تفّاحة اسمها بيروت | نصوص
مدينة بيروت | Getty Images
تعثّرت عيناي في متون كثيرة التهم، بعضها الفضول وبعضها الشغف، عن تفّاحة اسمها بيروت. لقائي الأوّل بمعنى الخطيئة اللذيذة الّتي تُزوّج الليلك. كلمة لن تترك الخندق مهما اشتدّ مزاح الليل عليها، فحوّلها الشعر إلى استعارة، وصيّرها النثر أسطورة نقر في تائها المفتوحة كما تنقر الدجاجة أرضًا قضم الجفاف ماءها. وبيروت مدينة إذا عُرِف سرّها أفلت نصًّا قابلًا للكتابة دائمًا، وخفتَ سحرها الأخّاذ. إنّ بيروت والغموض صنوان بلاغيّان وشعريّان، لا يستقيم واحد منهما إذا سقط الثاني.
مثل طفل يلمس الماء لأوّل مرّة في حياته، قادمًا من الصحاري الّتي تعوي من كلّ مفردات اللغة السغبة، وضعت يدي على رسوم مبانٍ أكلها الزمن والحرب، وخرّب رونقها الرصاص الشقيق أيّام الحرب الأهليّة، فأبت إلّا أن تبقى إلى اليوم سامقة وشاهدة على المجزرة.
مثل طفل يلمسه الماء، نعم، كان ذلك شعوري الأوّل عندما اقتُرِح عليّ زيارة لبنان. لم أزر النوم، ولم يزرني الليل في البرزخ المفتوح بين جمع حقيبة سريعًا وبين الوصول إلى مطار «شارل دو غول» الفرنسيّ. فليذكّرني الاسم – اسم هذا الرجل – بعد ذلك أنّ جهات الاستعمار متعدّدة، وأنّ بيروت جهة واحدة للقلب.
وتعثّرت عيناي في ألواح كثيرة، لكنّها كانت تقع دائمًا على بيروت. حين زرت بيروت عثرت على قلبي هناك محفوظًا، ورأتني أمانيّ الهاربة من طوبى الحنين اللاذع من أعلى صليب الكنائس في مدينة انفجرت خاصرتها البحريّة، ولم يتداعَ مبناها نهائيًّا. في بيروت لا شيء يسقط نهائيًّا. لا شيء اسمه النهائيّ. لقد أدهشني منظر المرفأ ميّتًا واقفًا مثل نخيل الجنوب التونسيّ. ومشهد المرفأ منفجرًا واقفًا أحالني على صورة خليل حاوي الّذي مات شاعرًا واقفًا برصاصة آثرها على نفسه، ولم يؤثر مشهد المشاة من سلالة سارة وإسحاق تستبيح أرض قصيدته البكر: بيروت. لقد قرأت ذلك لمّا كنت طفلة يافعة في ظهيرة تونسيّة بعيدة حارّة، ولم أدرك أنّني سأقف قريبًا من تلك القراءة على أرض العودة. ألم يكن أغلب الكتب في بيتنا من «دار العودة – بيروت»؟ حتّى خلت أنّ الدار الآخرة الوحيدة هي مدينة قلبي بيروت.
***
حطّت الطائرة على «مطار بيروت الدوليّ». وحطّت ابتسامتي السعيدة بفرارها من كبريائي على عينيّ. وقفزت عيناي من شبّاك الطائرة الصغير، تستنشقان زرقة السماء الّتي تمشي تحت غيمتها فيروز كلّ يوم، ومنظر المعمار الّذي يلوح بعيدًا من مدرّج الطائرة: شاحبًا وحزينًا، لكنّها بيروت؛ فاتحة العواصم كما علّمتني فتية «فرقة العاشقين»، واختبار الله كما أذّن الشاعر في صرّة خاصرتها البحريّة، عندما سال الصيف القائظ على دبّابة العدوّ الّذي يجتاح أوّل عاصمة عربيّة.
وهي بيروت، جلد من اللحم الفينيقيّ الّذي يسري في مسامّي وفق أوراد أسطورة مضحكة غير أنّها طريفة. يفرّ أبناء جلدتها منها إلى خارج رحمها مثل دبيب النمل، فيحبّونها أكثر، ويبكون كسر الفاء في الفراق. ولا ينفكّ مَنْ حوصر بجمالها، وبقي من وخز لكنتهم اللبنانيّة بتعابير النفور والرغبة في الرحيل عن الرعيل إلى أيّ سبيل.
