Jannah Theme License is not validated, Go to the theme options page to validate the license, You need a single license for each domain name.
اخبار الشرق الأوسط

تدمير التراث الثقافي في غزة هو استهداف لمظاهر الهوية الفلسطينية

في ورقة تناولت "تدمير التراث الثقافي في غزة"، يشير المختص بعلم الآثار د. حمدان طه إلى أعمال التدمير الواسعة التي تعرض لها التراث الثقافي الفلسطيني خلال الحرب على غزة، والتي تتخذ شكل إبادة ثقافية ممنهجة، شملت المواقع الأثرية، والمباني التاريخية والدينية، والمشهد الثقافي، والمتاحف، والمؤسسات الثقافية والأكاديمية، والمباني العامة، والبنى التحتية.

تغطية متواصلة على قناة موقع "عرب 48" في "تليغرام"

الورقة، التي نُشرت على موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية، تعتبر الحرب العدوانية على غزة انتهاكًا صريحًا للقانون الدولي الإنساني، ولا سيما الاتفاقية الدولية لمنع الإبادة الجماعية ومحاسبة مرتكبيها لعام 1948. كما تشير إلى خبو الإرادة الدولية التي برزت في صراعات أخرى، بينما غابت تمامًا في الحرب على غزة.

ولفت الباحث إلى غياب أي دور فاعل لمنظمة اليونسكو فيما يتعلق بجرائم تدمير التراث الثقافي في القطاع، إضافة إلى وقوف مؤسسات التراث الأوروبية موقف المتفرج. كما انتقد البيانات الباهتة التي صدرت عن مجلس الآثار العالمي ومنظمة الأيكوموس، والتي وصلت، وفقًا للورقة، إلى حد التضامن مع العدوان.

تفيد الورقة بأنه، وفق المعلومات المتوفرة، شملت الأضرار المواقع الأثرية، والمدن التاريخية، والمساجد والكنائس والمقامات الدينية، والمتاحف والمكتبات، ومراكز المخطوطات، والمراكز الثقافية والفنية، والجامعات والمؤسسات الأكاديمية.

كما توثق الصور الواردة للآثار والمباني التاريخية في غزة دمارًا منهجيًا لمعالم التراث الثقافي، الذي تشكل على مدار خمسة آلاف عام، وتحول إلى أكوام من الأنقاض.

وترصد الورقة مجموعة كبيرة من المواقع الأثرية التي تعرضت للقصف والتدمير، أبرزها: "تل السكن" جنوبي مدينة غزة، والذي كشفت التنقيبات الأثرية فيه عن آثار تعود إلى العصر البرونزي المبكر. "تل العجول"، الذي يمثل تاريخ غزة في العصر البرونزي الوسيط والمتأخر. "تل المنطار"، ومقامات الشيخ علي المنطار والشيخ رضوان. الموقع الذي يمثل ميناء غزة القديم "أنثيدون" في الفترتين اليونانية والرومانية.

ألحق القصف أضرارًا بالغة بكنيسة جباليا البيزنطية، حيث تضررت أرضياتها الفسيفسائية الجميلة، التي كانت تحمل كتابات يونانية وزخارف غنية بأشكال آدمية وحيوانية ونباتية، إضافة إلى مشاهد أسطورية غاية في الروعة.

كما تعرضت مقبرة جباليا الأثرية للتدمير، وهي مقبرة كبيرة تم الكشف فيها عن مئات القبور من الفترتين الرومانية والبيزنطية. وكانت فسيفساء عبسان من الفترة الرومانية البيزنطية قد دُمرت أيضًا خلال العدوان الإسرائيلي عام 2014.

شمل القصف الإسرائيلي، وفق ما تفيد الورقة، محيط دير القديس هيلاريون الأثري في موقع تل أم عامر بالقرب من النصيرات، كما دُمرت مقبرة دير البلح الأثرية على شاطئ دير البلح، التي تعرضت لأعمال تدمير واسعة.

