برشلونة… اختبار الخرَس
1
وصلتُ إلى برشلونة، كانت رحلة طويلة وشاقّة. بعد أن تعذّر عليّ السفر إلى برلين بسبب إلغاء الطائرات خلال شهر تشرين الأوّل (أكتوبر)؛ فلم أستطع أن أكون في عرض فيلمٍ ترجمته. ظننت أنّ هذه إشارة لكيلا أغادر البلاد، فعزمت على البقاء، لكنّ بقائي هناك كان يأكل في كلّ يوم جزءًا منّي، ولا سيّما لساني.
اضطررت إلى الانتقال إلى حيفا، بعد أن تعرّضت للتهديد في قريتي الحبيبة بسبب اختلاف في الآراء، وهذا في أحسن حالات التسمية، أو إذا أردنا الدقّة مسارًا، فالخير مقابل الشرّ؛ المعرفة مقابل الجهل؛ التحرّر مقابل العبوديّة. عمومًا، لا أريد الخوض في التسميات والتفاصيل، فأنا لا أسعى إلى تفكيك مفهوم التهديد هنا، ولا الخوف، ولا الخرَس، رغم أنّني اختبرت خرَسًا لم أعرفه من قبل.
توجّب عليّ مغادرة البلاد من أجل نشاط في جنوب إسبانيا، كنت قد استثمرت فيه أشهرًا طويلة، وبذلت مجهودًا ووقتًا وحبًّا فيه. وبعد أن كنت متأرجحة بين حضوره وعدمه، سافرت عن طريق الأردنّ، وقضيت فيها ليلة واحدة تجمّع فيها أصدقاء لم أرهم لأعوام طوال، فاقترب فتات قلبي من بعضه قليلًا، حيث امتلأت فراغاته بالدفء.
لم أعرف وجهتي بعد انتهاء النشاط، فأنا لا أخطّط لمستقبلي القريب منذ فترة، ولا البعيد. أصبحت أتعامل مع الحياة بعشوائيّة، فقد باتت الحياة عبارة عن صندوق أيّام تشبه بعضها بعضًا، وثمن أيّ اختلاف قد يكلّف انعدامها.
في برشلونة، تعرّفت إلى شابّ فلسطينيّ، صديق صديقتي.
– نحن في كلّ مكان، قلت له.
مشينا معًا نحو البيت الّذي سأسكنه لبضعة أيّام. قلت له: “حدّثني عن الحارة”، فقال: “هذه الحارة تُدْعى راڤال، وهي تُعْتبَر من أخطر حارات برشلونة”.
مرّة أخرى؟ خطر يلاحقني؟
– لا أظنّ أنّ هناك ما هو أخطر من بلادنا في هذه اللحظة، قلت مبتسمة. لكن حدّثني أكثر عن الخطر، أين يكمن؟ كيف ملامحه؟
– يعني من الممكن أن تتعرّضي للسرقة.
– حسنًا، همستُ في قلبي، أرضي مسروقة، هويّتي تتعرّض للنهب يوميًّا، صوتي سُلِب ولم يعُد يُسْمَع. أسأحزن على نقودي أم هاتفي أم أوراقي الثبوتيّة؟
ما الثابت أصلًا؟ أنا في مدينة لم أخطّط لزيارتها أصلًا، هي – لا شكّ – جميلة، لكن لم أتوقّع أن أكون هنا في هذا الوقت في هذه الظروف. وقفنا إلى جانب باب العمارة، فقال: انظري إلى هذا الباب المجاور، حيث كُتِب “هنا تسكن وردة راڤال وبرشلونة”. وحدّثني عن المرأة المسنّة الّتي تسكن هناك، والّتي كانت من أشهر الناشطات الكويريّات في عهد فرانكو.
“أكلت خرا ت شبعت”، قال لي، فابتسمت؛ لأنّ الطرق دائمًا ما تقودني إلى أماكن مظلمة، لكنّها مليئة بالأمل.
2
دخلت إلى البيت، وجلست وحيدة أفكّر؛ أأخرج لأتفقّد المحيط المؤقّت الجديد أم أبقى في الداخل؟ أشعر بالتعب الشديد لكنّني من الأشخاص الّذين يعتقدون أنّ شيئًا ما سيفوتني إذا لم أواكب الحياة. لكنّ هذه الحياة، ولكثرة مفاجآتها وتوقها إلى كسر جميع التوقّعات، ولكثرة إعجابها بمشاهدة الناس يسلكون الجنون طريقًا، لا تستأذن حتّى اختراق لحظات السكينة؛ فيصبح داخل البيت، أو الدماغ، كخارج البيت، أو الدماغ.
قرّرت أن أبقى داخل البيت. أو الدماغ.