لقد كانت بيروت سخيّة مع طفولتي الّتي لم أضبطها وأنا أحدّق في كلّ شوارعها، كأيّ طفل وافد على حاضرة، فارًّا من حرارة البدو وجلودهم الخشنة، إلى فرو العاصمة الرخو. كنت طفلًا يرى الملاهي أوّل مرّة، أو يستطعم حلوى غزل البنات لأوّل مرّة؛ فتُنسيه الأجبان المطعّمة بروائح الصوف العطنة الّتي يدسّها البدويّ في يديه، عندما يقرفص الحليب جبنًا حارّ الرائحة.
لماذا تجتاحني رائحة التشابيه بجبن طاغٍ؟ إنّها ’تعنايل‘ ضيعة بقاعيّة زرتها، ولم أستطع تحمّل رائحة مصنع الجبن فيها – لا أتحمّل الضمّ في المعنيين على كلّ حال – فكتمت أنفاسي بمنديل رقبتي. وها هي الروائح الّتي هربت منها تصطفّ في تشابيه نصّي. بقاع من الحبّ والحنين إلى مدينة زرتها مرّة وسكنتني إلى الأبد. كيف تخبّئ بيروت روائحها في ذاكرة زائريها لتدسّها في ’نوتاتهم‘ أو نصّهم بعد أن يختمر؟ ربّما تعي المدن الفاتنة أنّ النصوص كما الجبن تختمر.
***
وليل بيروت بلا إنارة إلّا في حوارٍ يسكنها مخرّبو البلد الأمين. وضعت حقيبتي الصغيرة في غرفة النزل في الحمرا الّتي فقدت همزتها في الصياغة، ولم تفقد غمّازتها في الحسن وفي البلاغة، رغم تعاقب النكسات على جدران مبانيها. هكذا كان طلل «مسرح البيكاديللي» القريب من النزل يعاكس وجنة الحمرا. وتطلّعت من شبّاك الغرفة إلى مشهد قلبي على مرآة المبنى أمامي. كان يضحك فرحًا، وكنت أخجل من صورة فيّ لم أعهدها قبلًا. ليست بيروت أوّل مدينة أزورها لكنّها أوّل مدينة افتتحت قلبي، واستوطنت عمودًا يستجيب له العروض والبحر والزحاف والعِلل والبديع والجناس والطباق. أطبقت عليّ خمسة أحرف وسحرتني، فصرت أرى في كلّ مدينة بيروت، وكلّ مدينة بيروت.
ولم تنجح الرويّة الّتي ألفتها في شخصيّتي، في كبح رغبتي في الخروج والمشي تحت سماء العودة إلى أوّلي وإلى آخري. مرّ على رغبتي صديق بيروتيّ من الضاحية، فجعلت دواليب سيّارته المشي إلى خافقي أسرع: شبك قلبي يديه عند صخرة الروشة. همست في سرّي وأنا أحتسي أوّل قهوة بيروتيّة: أليست هذه روشة قراءة قديمة اسمها رسائل غسّان كنفاني وغادة السمّان؟ ألم يكتبا مرارًا أنّهما كانا يلتقيان في الروشة؟ بحثت في عينيّ عن اسم المقهى الّذي كانا يجلسان فيه، أو يضربان موعدهما فيه، دون أن تسعفني الذاكرة. وددت لو كانت نسخة الرسائل معي. كانت ستكون خارطة الروشة. لكنّني اكتفيت برهبة الوقوف على أرض وقف عليها غسّان كنفاني أو فارس فارس كما سمّته بيروت ردحًا من الزمن؛ خوفًا عليه من ذئب الإخوة. صرت ألتهم كلّ متر مربّع بقدمَي، وفي كلّ متر أقول: هنا وقف، هنا شرب قهوة، هنا احتسى كأسًا، هنا عبّر عن شوقه إلى فلسطين، هنا سمع هدير عكّا، هنا كتب مقالًا لـ «الهدف». هنا قال كلّ الحقيقة للجماهير.