وتشير الورقة إلى أن المقبرة، التي تم الكشف عنها بين عامي 1972 و1982، تضم توابيت فخارية على شكل الإنسان، تعود إلى القرن الثاني عشر قبل الميلاد.

ناهيك عن الاستهداف المنهجي للمباني التاريخية والأماكن الدينية، فقد كان المسجد العمري، وهو أحد أكبر المساجد في المدينة، من بين أبرز المواقع التي تعرضت للتدمير التام. كما تعرضت كنيسة القديس بيرفيريوس، الواقعة في حي الزيتون بغزة، لدمار شديد. وتُنسب هذه الكنيسة إلى القديس بيرفيريوس، مطران غزة في القرن الخامس قبل الميلاد.

وبهذا الصدد، حاور "عرب 48" د. حمدان طه لإلقاء المزيد من الضوء حول الموضوع.

د. حمدان طه

"عرب 48": من الواضح أن تدمير التراث الثقافي الفلسطيني هو جزء من حرب الإبادة التي شنتها إسرائيل على قطاع غزة، والتي ربما تشكل الحلقة الأصعب في مسلسل الصراع المتواصل منذ قرن من الزمن، والذي يستهدف الوجود الفلسطيني؟

د. طه: إذا تجاوزنا التاريخ الماضي والجغرافية الفلسطينية الأخرى، فإن الحرب الأخيرة لم تكن الحرب الأولى التي تشن على قطاع غزة. فقد شهد العقد الأخير خمس إلى ست حروب أو جولات حربية على القطاع، جرى خلالها أيضًا استهداف التراث الثقافي، ما تسبب بدمار أجزاء من مكوناته.

وفي بعض هذه الجولات، جرى توثيق وتقييم هذه الأضرار من خلال جهود محلية ودولية، بينها منظمة اليونسكو. ولكن هذه الحرب ليست كأي حرب أخرى، فقد سقطت فيها كل القوانين، وتم خلالها استباحة جميع الاتفاقيات والمعاهدات الدولية والقانون الدولي.

"عرب 48": أشرت في المقال إلى أن الدمار الذي وقع على التراث الثقافي، من مواقع أثرية ومبانٍ تاريخية وغيرها، تم بشكل مباشر ومتعمد، ولم يكن نتيجة لما يسمى في القاموس العسكري "أضرار جانبية"؟

د. طه: الاستهداف كان مباشرًا ومعلنًا، كما أظهرت جميع الوقائع والدراسات، بما فيها وثائق المحكمة الدولية في لاهاي، التي نظرت في دعوى جنوب إفريقيا حول الإبادة الجماعية. وأكدت هذه الوثائق وقوع استهداف واضح لمظاهر الهوية الثقافية كجزء من فعل الإبادة الجماعية.

المواقع الأثرية كانت، في هذا السياق، الأقل تضررًا، بسبب عدم وجود بنيان قائم فيها، لكن الاستهداف الأكبر كان للأماكن والمباني التاريخية، مثل المساجد والكنائس والأسواق ومراكز المدن. كل المباني القائمة كانت في دائرة الاستهداف، وما جرى في مدينة غزة تحديدًا هو نموذج لاستهداف كلي وشامل لجميع مظاهر التراث الثقافي، المرتبط بالمباني والمراكز التاريخية.

تم استهداف وتدمير 16 موقعًا تاريخيًا، من بينها المسجد العمري، الذي تعرض للتدمير التام. ويُعد المسجد العمري من أكبر المساجد في غزة، حيث شُيِّد في الفترة الأيوبية، وتبلغ مساحته نحو 4100 متر مربع. ويعود أقدم جزء منه إلى الطراز البازيليكي لكاتدرائية القديس يوحنا المعمدان من القرن الثاني عشر الميلادي.

كما يُعتقد أن الجامع أُقيم على بقعة كان فيها معبد الإله مارنا في العهد الروماني، ثم كنيسة أودوكسيا البيزنطية. ويتميز المسجد العمري بنقوشه الكتابية التي تعود إلى العصرين المملوكي والعثماني.

