تدوير الفوضى وإعادة إنتاجها كأداة استعمارية تخدم مخططات اليوم التالي للحرب
ما يحدث في جباليا هو أن إسرائيل تستهدف كل محاولة لاستعادة الحياة الطبيعية أو الروتين، فإذا قامت الإدارة المحلية بإصلاح محطة لضخ المياه، يتم قصفها من جديد، وإذا أُعيد تشغيل مخبز لتلبية احتياجات الأهالي، يُقصف مرة أخرى.
صورة توضيحية من شمال قطاع غزة (Getty images)
في مقالة نشرتها مجلة الدراسات الفلسطينية في عددها الأخير، تستعرض د. سجود عوايص “الفوضى” كأداة استعمارية يعيد الاحتلال إنتاجها وتدويرها بأوجه مختلفة وبشكل مستمر خلال حربه على قطاع غزة، في سعيه لتأسيس حيّز زمني ومناخ سياسي وأمني ملائم يتيح له تنفيذ مخططاته لليوم التالي من حربه، بعد اختبارها وتجربتها في خضم “فوضاه المختلقة” وفي ضوء ردة الفعل الفلسطينية تجاهها.
تعرّف المقالة “الفوضى” على أنها المولود الأول للحروب والكوارث، وتصفها بأنها اختلال سريع ومباغت للنظام الروتيني للشعوب، مشيرة إلى أنها جُرّبت في الحالة الفلسطينية عبر “إبادة مطلقة للحاجات”. وعلى خلاف الحافز الإنساني نحو الروتين الذي يدفع إلى تطويع الفوضى، فإن اختلاقها وتوليدها المستمرين يجعلان من وجودها جزءًا من استراتيجية المشهد.
وتبتكر إسرائيل في حربها على قطاع غزة أشكالًا متعددة ومتجددة من الفوضى، كي لا تتيح للسكان التكيف مع شكل محدد منها أو ترويضها، منطلقة في هذه الأداة الاستعمارية من أهداف تدميرية للوعي والأرض والإنسان، إلى أن يُتاح لها استكشاف مختلف خياراتها وانتقاء الملائم منها كمدخل لليوم التالي بعد الحرب، بما يؤدي إلى تحول المؤقت القائم إلى دائم دون عناء كبير، كما تقول.
تسلط المقالة الضوء على “الفوضى” باعتبارها أداة استعمارية مخططًا لاستزراعها وإعادة تدويرها مرارًا في قطاع غزة بوجوه وأدوات متغيرة بتغير الأوضاع على الأرض، انطلاقًا من أن فوضى حرب غزة الحالية ليست إلا تكرارًا لسيناريو الفوضى والفلتان الأمني في الضفة الغربية بدءًا من سنة 2005، الذي نشأ تحت توجيه الاحتلال وسيطرته، وبأشكال عشائرية واقتصادية وسياسية، إلى أن اكتمل مخطط تقطيع أوصال الضفة، وتعزيز الأجهزة الأمنية الفلسطينية من خلال نموذج “الفلسطيني الجديد” بما يتوافق مع الرؤية الأمنية والاستراتيجية للاحتلال.
تشير الباحثة إلى أن الفوضى بأوجهها المختلقة والمتجددة تدل على أن الاحتلال لا ينفذ أجندات مسبقة بالضرورة، بل يتكيف مع التغييرات على الأرض ويعيد تدويرها بما يضمن استمرار الفوضى التي ترسخ هيمنته العسكرية والأمنية كمشروع استعماري رديف لقوى عظمى، وكبداية لليوم التالي بعد الحرب، وتؤسس في الوقت ذاته لانهيار أي بنية اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية قد تسعى إلى ترميم نفسها بما يخدم الفلسطيني وتموضعه. كل ذلك يحدث في ظل غطاء عربي ودولي يسهم في إدامة الفوضى وتدوير أوجهها عبر إطالة أمد الحرب أو جعل نهايتها مفتوحة.
لإلقاء المزيد من الضوء حول هذا الموضوع، أجرينا هذا اللقاء مع د. سجود عوايص.