والحقّ أنّ غسّان وزن من لبنان في مخيالي الواسع. رافقني في مشاوير كثيرة خلال زيارتي اللبنانيّة قبل أن أعثر على قبره على تخوم مخيّم شاتيلا. زرت الحازميّة قبل المخيّم أقف على رسوم الثامن من تمّوز المشتعل. رأيت كوكبًا من النار يلتهم سيّارة وطفلة أحبّت خالها الّذي أدمنّاه معها. وما لبنان بالنسبة إليّ دون فلسطين أو دون غسّان؟ هل من اعتباط اللغة أنّ النون في فلسطين كما في لبنان تدثّران آخر اسمه؟ إنّه العاشق الأخير من نونيّة جدّه ابن زيدون، كلاهما خُلِق من النون. جئت أقول بعدهما: “بِنتُم وبِنّا فما ابتلّت جوانحنا/ شوقًا إليكم ولا جفّت مآقينا”. ثمّ ما قيمة أيّ بلد أو أيّ نصّ لا يحتفي بفلسطين نهرًا وبحرًا؟ ولعلّ من هبات بيروت المدهشة أنّني في يومي الأخير خلال بحثي عن قبر غسّان، رأيت لافتة زرقاء صغيرة عند الدوّار المفضي إلى المخيّم مكتوبًا عليها: “القدس 233 كلم”. مائتان وثلاثة وثلاثون قبلة بيني وبين القدس، وقلبي ينبش بين قبور ’الشهداء‘ عن حيّ فيَّ لم يمت. عندما أدركته من بعيد إذ لمحت صورته، ضحك صديقي المصاحب قائلًا بلهجة لبنانيّة أعشق ترانيمها: “يا عمّ، حبيب القلب طبعًا”. إنّ فلسطين ولّادة لولا قضاة المستكفي هذا الزمن، وإنّي أدركته كما أدرك يعقوب قميص يوسف من ريحه. وهكذا، سلّمت أمانة غزال آخر يبشّر بزلزال، نسخة من كتاب العزيز على قلبي وليد دقّة، عن مخيّم آخر اسمه جنين.
***
ولبيروت وجهان. قال الشاعر صديق شاعر آخر، أطرب المذاق العربيّ بأجمل نصّ قرأته عن قهوة أُعِدّت تهريبًا، تحت قصف المدافع المتربّصة بالمدينة وبجدرانها وشموخها. من الجميزة الساحرة امرأة شبقة لا تشبع من الرغبة والحياة، إلى وادي شحرور، والحدت والشويفات والأشرفيّة وفرن الشبّاك: ديوك من الأنفة والأناقة. كانت السيّارة تطوي الظلام الرهيب الّذي عصب به الساسة الخائنون عينَي بيروت، وكنت ألتقط ما أمكنني من صور حتّى لافتات الطريق. وفي كلّ اسم مدينة أتذكّر أغنية. وهل لبنان سوى أغنية؟ خلدة تذكّرني بالحصار و’الصنائع‘ تفتح مذياع ذاكرتي على صوت صباح، الّذي يضعني في المنارة، أين أرى جفون البحر تتفتّح في خيلاء، وكورنيش، صيدا، لوحة طاووس ينهض جمالها من كسل الغواية.
وفي لبنان كلّ شيء مرتفع الأنفة والإباء والبيوت. لم أرَ مشهدًا أجمل من بيوت محفورة في خدود الجبال، كانت أشبه بإمبراطوريّة قفير نحل، وهل ألذّ شهدًا من لبنان؟ من مرتفعات البقاع الّذي تجعلني قمّته ألمح كلّ بيروت ترقص في الضوء على ندرته من بعيد، إلى جبيل؛ بيبلوص عنفوان فينيقيّ خالص وجبروت تاريخ يربض أمام عرين اسمه البحر. ميناء صغير يراقص فيه قارب قاربًا، ويتحدّان قصيدة يونانيّة دافئة، إلى هندام الحجر المتراصّ مثل القبل على الخدّ في البلدة القديمة، حيث تفرّ روائح البخور، وينبجس صوت فيروز، ويحطّ الطربوش اللبنانيّ التقليديّ على شوارب الأسد المفتولة. في جبيل كلٌّ يقبّل كلًّا: البحر الصخرَ، والرذاذ أعذاقَ النخيل النافرة أمامه، وحبال القوارب في الميناء الضوءَ المنبعث من البرج الصغير، وقلادة طويلة من سمسم ألوان كثيرة معلّقة على مدخل البلدة تغرق في عناق طويل مع البيوت القديمة. لا تنس أن تصيخ السمع إلى الفارق اللهجيّ الطريّ، أو لنقل موسيقى جبيل المتفرّدة. فيروز تدندن “أنتِ لي، عانقيني”.
في بيروت ما في بيروت وفيها قلبي. حين غادرتها قرص قلبي ذات الفحيح الّذي قرصني عندما غادرت تونس. لم أستوعب حين رأيت في الصباح الحقيبة تنزل أمامي إلى بهو الفندق أنّني سأغادر مجدًا من رماد. أعترف أنّ دموعي سالت بنفس الدفق الّذي انهمر، حين غادرت تونس في صيف آب قبل ستّ سنوات.
كاتبة تونسيّة، باحثة وطالبة دكتوراه، وأستاذة في «جامعة ليون»، فرنسا، وتكتب في الأدب العربيّ في عدد من المجلّات الثقافيّة.
المصدر: عرب 48