرار التقسيم، وهو ما وضعهم في صدام مع الحركة الوطنية الفلسطينية، فلم يجدوا سبيلًا إلا العودة إلى حضن الحزب الشيوعي (جناح ميكونيس) الذي أصبح إسرائيليًا؟
ارشيد- شحادة: أولًا، كل الحديث عن تفسير القبول بقرار التقسيم تحت حجة حماية الجماهير الفلسطينية والبقاء غير صحيح. النقاش لم يدر حول هذا الموضوع، بل عن حماية الحزب، وعن التوجه الصحيح للحزب، وعن شكل القيادة المستقبلية. وأصلاً، تحت وطأة نيران الحرب والنكبة، كل فرد اهتم بنفسه وجماعته القريبة إليه أولًا، وهذا هو التصرف الطبيعي بحسب جميع النظريات الفرويدية.
هنا من الجدير أن نذكر أمر اجتماع توفيق طوبي مع الرئاسة الروحية لطائفة الروم الأرثوذكس في حيفا، وموافقته في 13 سبتمبر 1948 على تعيينه كرئيس للجنة المسؤولة عن شؤون الطائفة، ومن ضمنها المحافظة على الكنيسة والأوقاف في حيفا. بالتزامن مع ذلك، تمت الموافقة على إعادته إلى حيفا من قيادة الحزب لإدارة “اللجنة العربية المؤقتة” في حيفا، وبعد أن قادوا عملية انضمام الشيوعيين العرب مجددًا للحزب الشيوعي الموحد الإسرائيلي.
“عرب 48”: موافقة عصبة التحرر الوطني على قرار التقسيم المتأثر بموقف الاتحاد السوفييتي والأحزاب الشيوعية العالمية، شكل انقلابًا في موقفها الوطني، وفتح أمامها الباب للعودة إلى حضن الحزب الشيوعي الأم – راعي هذا التوجه – الذي تركوه عام 1943. وهو ما شرعن بقاءهم وبقاء حزبهم الذي أصبح يسمى الحزب الشيوعي الإسرائيلي في إطار دولة إسرائيل بعد النكبة؟
ارشيد- شحادة: في المنشور الأخير الذي أصدرته عصبة التحرر الوطني باسم لجنتها المركزية في القدس، والمؤرخ بـ19 يناير 1948، بررت العصبة موافقتها على قرار التقسيم ودافعت عنه وهاجمت اللجنة العربية العليا. الأمر الذي لاقى استحسان قادة “الحزب الشيوعي الأرض إسرائيلي”. وقامت صحافته بوصف العصبة بأنها “جسم عربي تقدمي يدعم اليهود ودولتهم”، حيث وصف مقال في جريدة “صوت الشعب” العبرية عصبة التحرر الوطني بأنها “حزب واقعي، أخلاقي ويؤيد المصالح اليهودية”.
هذا التغير في الموقف، والذي بوبته تحت عنوان “العقلانية السياسية”، يعكس طبيعة نهج الإنسان والمجموعات والدول – بالذات – تحت الخطر، والتي لا ترى في المقاومة خيارًا عقلانيًا. هذا هو ما يفسر ما حدث من تراجعات وتفسيرات مكتوبة للعصبة وأعضائها، برز من بينها تغير موقف إميل توما واعتذاره ليعود من لبنان إلى حيفا و”اعترافه” بأنه تجاهل تشكل اليهود كأمة لها حق تقرير المصير. وعلى أساس هذا المبدأ العقلاني، تم هندسة الهوية للعرب الفلسطينيين في إسرائيل بشكل تلاحمت فيه المركبات الكبيرة والجزئية الوطنية والمدنية معًا – ضمن ما أسميته الهوية الهجينة (الهيبريدية).
ميسون ارشيد شحادة: محاضرة في قسم العلوم السياسية والتاريخ في الجامعة المفتوحة وجامعة بار إيلان، ومديرة وحدة التأهيل للتدريس في الكلية الأكاديمية بسخنين. متخصصة في دراسة المبنى التاريخي، الاجتماعي، والسياسي للفلسطينيين العرب في إسرائيل.
المصدر: عرب 48