عرب 48: في موضوع ما يسمى “اليوم التالي” للحرب على غزة، ينقسم المحللون إلى فريقين؛ الأول يرى أن إسرائيل لا تمتلك خطة واضحة لليوم التالي، ولذلك فهي غير قادرة وغير راغبة في إنهاء الحرب، بينما يدّعي الفريق الثاني أن ما تقوم به إسرائيل من خراب وتدمير وخلق للفوضى، بهدف القضاء على أبسط مظاهر الحياة وتهيئة بيئة طاردة في القطاع، هو بحد ذاته خطتها لليوم التالي، ويصب في هدف تهجير أهالي غزة، وهو ما يتوافق مع ما تطرقتِ إليه في مقالك حول تدوير الفوضى.
عوايص: إذا لاحظت، فإن ما يحدث في جباليا اليوم هو تكرار لما حدث في بداية الحرب، حيث كانت العملية تمتد من الشمال إلى الوسط وصولا إلى رفح جنوبا. لكن حاليا، وبعد أن استكملوا اجتياح القطاع، بدأوا بالعودة إلى مناطق محددة وفقا للخطط المدرجة في إستراتيجياتهم. وكما نعلم، لدى إسرائيل خطط في الأدراج تُخرجها للتنفيذ عند الحاجة. أعتقد أن الفراغ هو أكثر ما يمكن أن يساعدهم في تنفيذ هذه الخطط، وهم يمتلكون عدة سيناريوهات لليوم التالي. وقد أشرت في المقال إلى أن الفوضى قد تكون السيناريو المتاح طالما أن دولة الاحتلال ترفض أي سيناريو لحل سياسي.
ما يحدث في جباليا هو أن إسرائيل تستهدف كل محاولة لاستعادة الحياة الطبيعية أو الروتين، فإذا قامت الإدارة المحلية بإصلاح محطة لضخ المياه، يتم قصفها من جديد، وإذا أُعيد تشغيل مخبز لتلبية احتياجات الأهالي، يُقصف مرة أخرى. وحتى على المستوى الشعبي، يتم قطع كل محاولة لاستعادة روتين الحياة. على سبيل المثال، تم استهداف مهندس زراعي عمل مؤخراً على استصلاح بعض الأراضي، مما ساهم في خلق بصيص أمل.
“عرب 48”: الاحتلال يستهدف كل مظاهر الحياة التي تُسهم في تسهيل العيش للفلسطينيين، ويعود في الشمال، خاصة، إلى تدمير ما تم ترميمه بهدف واضح هو التهجير، ضمن خطة الجنرالات لتحويل شمال القطاع إلى منطقة عسكرية خالية من السكان، لكن هذا الاستهداف يمتد أيضًا إلى الوسط والجنوب دون الإفصاح عن الهدف.
عوايص: كما ذكرت، الاحتلال يعمل على تدوير الفوضى، ولا يمنح المواطن الفلسطيني في غزة أي فرصة لاستعادة الروتين في حياته. إذا لاحظت عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فإن النازحين الذين باتوا يسكنون في الخيام، أو البيوت المدمرة جزئياً، يحاولون إضفاء نوع من الاستقرار على حياتهم من خلال تحسين الخيام التي يقيمون فيها وجلب الطمأنينة لحياتهم، حتى لو كانت مجرد خيمة وعمود يسمونها بيتا. ولكن الاحتلال يعود ويدمر هذه “البيوت” على رؤوس أصحابها مرارا وتكرارا.
تخيّل أن أهالي جباليا قد تم تهجيرهم 12 مرة على الأقل، فكيف يمكن أن يشعر المواطن الفلسطيني في غزة نتيجة لذلك؟ وإذا كان هناك من يراهن على صمود الغزيين إلى الأبد، فهو مخطئ؛ لأن للإنسان قدرة محدودة على الصبر والتحمل. تخيل إنساناً يعايش مشاعر متباينة بين فقدان أولاده، والمجاعة، والملاحقة، والقصف، والتهجير المتكرر من مكان لآخر، في ظل انعدام الأمان والاستقرار.
