تحت وطأة الحائط: كتاب جديد عن تاريخ حارة المغاربة المقدسيّة

"وكان سكان حارة المغاربة في القدس هم «أيتام الإمبريالية» على أكثر من صعيد: أيتام الإمبريالية الاستعمارية الفرنسية، لكن أيضًا – وبصورة أكبر – أيتام الإمبراطوريات الإسلامية المنهارة، الذين احتموا بالأضواء الأخيرة للطموح الاستعماري الفرنسي قبل أن يقعوا في فخ صعود سطوة المشروع القومي الصهيوني"، يقول الكاتب والباحث الفرنسي فانسان لومير في مقدمة كتابه عن حارة المغاربة بعنوان «تحت وطأة الحائط: حارة المغاربة في القدس، حياتها وموتها 1187-1967»، والذي تُرجم وصدر مؤخرًا بطبعته الأولى عن مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
اهتم لومير بتاريخ القدس، البلدة القديمة والمدينة عمومًا، فقد صدر وتُرجم له من قبل عدة كتب متصلة بتاريخ المدينة، منها «القدس 1900: زمن التعايش والتحولات»، وكذلك كتاب «العطش في القدس: دراسة عن التاريخ المائي». كما له مصنَّف آخر صدر في عام 2022 تحت عنوان «تاريخ القدس»، كقصة بالرسوم المصوّرة عن تاريخ المدينة.

يُعتبر عنوان كتاب لومير الرئيسي «تحت وطأة الحائط» محاولة تأريخية لنشأة حارة المغاربة المقدسية منذ الحروب الصليبية، إثر التحاق عائلات مغربية من شمال أفريقيا بجيش صلاح الدين الأيوبي في أواخر القرن الثاني عشر للميلاد، بوصفها حارة عربية – إسلامية تمايزت بمقدسيتها عن باقي حارات وأحياء المدينة على مدار قرون. وذلك لناحية منبت أهلها وسردية حضورهم ودورهم فيها من جانب، ومن جانب آخر، بوصف حارة المغاربة التاريخية النواة التي بدأ منها تشكُّل الصراع على تاريخ مدينة القدس وفلسطين عمومًا؛ فهدم حارة المغاربة على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي في ليلة 10-11 حزيران/يونيو 1967 لم يكن مجرد إجراء أسفرت عنه حرب الأيام الستة، بقدر ما كان، بالنسبة لفانسان لومير، نتيجة صيرورة صراع على الحارة وترميز معالمها، خاضه أهالي الحارة ضد القوى الاستعمارية الأوروبية والصهيونية معًا منذ مطلع القرن العشرين.
وأكثر من ذلك، فإن ما يُحسب لمحاولة لومير في كتابه أنه ينطلق من مقولة منهجية مفادها: «أن حارة المغاربة في القدس قد ظهرت في أعمال المؤرخين عند لحظة اختفائها، كما لو أن تاريخها بدأ في اللحظة ذاتها التي انتهى فيها…»، ما استدعى من صاحب الكتاب العودة إلى تأصيل نشأة الحارة والصراع عليها معًا.
فإذا كان ما يُعرف بـ «حائط المبكى» بالنسبة لليهود، هو حائط البراق بهويته العربية – الإسلامية، بمثابة النافذة التي تسلل منها الصهاينة لادعائهم بيهودية الحائط والحارة عمومًا، وبالتالي احتلالها وهدمها ثم تهويدها، فإن زاوية الصوفي المغربي سيدي أبو مدين، بأصوله الأندلسية، تُعدّ بالنسبة للومير بمثابة الباب الذي يمكن الدخول منه إلى الوعي بتاريخ حارة المغاربة والفضاء العربي – الإسلامي المغاربي المحيط بالزاوية تأسيسًا وتشكيلاً وتحولاً. إذ تأسس وقف أبو مدين في حارة المغاربة في مطلع القرن الرابع عشر الميلادي، بمبادرة أحد أحفاد الرجل الصوفي سيدي أبو مدين، انطلاقًا من عطاء أساسي قام به صلاح الدين الأيوبي في أواخر القرن الثاني عشر. وصار وقف أبو مدين، بدوره، هو من يمنح اسمه لمجمل الجمعيات الخيرية التي كانت قائمة قبل إقامة وقفه، أو تلك التي أُقيمت وضُمَّت إليه لاحقًا.
ولا يفوت لومير التذكير – نقلًا عن لوي ماسينيون – بأن «إسكان المجموعات المغاربية المسلمة الأولى في هذا المكان أواخر القرن الثاني عشر الميلادي قد سبق بثلاثة قرون إضفاء القدسية اليهودية على الحائط الغربي من الحارة».
ومما قد يلفت نظر الباحث في ذاكرة حارة المغاربة وتاريخها معًا في كتاب «تحت وطأة الحائط…»، هو المعجم الاجتماعي المتشكل لدى أهالي الحارة، إذ أشار لومير إلى تسميات مختلفة للحائط قبل أن يبدأ الصراع عليه مع اليهود والصهيونية. فإضافة إلى تسميته الدينية الإسلامية «البراق»، كان يُطلق عليه تسمية اجتماعية «حائط المغاربة»، وأحيانًا «حائط الغربيين» نسبةً إلى مغاربة الحارة، وكذلك «حائط الدموع» لدى مسيحيي المدينة. تمامًا كما تنوعت تسمية مغاربة الحارة أنفسهم في الوثائق والأرشيفات، مثل تسمية سكان الحارة بـ «المراكشيين» في الأدبيات الصهيونية المبكرة، نسبةً إلى مدينة مراكش في المغرب الأقصى.
