تمركز القوات الروسية في سورية وخطر الانزلاق إلى حروب إسرائيل
في أعقاب الضربات الجوية الإسرائيلية المتزايدة على الأراضي السورية بعد معركة طوفان الأقصى منذ 7 أكتوبر 2023، كان رد القوات الروسية تجسيدًا لمصالحها الاستراتيجية الأوسع في دول الشرق الأوسط، وتنفيذ سياسة النأي بالنفس عن الرد على أي ضربات تطاول أي من المواقع العسكرية للحليف السوري أو حتى اعتراض ومنع أي من الضربات الجوية التي ينفذها الجيش الإسرائيلي ضد البلاد. يتجذر هذا الموقف في تحالفات روسيا التاريخية، والتزاماتها العسكرية، ورغبتها في إبراز قوتها ونفوذها في منطقة أصبحت أكثر اضطرابًا منذ 2011. يتطلب فهم موقف روسيا تجاه هذه الإجراءات الإسرائيلية دراسة المشهد الجيوسياسي، وأهداف روسيا الاستراتيجية في سورية، ومحافظتها على حالة التوازن الحساس للقوى في المنطقة.
السياق التاريخي والمصالح الاستراتيجية
حافظت روسيا على تحالف طويل الأمد مع سورية، يعود إلى الحقبة السوفيتية، وتطورت هذه العلاقة على مر السنين، خصوصًا بعد عام 2015 ودخول روسيا إلى الحرب السورية من بوابة القصف الجوي وتدريب وتسليح الجيش السوري، ما سمح لموسكو بإعادة تأكيد نفوذها في الشرق الأوسط. وبالتالي، تعتبر الكرملين سورية ليس فقط حليفًا، ولكن أيضًا ركيزة حيوية لاستراتيجيتها الإقليمية كتأمين خط جبهة في منطقة تعج بأطماع المعسكر الغربي. ولضمان وجود أطول في المنطقة، عززت روسيا نفوذها عبر استئجار ميناء طرطوس لمدة 49 عامًا بدءًا من 2019، بحجة تشغيله وتطوير سلك النقل البحري وتطوير خطوط السفن السورية، بينما هو في الواقع لجعله قاعدة بحرية على ساحل المتوسط تخدم المصالح الروسية في الوصول إلى المياه الدافئة؛ وبناء قاعدة جوية في منطقة حميميم التابعة لمحافظة اللاذقية والقريبة من منطقة جبلة المهمة أمنيًا وعسكريا بالنسبة للجيش السوري، ما يوفر توازنًا أمام النفوذ الغربي، ويدعم روايتها كقوة عالمية.
تدور سياسة بوتين في فلك عالم متعدد الأقطاب، والتأكيد على أن النظام العالمي الذي تقوده الولايات المتحدة لا بد وأن ينتهي في ظل تعاظم قوى لا يستهان بها مثل الصين وروسيا اللّتين استفادتا من إرث الإمبراطوريات؛ ولذلك فإن من مصلحة موسكو أن تسعى إلى تقليل الصراعات في المنطقة وعدم فتح جبهات جديدة تخدم مصالح الولايات المتحدة وحلفاءها، وتحويل الشرق الأوسط إلى كتلة من اللهب عبر عمليات عسكرية إباحية تقودها إسرائيل ضد كل من فلسطين ولبنان وسورية واليمن. فعليًا يثير هذا التصعيدُ الخطير الذي تقوم به إسرائيل في المنطقة عبر عمليات عسكرية عشوائية وغير مسؤولة حفيظةَ الكرملين الذي يراقب مآلات هذه العمليات وتداعياتها بدبلوماسية تمنع الوصول إلى المصالح الروسية في المنطقة.
تثير الضربات الجوية الإسرائيلية على الأراضي السورية، وخصوصًا تلك التي تستهدف مواقع إيرانية وانتقال الأسلحة إلى حزب الله، والتي بلغ عددها خلال عام واحد 147 استهدافاً أسفرت عن مقتل ما لا يقل عن 150 من الإيرانيين العسكريين والدبلوماسيين العاملين في سورية، ردود فعل معقدة من روسيا، إذ لطالما بررت إسرائيل عملياتها العسكرية في سورية أنها وقائية باعتبارها تدبيرًا ضروريًا لإحباط التغلغل الإيراني بالقرب من حدودها، مشيرةً إلى أن وجودًا عسكريًا إيرانيًا قويًا يشكل تهديدًا وجوديًا عبر دعم حزب الله في لبنان في المقام الأول عبر توريد السلاح وتأمين الدعم المالي الذي بلغ عاماً في المدة بين 2013 و 2020 حوالي 800 مليون دولار سنوياً، ودعم الفصائل الشيعية في سورية كألوية زينبيون وفاطميون وأبي الفضل العباس العاملين في جنوب غرب سورية عبر تأمين نقاط ارتكاز عسكرية بالتنسيق مع قيادة الفرقة الرابعة في دمشق.
بالنسبة لروسيا، فإن هذه العمليات تعقد موقفها: من جهة، لا ترغب موسكو في الظهور وكأنها تتواطأ مع الأعمال الإيرانية التي تعتبرها تل أبيب عدائية؛ ومن جهة أخرى، فإن دعم الإجراءات الإسرائيلية بشكل علني قد يؤدي إلى إقصاء وتحييد عمليات حليف روسيا الحاسم إيران، التي تقدر موسكو تعاونها في الحفاظ على نفوذها في سورية على صعيد، وتقدّر تعاونها في إمدادها بالسلاح في معارك الجيش الروسي في أوكرانيا.
التوازن الدبلوماسي لروسيا
بعد 7 أكتوبر 2023، وشنّ إسرائيل حربًا وحشية على غزة ولبنان، وراح ضحيتها ما لا يقل عن 50 ألف شهيد في فلسطين و3000 في لبنان؛ وما لا يقل عن 250 آخرين في سورية؛ اتسم رد روسيا بدبلوماسية حذرة اقتصرت على التصريحات الرسمية التي تدين العنف، بينما أكدت على ضرورة استقرار المنطقة والحوار. دعت وزارة الخارجية الروسية باستمرار إلى ضبط النفس من جميع الأطراف المعنية عللا لسان لافروف الذي أكد أن عملية طوفان الأقصى لم تأتِ من فراغ؛ داعيًا إلى حل تفاوضي للصراعات المستمرة في فلسطين على مبادئ الشرعية الدولية. تعكس هذه المواقف رغبة روسيا في الحفاظ على دورها كوسيط في المنطقة، القادرة على التعامل مع كل الدول المعنية بحروب وهجمات ما بعد طوفان الأقصى.
علاوة على ذلك، سعت روسيا إلى تأكيد دورها كضامن للسيادة السورية. كان هذا واضحًا بشكل خاص في أعقاب الضربات الإسرائيلية، حيث أكدت الخارجية الروسية على أهمية احترام سلامة الأراضي السورية. كما كرر الكرملين التزامه بدعم دمشق في هذه الأزمة، في إشارة من ديمتري بيسكوف إلى أن أي إجراءات من شأنها تقويض الحالة العسكرية الراهنة في سورية يمكن أن تقابل بعواقب دبلوماسية أو عسكرية؛ وأن أي تدخل عسكري إسرائيلي في سورية سيقود إلى عواقب وخيمة وكارثية. وقد شمل هذا الدعم أيضًا تعزيز الدفاعات الجوية السورية، وتزويدها بأنظمة صاروخية متقدمة، وإجراء تدريبات عسكرية مشتركة، وكلها تهدف إلى تخفيف حدة الهجمات الإسرائيلية على الأراضي السورية، كما في حادثة الهجوم على منطقة جبلة المحاذية لقاعدة حميميم العسكري إلى تضم قيادة القوات الروسية في سورية في ليل 3 أكتوبر الفائت.
الديناميكيات العسكرية والأمن الإقليمي
الديناميكيات العسكرية في سورية معقدة ومتعددة الأوجه، مع وجود العديد من الفاعلين الذين يتنافسون على النفوذ والمكاسب. يوفر الوجود العسكري الروسي وزنًا مضادًا لكل من العمليات الإسرائيلية والإيرانية، مما يضعها كجهة رئيسية في الصراع المستمر بين الطرفين على الأرض السورية. على الرغم من التزامها بدعم الأسد، كانت روسيا أيضًا حذرة من الدخول في صراعات مباشرة مع إسرائيل. غيّرت روسيا جزءًا من تكتيكات الحرب في سورية، وأدخلت برنامج المصالحة الوطنية الذي يقضي بالعفو عن مقاتلي المعارضة السورية بشرط تسليم سلاحهم وانضمامهم إلى قوات الفيلق الخامس تحت تدريب روسي -سوري مشترك. شمل هذا البرنامج فصائل المعارضة العاملة في المناطق الحدودية مع الجولان السوري المحتل وأقنعتهم بدءًا من عام 2017 بتسليم سلاحهم وإحلال قوات روسية بدلاً من قوات المعارضة؛ وهذا ما حصل فعلًا، إذ تسلمت روسيا نقاطًا حيوية في القنيطرة وريفها في أماكن مثل بئر عجم وكودنة، ومؤخرًا نقلت مركزًا للشرطة العسكرية الروسية إلى تل الشعار الواقع على خط برافو (فض الاشتباك) والذي كان تحت سيطرة قوات المعارضة بين عامي 2015-2017. الآن ما يهم في هذه النقاط الروسية حتى 1 سبتمبر الفائت هو أن تضمن إسرائيل عدم استغلال الفراغ الأمني في منطقة مثلث الموت (جنوب غرب سورية) وتعويضه بقوا إيرانية أو قوات الفرقة الرابعة، أو عدم تشكل جماعات مسلحة لا منتمية تهدد أمن الحدود.