حتى وكالة الغوث صارت تستغيث لأن موظفيها يعانون المجاعة وغياب الاحتياجات الأساسية. بمعنى أن الوضع لا يؤثر على الأفراد فقط، بل على المنظمات أيضًا، وعندما يتغلغل الخوف بالإنسان، يتركز تفكيره على سلامته وسلامة عائلته الصغيرة، باحثاً عن الأمان والحماية.
“عرب 48”: أشرتِ إلى أوجه مختلفة لتدوير الفوضى، بدءًا من القصف والتدمير، مرورًا بمحاولات تأليب السكان ضد حماس وإيجاد بدائل سلطوية، وصولا إلى مجازر الطحين وقصف المقصوف وتدمير المدمر.
عوايص: لا يمكن حصر أوجه الفوضى المختلقة التي يختلقها الاحتلال في حربه على القطاع وأهله ومقاومته، إذ تشكل إسرائيل رأس حربة منظومة استعمارية شاملة. الهدف من طرح هذه الأفكار هو تسليط الضوء على أن الفوضى، بأشكالها المختلفة والمتجددة، توحي بأن الاحتلال لا ينفذ أجندات مسبقة، بل يتكيف مع التغييرات على الأرض ويعيد تدويرها بما يضمن استمرار الفوضى وترسيخ هيمنته العسكرية والأمنية كمشروع استعماري، وكبداية لليوم التالي بعد الحرب.
يؤدي الاحتلال، من خلال الفوضى، إلى انهيار أي بنية اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية قد تسعى للترميم لصالح الفلسطيني وتموضعه، وذلك في ظل غطاء عربي ودولي يساهم في إدامة الفوضى وتدوير أوجهها عبر إطالة أمد الحرب أو إبقاء نهايتها مفتوحة.
“عرب 48”: يقول بعض المحللين إن إسرائيل تكرر نفسها عند دخولها مخيم جباليا للمرة الثالثة، لتفعل ما فعلته في المرة الأولى، لكن الواقع أن كل مرة تشهد المزيد من القتل والتدمير والتهجير الذي يجري تنفيذه قسراً ضمن خطة الجنرالات.
عوايص: لقد بدأوا بتطبيق خطة الجنرالات بعد فشل خططهم السابقة. اعتقدوا أن الناس سينزحون من تلقاء أنفسهم بفعل القصف والدمار وتتشكل مناطق خالية، ولكن ذلك لم يحدث، فكان لزاما عليهم العودة بخطة صريحة للتهجير القسري. وكما هو معروف، فإن الاحتلال مُلحّ في مخططاته ودؤوب في تنفيذها؛ وإذا أوقفهم المجتمع الدولي مؤقتاً، سيعودون لتنفيذها لاحقاً بأي شكل من الأشكال.
وبالنسبة لمخطط التهجير من عموم القطاع، من الواضح أيضًا، كما أشرتِ، أن فتح المعابر سيزيد من احتمالية الهجرة الطوعية من غزة، أو على الأقل الخروج منها بنسب عالية، وذلك بالإضافة إلى الخسائر البشرية المتمثلة في أعداد الشهداء والمفقودين والجرحى والمصابين بأمراض نتيجة الوضع الصحي المتدهور. فإسرائيل لا تحسب فقط أعداد قتلاها الناتجة عن الحرب والقصف والحرق، بل تضع في حساباتها أيضًا ضحايا الجوع وتلوث المياه والتربة والهواء، الناجمة عن تحويلها للقطاع إلى بيئة قاتلة، وليست طاردة فحسب.
سجود عوايص: باحثة وإعلامية فلسطينية، حاصلة على درجة الدكتوراه من جامعة “يوسيم” في ماليزيا، ولها العديد من التقارير والأبحاث المحكمة المنشورة. صدر لها مؤلفان: “أثر قيام دولة فلسطينية على مستقبل اللاجئين” (2018)، و”الإعلام المرئي الفلسطيني والحركة الأسيرة في ضوء القانون الدولي الإنساني” (2023).
المصدر: عرب 48