لم يقتصر إشعاع وقف سيدي أبو مدين في حارة المغاربة عليها، بل امتدت أوقافه إلى خارجها في باقي أحياء المدينة داخل السور، كما شملت عائدات أوقافه مجمل سكان المدينة عبر توزيع الخبز والأعمال الخيرية، ما جَدَل علاقة أهالي الحي الاجتماعية والمعيشية والثقافية بباقي سكان الأحياء الأخرى.
لا بل مثّلت وقفيات أبو مدين بابًا لعلاقة مدينة القدس بريفها القروي، منذ أن أُوقفت قرية عين كارم لسيدي أبو مدين في حارة المغاربة. وقد سلّط لومير الضوء على جدلية تلك العلاقات، لناحية الامتداد الروحي والاجتماعي ما بين القرية الموقوفة والوقف وأهله من ناحية، والنزاعات على حصة الوقف من القرية مع أهلها، خصوصًا فيما يتعلق باستئجار الأراضي في القرية وشكل توزيعها على المستأجرين، مما أثار غير مرة صدامًا اضطر والي دمشق في إحداها للتدخل شخصيًا.
وبالتالي، كان احتلال قرية عين كارم وتهجير أهلها واستحواذ الصهاينة على أراضيها بمثابة واحدة من النكبات التي طالت حارة المغاربة ووقفها، قبل نكبتهما الكبرى في نكسة عام 1967.
والتفات لومير إلى هذه المسألة يُحيلنا بالضرورة إلى علاقة المدينة الفلسطينية بريفها عمومًا قبل عام النكبة، والمأساة التي أسفر عنها فعل النكبة بتقليم بعض المدن الفلسطينية الباقية من ريفها المهجَّر، مثل القدس والخليل وغزة وجنين وطولكرم كذلك.
ينبّه فانسان لومير في كتابه إلى تقاطع القوى الأوروبية الاستعمارية في مدينة القدس منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، تقاطعًا مرّ عبر حارة المغاربة أو كاد يبدأ منها. إذ لم يقتصر صراع أهالي الحارة على مواجهة الصهيونية وسلطات الانتداب البريطاني بعد عام 1918، بل شمل أيضًا القنصلية الفرنسية في القدس.
استند لومير في ذلك إلى وثائق أرشيفية، منها الأرشيف الفرنسي، مبرزًا تدخّل فرنسا الاستعماري في القدس عبر حارة المغاربة ومقام وقف أبو مدين، وهو جانب قلّما تنبّهت له أقلام المؤرخين العرب. لم تكن «الأقلية المسيحية الكاثوليكية» في فلسطين وحدها الذريعة الفرنسية للتدخل في شؤون البلاد في أواخر السلطنة، بل تذرعت فرنسا أيضًا بالسكان ذوي الأصول المغربية (من المغرب العربي عمومًا)، ومنهم مغاربة حارة المغاربة في القدس، بحجة أنهم تحت رعاية الحماية الفرنسية التي كانت تحتل الجزائر وفرضت حمايتها على المغرب الأقصى في حينه.
ولمّا رزحت البلاد تحت نير الاستعمار البريطاني مطلع القرن العشرين، كانت مدينة القدس أول مدينة فلسطينية تنتقل من طور إلى طور، وحارة المغاربة أول حيّ تحسسته أيدي المستعمرين، سواء البريطانيين أو الصهاينة. بل إن بعض قادة السلطنة العثمانية، في أواخر أيامها، ساوموا الصهاينة على ساحة حارة المغاربة وبعض مبانيها، ومنهم جمال باشا السفّاح، بحسب ما ينقل فانسان لومير عن الوثائق الأرشيفية. كما يشير في كتابه إلى استغلال سلطات الانتداب البريطاني زلزال عام 1927 الذي هز البلاد وأحدث أضرارًا جسيمة، بما في ذلك في حارة المغاربة، حيث قامت السلطات بهدم وتجريف مبانٍ في الحارة كان بالإمكان إصلاحها، تحت ذرائع شتى، مثل "سلامة السكان المحليين"، أو "تخفيف الاحتقان السكني"، أو بشكل أكثر وضوحًا: "إحياء المواقع الدينية"، في إشارة إلى الحائط، الذي سيصبح محورًا لصراع متصاعد بين العرب والصهيونية منذ عشرينيات القرن الماضي.
يُنوّه لومير إلى أن أحداثًا وصدامات سابقة على أحداث البراق عام 1929 قد وقعت منذ أوائل العشرينيات، وكانت بمثابة التمهيد للتوتر الكبير اللاحق.
يظلّ كتاب «تحت وطأة الحائط…» على درجة عالية من الأهمية، ليس فقط لأنه تأريخ لحارة المغاربة بحد ذاتها، بل لأنه تأريخ لمسار الصراع كما عبر هذه الحارة المقدسية. وهو ما يسميه فانسان لومير تقاطع التاريخ القصير مع التاريخ الطويل.
ويشُبّ الكاتب عن طوق التأريخ لحارة المغاربة من لحظة اختفائها على يد الصهاينة في ستينيات القرن العشرين، ليعود عمدًا لإحياء تاريخها منذ انبعاثها مع انبعاث مدينة القدس المحررة بعد الحروب الصليبية.
المصدر: عرب 48