وردتني رسالة من ابنة عمّي قائلة: “ميسان، وبعدين مع ربّك، زهقت ونا أقول للعالم إنّك مش معتقلة، أخلّيهن ييجوا يعتقلوكي وتحلّوا عني؟”. فهاتفتها مكالمة فيديو.
أعلم أنّ هذه الشائعة تتأجّج منذ يومين، لكنّني ظننت أنّ الناس قد فهمت الأمر، لكن لا حياة لمَنْ تنادي؛ فالناس في قريتي، كأيّ مجموعة مغلقة، لا تقبل الاختلافات الشكليّة أو السياسيّة أو الاجتماعيّة، وتعتقد أنّ الفرد؛ أيّ فرد، يمثّل المجموعة، وبالتالي، من شأنه أن يرفعها أو أن يجلب إليها العار، وأنّ المجموعة كاملة هي وليّة أمر الفرد؛ أيّ فرد، ولا سيّما إذا كان ذلك الفرد امرأة.
يعرفون متى اعتُقِلْت، وكيف اعتُقِلْت، وما السبب من وراء اعتقالي، بل الأنكى أنّ ثمّة مَنْ نشر مناشير يشمت فيها بي، ويتمنّى لي الأسوأ، ويخاطبونني بأقبح الكلمات لأنّني اعتُقِلْت على خلفيّة سياسيّة. ما الحقيقة هنا؟ هل أنا حقًّا في برشلونة؟ أم أنّ قدمي لم تطأها قطّ؟ أَيُعْقَل أنّني معتقلة؟ وأمّي تبكي خيباتي الكثيرة إلى جانب نحيبها اليوميّ على الموت العارم؟
تحدّثت وابنة عمّي وضحكنا؛ إذ إنّ شرّ البليّة ما يضحك؛ لتوقظني بعدها بساعات قليلة، قائلة إنّ هناك مَنْ رمى قنبلة صوت في حارتنا.
3
عرفت أنّني أسكن في بيت مع شابّ إسبانيّ، مدرّس للغة الإسبانيّة في إحدى المدارس. لكن لم نلتقِ في البيت. لا أعرف ما إذا التقينا خارجه. لكنّ هذا الأمر بات يرافقني في كلّ مرّة أخرج فيها من البيت. هل من الممكن أن يكون هذا هو؟ كيف شكله يا ترى؟ أهو موجود حقًّا أم أنّ تلك المعلومة كانت من نسج خيالي، كما جعلتنا إسرائيل نعتقد في كلّ مرّة وقع فيها صاروخ أو شظايا في حيفا، ولم يُذْكَر الخبر على أيّ منصّة، فبات فقط في خيالاتنا المتوحّشة؟
كانت برشلونة شمسًا أضاءت تشرين؛ شمسًا حارقة. جعلتني أتوق إلى المشي في أزقّتها. ذهبت إلى الكاتدرائيّة مع بعض الأصدقاء، وبالرغم من أنّ المباني والتماثيل الدينيّة لا تحرّك فيّ شيئًا، إلّا أنّ رغبة في الصلاة تملّكتني. دخلت إلى قاعة الصلاة، ورأيت الناس الخاشعين، فاخترت مكانًا وجلست. دون أن أفكّر وجدتني أقول في قلبي: “بسم الأب والابن والروح القدس، إله واحد آمين”، وأكملت، “بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله ربّ العالمين، الرحمن الرحيم، مالك يوم الدين، إيّاك نعبد وإيّاك نستعين، اهدنا الصراط المستقيم، صراط الّذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالّين”، آمين.
حدّقت كثيرًا. هل لهذه الصلوات أن تنجّي العالم؟ ولا أتحدّث عن صلواتي هنا، لكنّني متأكّدة أن جميع مَنْ يصلّي، يصلّي من أجل الخير، لا الشرّ. لكن لماذا لا ننجو؟ لماذا يكون الموت والخوف والتشتّت والحزن والفقدان، كلٌّ فيهم، حليفًا لنا؟
أضأت شمعة، حرّكت نارها في قلبي حجرًا صغيرًا من الجدار الّذي يحيطه، وخرجت.
4
تعدّدت الأيّام والموت واحد.
ذهبت إلى ساحة جورج أورويل، وحدّقت طويلًا في العدم. ذهبت إلى عرض فلامنكو، جعل دواخلي تنوح وتتفتّت.
مررت بعرض موسيقيّ في راڤال، اقتصرت فيه الأغاني على الكلمات النابية والمسبّات، فشعرت بشيء من الانتصار. مرّت بنا عازفة أكورديون في الشارع، حيث كنّا نتناول أشعّة الشمس البهيّة.