تعرضت كنيسة القديس بيرفيريوس، الواقعة في حي الزيتون بغزة، لدمار شديد. وتُنسب هذه الكنيسة إلى القديس بيرفيريوس، مطران غزة في القرن الخامس قبل الميلاد، وأُعيد تجديدها في القرن الثاني عشر الميلادي. كما تضم الكنيسة ضريح القديس بيرفيريوس. ولم يقتصر الدمار على هذه الكنيسة، بل طال كنيسة الإنجليكان والمستشفى المعمداني أيضًا.

"عرب 48": أشرت إلى تدمير 60-70% من مواقع التراث الثقافي، التي امتدت من أقصى شمال القطاع إلى أقصى جنوبه، وهو ما لا يمكن أن يحدث نتيجة "أضرار جانبية"، وإنما نتيجة استهداف مباشر بهدف تدمير التراث الثقافي كجزء من حرب الإبادة؟

د. طه: هذا ما يمكن استنتاجه من استهداف الكنائس والمساجد والمراكز التاريخية والأسواق. وبعد العمل المبارك الذي قام به خبراء التراث الثقافي الفلسطينيون والدوليون في رصد وتوثيق الدمار، يأتي دور خبراء القانون الذين يُرتجى منهم إثبات قيام إسرائيل بخرق معاهدات واتفاقيات منع الإبادة المرتبطة بالتراث الثقافي.

هذا العمل يحتاج إلى رصد سياسات وتصريحات لسياسيين وعسكريين إسرائيليين، بقصد إثبات نية استهداف التراث الثقافي تحديدًا بغية تدميره، وهو ما يُفترض أن يقوم به فريق من خبراء القانون. وأعتقد أن العمل القانوني الذي قامت به جنوب إفريقيا على المستوى العام يوفر أرضية صالحة لإقامة دعاوى فرعية، بينها مسألة استهداف وتدمير التراث الثقافي في غزة، الذي يشكل جزءًا من التراث الإنساني.

"عرب 48": قلت إن بعض المواقع، مثل المسجد العمري، جرى تدميرها بشكل كامل. هل هناك أضرار غير قابلة للإصلاح؟

د. طه: هذه معضلة كبرى. وكما هو معروف، فإن الدمار الذي لحق بقطاع غزة ليس الأول من نوعه. فقد شهد العصر الحديث دمار الحربين العالميتين الأولى والثانية. وقد نهض القانون الدولي الحديث في هذا السياق على التجارب المروعة لاستهداف التراث الثقافي في القرن الأخير.

وُضعت اللبنة الأولى في اتفاقية لاهاي سنة 1907، مرورًا بالحرب العالمية الأولى، التي تحولت فيها المدن إلى ساحات حرب، وشهدت تدميرًا مقصودًا للمراكز التاريخية كجزء من عقلية إيذاء العدو.

لكن الإطار القانوني الدولي تبلور بشكل أساسي بعد الحرب العالمية الثانية، في منظومة قانونية متكاملة، ربما أهمها معاهدة جنيف لعام 1949، التي لامست الموضوع بشكل واضح، خاصة أن هذه الحرب شهدت استهداف المباني التاريخية والمتاحف، وما يسمى بالأعيان الثقافية، بشكل متعمد، كجزء من إلحاق الأذى بالهويات الثقافية والوطنية للطرف الآخر.

وعلى ذلك، نشأت اتفاقية لاهاي لعام 1954، التي وضعت قواعد منظمة لحماية التراث الثقافي أثناء النزاع المسلح. وقد شكلت هذه الاتفاقية القاعدة الأهم والأشمل لتنظيم حماية التراث الثقافي، والذي يشمل المواقع الأثرية، والمباني التاريخية، والمؤسسات الثقافية، والمجموعات الفنية، وغيرها من دور الثقافة والفنون، التي جرى استهدافها في الحرب العالمية.