وبعد اغتيال الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، وقادة وكوادر في الحزب، وبدء الحرب على لبنان، تداولت معلومات استخباراتية عن وصول مقاتلين موالين لإيران إلى جنوب سورية مستعدين لتنفيذ عمليات ضد الجيش الإسرائيلي، الأمر الذي دفع القوات الروسية إلى تعزيز مواقعها في ريف القنيطرة، وأعادت موضعة نفسها، وفتحت ممرات جديدة في المنطقة مع تفجير حقول ألغام على طول خط برافو. بقيت هذه الحالة حتى يوم 8 أكتوبر، حين سحبت روسيا قواتها من تل الشعار وتل مسحرة وبئر عجم في ريف القنيطرة، لتقوم إسرائيل يوم 11 أكتوبر بالتوغل نحو الأراضي السورية في منطقة تل أحمر وتجريف أراضي على طول 1000 متر وبعمق 500 متر وزرع ألغام وتنصيب أسلاك شائكة ونقطة مراقبة وسط صمت روسي وسوري عن الحادثة، وهذه المرة الخامسة التي تفعلها إسرائيل خلال عام، وتقوم بتجريف أراضي وزرع ألغام على طول الحدود. في موازاة هذه التحركات ما تقوم روسيا بفعله هو سحب قواتها من أماكن حساسة مثل تل الحارة الإستراتيجي وتل الأحمر وتل مسحرة وهي كلها تلول دمرتها فصائل المعارضة السورية أثناء وجودها فيها في عامي 2015 و2016، وعطلت كافة الأجهزة الاستخباراتية والرادارات الموجودة فيها.
هذا التفاعل والتعامي عن العمليات الإسرائيلية في سورية، والانسحابات التكتيكية وتبديل مواقع القوات الروسية يقودنا إلى احتمالين: الأول هو أن القوات الروسية على علم بقيام إسرائيل بخوض عمليات عسكرية وشيكة في المنطقة الشرقية لحدود الجولان، وأن القوات الإسرائيلية تسعى لملاحقة وتدمير مواقع حزب الله والفصائل الأخرى المدعومة من إيران في مناطق مثلث الموت؛ والثاني هو أن روسيا لا تستجيب للتحذيرات أو الشروط الإسرائيلية حول أي عمليات في المنطقة، وأن هذا الانسحاب هو إفساح المجال للفصائل الإيرانية بإعادة استخدام مثلث الموت لشن عمليات عسكرية ضد إسرائيل التي ستصعد نوعية الضربات، وتجر هذه الفصائل إلى مستنقع حرب جديدة في الجبهة الغربية من سورية. وفي كلا الاحتمالين، تحافظ موسكو على قواعد التدخل العسكري وسياسة النأي بالنفس (إن صح استخدامها هنا) عن الدخول في تصعيد جديد.
يزيد السياق الدولي للتفاعل الروسي-الإسرائيلي تجاه الضربات المتكررة على سورية من تعقيد ردود فعل روسيا. لطالما دعمت الولايات المتحدة إسرائيل، مقدمةً المساعدات العسكرية والدعم الدبلوماسي. بالمقابل، يضع تحالف روسيا مع إيران وسورية في مواجهة المصالح الأمريكية في المنطقة. زادت الحرب على لبنان حجم المخاطر، حيث أعربت الولايات المتحدة عن قلقها بشأن دور إيران في لبنان وسورية، وأعمت أعينها عن عملية برية في لبنان. يجب أيضًا رؤية ردود روسيا من خلال عدسة علاقتها مع الصين والقوى العالمية الأخرى. مع تحول المشهد الجيوسياسي، تهدف روسيا إلى وضع نفسها كوزن مضاد للنفوذ الأمريكي في الشرق الأوسط. من خلال الحفاظ على علاقات قوية مع كل من إيران وسورية بينما تتفاعل مع إسرائيل، تسعى روسيا إلى تأكيد نفسها كجهة رئيسية قادرة على التأثير في النتائج في المنطقة.
تُبرز المواقف الروسية تجاه الهجمات الإسرائيلية على سورية بعد 7 أكتوبر 2023 التفاعل المعقد بين التحالفات التاريخية، والالتزامات العسكرية، والمصالح الاستراتيجية. يعكس رد موسكو نهجًا مدروسًا يهدف إلى الحفاظ على نفوذها، بينما تتنقل بين الديناميات المعقدة للصراعات الإقليمية. مع استمرار التصعيد، من المحتمل أن تُقود أفعال روسيا بمساعيها للحفاظ على توازن القوى في الشرق الأوسط. تسلط الأحداث التي تلت 7 أكتوبر الضوء على التحديات التي تواجه روسيا في إدارة علاقاتها مع إسرائيل (التي تحاول أن تستفزها ربما بأوامر أمريكية لتنزلق موسكو إلى مواجهة مباشرة حينها مع أمريكا) في منطقة تتسم بالاضطراب والمصالح المتنافسة. مع استمرار كل من إسرائيل وإيران في تأكيد مواقعهما، سيحتاج الكرملين إلى تعديل استراتيجياتها لحماية أهدافها، مما يعزز مكانتها كجهة محورية في الجغرافيا السياسية للشرق الأوسط.
المصدر: عرب 48