والأكورديون من أحبّ الآلات إلى قلبي، أمّا العازفة فكانت لطيفة جدًّا، تبتسم للمارّة والجالسين، عندما أعطيناها نقودًا مقابل البهجة المؤقّتة الّتي أثارتها، سألت ما إذا كنّا إيطاليّين، فأجبناها بالنفي، وقلنا إنّنا من فلسطين.
توقّفت عن العزف، ثمّ أرادت أن تعيد لنا النقود، وقالت إنّها حزينة وتصلّي يوميًّا من أجل بلادنا.
في يومي قبل الأخير، استيقظت من نومي وقد اجتاحني شعور بأنّني سأتعرّف أخيرًا إلى الشابّ الّذي أسكن معه، أو في بيته. والّذي أدركت أنّني لا أعرف حتّى اسمه.
-ما اسمه؟ سألت صديقي.
-أَدْري، قال.
-لكنّني أنا، لست أدري.
في ذلك اليوم، ودّعت صديقة لم أرها منذ ستّة أعوام، واجتمعنا في أوروبّا مجدّدًا، واستقبلت صديقة أخرى، رغم أنّني أنا الأخرى مجرّد عابرة سبيل. لكنّني دائمًا ما أؤدّي دور المستضيفة، كأنّني أملك الأماكن والأشياء، الّتي أعي بداخلي أنّني لا أملكها. لكن ما أملكه فعلًا، القدرة على التواصل الاجتماعيّ الفعليّ، يمكنني أن أكسب الأصدقاء بسهولة؛ أصبح صديق صديقتي صديقي.
اخترنا أن نسهر في حانة إلى جانب الطريق، موجودة منذ عام 1912، وقد شعرت حقًّا بأنّني عدت في الزمن. ما فكرة الزمن أصلًا؟ منذ أن بدأت الأحداث توقّفت ساعة يدي عن العمل. وكأنّ الزمن توقّف فعلًا، لا أعرف الأيّام والتواريخ. لكنّ الساعة ما زالت في يدي، مشيرة إلى الساعة السابعة والنصف. لا أدري أكانت صباحًا أم مساء.
– أدري! نادى صديقي بصوت عالٍ.
سارعتُ بالنهوض عن الكرسيّ.
وأخيرًا! وجدته!
وجدت الشخص الّذي أسكن معه. إنّه حقيقيّ. إذن، لا شيء يدور في مخيّلتي. كلّ الأشياء حقيقيّة.
كان شخصًا لطيفًا، قال لي إنّه حدّث طلّابه أنّ هناك مَنْ يسكن معه في البيت، لكنّه لم يرَ الشخص أيضًا، ولم يكن على يقين ما إذا كنت أنا الأخرى حقيقيّة. كان قد ظنّ أنّني شبح.
ضحكنا كثيرًا وتبادلنا أطراف الحديث، وقبل أن يذهب قال لي: “أراكِ في البيت”. ولم أره مجدّدًا.
5
في يومي الأخير، علمت صدفة أنّ هناك سوقًا كبيرًا في حارتي المؤقّتة، وهذا ما يحبّه قلبي. قال لي صديقي الجديد إنّه لم يفصح عن هذه المعلومة عمدًا لكي أعود إلى برشلونة. ثمّ ذهبنا إلى هناك قبل أن أتوجّه إلى المطار مباشرة.
كنت أعبّر عن فرحتي في كلّ لحظة رأيت فيها شيئًا أحبّه، وأشعر بالذنب في كلّ مرّة فرحت، لكنّها لم تكن المرّة الأولى الّتي شعرت فيها بالذنب؛ فأنا، ورغم أنّني لا أرى فرصة للنجاة الجماعيّة، لا أتقبّل فكرة النجاة الفرديّة، وها أنا أنجو والذنب يأكل ما تبقّى من أجزائي.
لا أعرف ما إذا كان للفرح المؤقّت والأحلام البسيطة القدرة على حثّنا على الحياة، أو التصالح معها، ثمّ إنّه لِمَ علينا أن نختبر هذا كلّه، يا الله؟
اندفعت نحو قنفذ البحر الّذي لم أره من قبل، لكنّني لطالما حلمت بتذوّقه، وحدّقت فيه، وبدا لي أنّه يحوي خمسة ألسنة، فالتهمته؛ لعلّ لسانًا واحدًا ينبت ويتفتّح، ويسكن مكان هذا الخرس البغيض الطويل؛ فأنطق.
كاتبة وطاهية وناشطة سياسيّة من فلسطين. تدرّس اللغة العربيّة لغير الناطقين بها. من مؤسّسي حراك «ارفض شعبك بيحميك».
المصدر: عرب 48