"عرب 48": ولكن للأسف، إسرائيل لا تلتزم بأي من تلك الاتفاقيات والمعاهدات؟

د. طه: من المعروف أن إسرائيل خرقت، وما زالت تخرق، التزاماتها كقوة محتلة، وعلى رأسها اتفاقية نيودلهي لعام 1956، التي تحظر على القوة المحتلة القيام بعمليات تنقيب منظمة أو بحثية عن الآثار في الأراضي التي تحتلها، باستثناء التنقيبات الإنقاذية. كما تلزمها الاتفاقية بالحفاظ على الآثار المكتشفة الناتجة عن تلك التنقيبات، وتسليمها إلى السلطة الوطنية حال إنهاء الاحتلال.

بالإضافة إلى ذلك، فإن إسرائيل تخرق اتفاقية عام 1970، التي تحظر نقل الممتلكات الثقافية والمواد الأثرية، وكذلك اتفاقية عام 1972 لمواقع التراث العالمي. وفي غزة، هناك موقعان مسجلان ضمن قائمة التراث العالمي، هما: "دير القديس هيلاريون – تل أم عامر"، "ميناء غزة القديم".

وقد تم استهداف كلا الموقعين، بالإضافة إلى موقع تراث طبيعي هو "وادي غزة"، الذي يتمتع بمكانة خاصة للحفاظ على التنوع الحيوي.

"عرب 48": شاركتَ في اجتماع عقد هذا الأسبوع لإطلاق دراسة تحت عنوان "تقييم الدمار والمخاطر على التراث الثقافي تحت القصف في قطاع غزة". من يقف وراء هذه الدراسة، وما الهدف منها؟

د. طه: أنجزت الدراسة من قبل فريق بحث بإشراف "مركز حفظ التراث الثقافي في بيت لحم"، وهو مركز مستقل متخصص في أعمال ترميم وتأهيل المباني التاريخية. وقد سبق أن قام هذا المركز بترميم وتأهيل العديد من المباني التاريخية، وتخصيصها لغايات مختلفة في مجالات الثقافة والصحة وغيرها.

أُجريت الدراسة بتعاون بين فريق محلي وفريق دولي من جامعة أكسفورد، بتمويل من المجلس الثقافي البريطاني. وجاءت مشاركة الفريق الدولي من أكسفورد ضمن مشروع "إيمينا"، وهو مشروع لمسح مواقع التراث الثقافي، انطلق منذ بضع سنوات، وقام بإجراء العديد من المسوحات في فلسطين وسوريا والمناطق المجاورة، بهدف رصد التغيرات التي تطرأ على هذه المواقع، سواء بسبب العوامل الطبيعية أو نتيجة التدمير المتعمد جراء الحروب.

تُعتبر الدراسة حجر زاوية لتدخلات لاحقة، سواء لأغراض الترميم أو التأهيل، وهي تشمل جميع المواقع الأثرية، والأماكن التاريخية، ومراكز المدن، والمباني الثقافية والدينية من جوامع وكنائس وغيرها، إضافة إلى المعالم المدنية والقومية، مثل الحدائق والميادين.

ووفقًا لنتائج الدراسة، فإن 316 موقعًا أثريًا وتاريخيًا تم توثيقها حتى الآن، وقد تعرض: 44% منها (138 موقعًا) لتدمير شديد. 27% منها (61 موقعًا) لتدمير جزئي.

عرب 48: هل كنتَ ضمن فريق البحث؟

د. طه: لا، كنت ضمن فريق إشراف علمي، وذلك في إطار تخصصي في علم الآثار.


د. حمدان طه: باحث مستقل، عمل سابقًا مديرًا عامًا لدائرة الآثار الفلسطينية الحديثة (1995-2004)، ووكيلًا مساعدًا لقطاع الآثار والتراث الثقافي (2004-2012)، ووكيلًا لوزارة السياحة والآثار حتى نهاية عام 2014. يشرف حاليًا على مشروع تاريخ فلسطين وتراثها.

المصدر: عرب 48

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *