تفاعلات الصدمة الثانية في إسرائيل
لا يستطيع أحد استشراف طبيعة ومدى تفاعلات الصدمة الثانية التي وقعت على الإسرائيليين، بمشاهدتهم ذلك الاستعراض العسكري لحركة حماس أثناء تسليم المحتجزات والمحتجزين الإسرائيليين، وعند مشاهدتهم أيضا عودة مئات آلاف الفلسطينيين من جنوبي قطاع غزة إلى شماله المدمر بالكامل. أي هل ستؤدي هذه الصدمة إلى البدء في مراجعة نقدية لخيار العيش على حساب العدالة والسلام، أم ستدفع حكومة نتنياهو إلى تخريب الاتفاق واستئناف حرب الإبادة. لقد قال محللون إسرائيليون أن هذه الصدمة ربما أقسى من صدمة الطوفان في أكتوبر 2023، لأنها قد تهز ثقة المجتمع الإسرائيلي بقدرة الجيش على حمايته.
لقد أثارت صدمة المجتمع الإسرائيلي تمنيات عند البعض بشأن إمكانية أن تتحول هذه الصدمة إلى صحوة العقل، وليس بالضرورة صحوة ضمير. من هؤلاء طبعا بعض الإسرائيليين، وممن اعتقدوا أن الإبادة كفيلة بقصم ظهر الشعب الفلسطيني، وفرض تسوية عليه وفق هواهم. وأيضا وبطبيعة الحال، فإن الشعب الفلسطيني والعديد من أصحاب الرأي الحر في العالم والضمير، يتمنون أن يؤدي ذلك إلى صحوة وبدء تغيير حقيقي في المجتمع الإسرائيلي.
إن المنطق السليم يقول إن مجتمعا طبيعيا أو دولة طبيعية، يفترض أن يستنتجوا نتائج منطقية أمام نتائج حرب وحشية قل نظيرها، أي أنه بعد أكثر من 400 يوم من الحرب والحصار المطبق على حزام أرضي صغير جدا، تظهر حركة المقاومة ومعها جماهير غفيرة محتفية ومنهكة ومثقلة بالثكل والفقدان، بهذا الاستعراض للقوة والقدرة على التحكم بالقطاع. ولكننا أمام مجتمع كولونيالي مشحون بنشوة القوة والتفوق، وبالنزعة الإبادية، خضع على مدار عقود لعملية غسيل دماغ وتضليل من جانب قياداته السياسية والدينية، هيّئتهُ لقبول هذا العنف المهول بحق أناس آخرين، هم سكان البلاد الأصليين.
من الصعب توقع تأثيرات هذا المشهد على القرارات المقبلة للحكومة الإسرائيلية، التي راحت تطلق تهديدات بعدم تنفيذ المرحلة الثانية من الاتفاق، وإن كانت تحليلات كثيرة تميل إلى استبعاد تمكّن نتنياهو من إفشالها نظرا لرغبة إمبراطور الإمبريالية الأميركية بإنهاء الحروب، وفق ما يعلنه ترامب، ناهيك عن تأييد الغالبية الساحقة من الإسرائيليين لإتمام الاتفاق وتحرير المحتجزين.
أما بخصوص إمكانية حصول صدع حقيقي في المدى المنظور داخل المجتمع الإسرائيلي، وظهور شرائح وازنة تدعو إلى إعادة النظر بجدوى اعتماد القوة في قمع تطلعات الشعب الفلسطيني، فهو أمر مستبعد تماما. فالتحولات الجذرية نحو اليمين، ونحو الفاشية، واسعة وذات تأثير بعيد المدى.
ولكن، هل التغيير مستبعد على المستوى المتوسط، وهل أصلا يجوز أن يعوّل الفلسطينيون على تغيير داخلي. ليس التعويل على تغيير داخلي خطأً، إذ تاريخيا كان من أهداف إستراتيجيات حركات التحرر إحداث تغيير داخل مجتمع المستعمرين، وفي الرأي العام العالمي، ولكن الخطأ هو التعويل وحده على هذا التغيير، وانتظار تغير حكومات إسرائيل، مجرد من تفعيل الوحدة الوطنية، ومن الفعل الشعبي المنظم، وهو سياسة بائسة اعتمدتها سلطة رام الله، ومعتمدة خطاب باهت وهزيل واستجدائي. كما يتجلى القصور في ضعف خطاب حركات المقاومة الفلسطينية الموجه إلى الرأي العام العالمي. لقد احتفت المقاومة الفلسطينية بالتوسع غير المسبوق لحركة التضامن الشعبي في مختلف دول العالم وخاصة في الغرب، ولكن يجب أن نعترف أن هذا التوسع والنمو ليس منبعه عدالة القضية الفلسطينية والصمود الأسطوري للفلسطيني فحسب، بل أيضا وإلى حدٍ كبير يعود إلى الوحشية الإسرائيلية منقطعة النظير، واحتفاء قيادات وضباط وجنود الجيش الإسرائيلي بفعلهم الإبادي.
بغض النظر عن صحة أو خطأ حسابات عملية طوفان الأقصى أو عدمها، فإنّنا أمام واقع جديد لم يحسم فيه أيّ من الطرفين الصراع، رغم ميزان القوى العسكري المختل لصالح المستعمر. فمن ناحية، أثبت الفلسطيني أن ليس لديه خيار الاستسلام، ومن ناحية ثانية فشل الإسرائيلي في تحقيق أهدافه الرئيسية المعلنة، رغم أنه ارتكب أبشع الجرائم في دفاعه عن مشروعه باعتباره “مشروع وجودي”، وينتظر منه أن يصل إلى هذه النتيجة، أي استحالة فرض الاستسلام، ويبدأ في التخلي عن عدوانيته وعنصريته وامتيازاته، ويعترف بحق تقرير المصير للشعب الفلسطيني.
بطبيعة الحال، يُمكن للفلسطيني أن يُساهم في إحداث تغيير في معادلة القوة، في الساحة السياسية، أو إحداث تغيير في المواقف داخل مجتمع المستعمرين من خلال ترتيب بيته الداخلي – وحدة وطنية فاعلة – وتبني رؤية واضحة لإنهاء الصراع الكولونيالي، والاتفاق على أدوات وإستراتيجيات النضال، وبناء خطاب كوني يتطابق مع خطاب حركة التضامن العالمية التحررية، وأن يجد الطريق لترتيب العلاقة المباشرة معها.
حتى الآن ليست هناك مؤشرات على نهاية أكيدة لحرب الإبادة، التي قد تتوقف قريبا، أو قد تتجدد، ولكن الصراع الكولونيالي مستمر، ذلك أن المستعمر لا يزال حتى الآن يتمسك بمشروعه غير الإنساني في فلسطين كلها. لقد مثلت هذه الحرب أبشع جولة في تاريخ الصراع، وقد أماطت اللثام كليا عن وحشية الحركة الصهيونية ومحور الإبادة الغربي.
نحن أمام حركة كولونيالية عالمية وليست محلية، وهذه حقيقة معروفة لشعبنا ولحركته الوطنية، ولكن لم تكن معروفة لشرائح واسعة من شعوب العالم التي انتصرت ليس فقط للشعب الفلسطيني، بل لنفسها أيضا، لكونها ترزح تحت استغلال أنظمتها وحكوماتها ومجمل النظام العالمي الرأسمالي الإمبريالي. بالتالي، لا بد للحركة الوطنية الفلسطينية من أخذ هذه الحقيقة بعين الاعتبار في بناء إستراتيجيتها القادمة، وفي عملية إحداث التغيير على الساحة الشعبية العالمية، خصوصا الأميركية، حيث تشهد تحولا لافتا، تحديدا لدى الأجيال اليهودية الشابة.
إذا لم تتجددّ حرب الإبادة، ونصلي ألا تتجدد، فإن المرحلة الحالية تقتضي عملا شعبيا منظما ممتدا وفاعلا.
المصدر: عرب 48