توظيف التحليل النفسي في فهم صمت العالم إزاء الإبادة الجماعية في غزة
في ورقة صدرت عن مركز مدى الكرمل بعنوان: “أتُراه حُلمًا أم حقيقة؟”، تستخدم المحللة النفسية الفلسطينية د. لمى خوري عدسة التحليل النفسي لتفسير سياسة اللا-فعل والطريق المسدود، وعجز السياسة العالمية عن وقف حرب الإبادة التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني في غزة منذ أكثر من سنة.
تغطية متواصلة على قناة موقع “عرب 48” في “تليغرام”
توظف الباحثة مفاهيم التحليل النفسي، مثل “اللاوعي المعياري”، و”الأليف-الموحش”، والأخلاق وفناء الأمم، و”المرجع الغائب” كأدوات لاستكشاف كيفية السماح باستمرار فظائع مثل الإبادة الجماعية، وكشف عيوب العلاقات الدولية المدفوعة بتحقيق مصالح إستراتيجية، ومزايا عسكرية واقتصادية، وقصورها الأخلاقي.
وتسلط المقالة، من خلال تساؤل طفلة من غزة عما إذا كان ما يحدث حقيقة أم كابوس، الضوء على الواقع المؤلم الذي يعيشه أطفال القطاع وسط الفظائع المستمرة والصدمات العميقة. ويعاني الفلسطينيون والمتضامنون معهم من العجز عن التصديق حيال اللامبالاة وفشل الجهات الفاعلة والكيانات الدولية، وخاصة مجلس الأمن التابع للأمم المتحدة، في وقف الإبادة الجماعية في غزة.
وتشرح الباحثة كيف استفاق الذين يؤمنون بمبادئ القانون الدولي وحقوق الإنسان واللباقة الإنسانية على صحوة قاسية، تركتهم محبطين وخائبين على نحو عميق، بعد انكشاف نهج سياسات الإبادة الذي يعتمده المجتمع الدولي، والمعايير التي يقرر بناءً عليها من يستحق الحفاظ على حياته ومن لا يستحق ذلك. تتجلى هذه الحقيقة في ظل البث المباشر المستمر للإبادة الجماعية في غزة، الذي يسلط الضوء على فشل أخلاقي فادح.
وتشير الباحثة كذلك إلى تكشف “اللاوعي المعياري” الذي يفرض سلطته، والذي يتبناه مجلس الأمن، ولا سيما أعضاؤه الدائمون، وعلى رأسهم الولايات المتحدة. يظهر ذلك جليًا من خلال تأكيد الولايات المتحدة المتكرر على أن “إسرائيل تمتلك الحق في الدفاع عن نفسها”، بينما يشير ذلك ضمنًا إلى الحق في “قتل أكثر من 13 ألف طفل وجعل 17 ألفًا منهم أيتامًا”، حتى تاريخ كتابة المقال.
وتبرز المقالة أيضًا انحياز مجلس الأمن ضد الدول النامية أو المستعمرة، واعتباره إياها دون البشرية. تستدل الباحثة على ذلك من خلال مقارنة رد فعل المجلس على الإبادة الجماعية في رواندا عام 1994 مع رد فعله على أحداث 11 أيلول/ سبتمبر عام 2001، حيث أصدر المجلس في أقل من أربع وعشرين ساعة بيانًا رئاسيًا صارمًا يدين الهجوم الذي أدى إلى مقتل ما يقرب من أربعة آلاف شخص. أما في حالة رواندا وحالة غزة الحالية، فرغم توفر أدلة لدى مجلس الأمن على أن إبادة جماعية كانت وشيكة، فإنه لم يتخذ أي تدابير تمنعها باستخدام القوة.
باللجوء إلى مفهوم “الأليف-الموحش” – كما وصفه فرويد وكما تعرضه المقالة باعتباره عنصرًا أساسيًا بالنسبة لسياسة الإماتة عند مبيمبسي – تفسَّر قدرة الأمم على الإعلان عن حياة بعض البشر كحيوات لا تستحق الحداد (وفقًا لصياغة جوديث بتلر).
وفي سياق يظهر فيه الفلسطيني ككيان غير مألوف ومعروف بشكل ما؛ يتم الحط من قيمة صفاته الإنسانية أو محوها تمامًا في إطار الإبادة الجماعية المستمرة. وتتبدى ظلال مفهوم “الأليف-الموحش” في تأطير نتنياهو للإبادة الجماعية في غزة، من خلال تغريدة وصف فيها الأمر بأنه معركة بين “أبناء النور وأبناء الظلام”. كما يظهر هذا المفهوم بوضوح في استحضاره لشعب العماليق، الذين اعتبرتهم النصوص التوراتية أعداء لبني إسرائيل وأمرت بالقضاء عليهم تمامًا. وتتوازى هذه التصريحات مع وصف وزير الأمن الإسرائيلي السابق، يوآف غالانت، للفلسطينيين بأنهم “حيوانات بشرية”.
ترى لمى خوري أن هذه التصريحات تشكل خطابًا نازعًا للإنسانية، يدعم ممارسات سياسات الإماتة، ويبررها من خلال ديناميكيات غير واعية ترتبط بجعل الفلسطينيين “أليفين-موحشين”. وتشير إلى أن هذه التصريحات لا تجرد الفلسطينيين من إنسانيتهم فقط، بل تتضمن إقرارًا ضمنيًا بإبادتهم، وهو ما يعكس أشد أشكال منطق الإبادة الجماعية قتامة.
وبهذا الصدد، أجرى “عرب 48” حوارا مع د. لمى خوري لإلقاء الضوء على المزيد من الموضوع.
“عرب 48”: لجأتِ إلى أدوات التحليل النفسي، كمختصة في المجال، لفهم الصمت والتقاعس البشري والدولي في وقف حرب الإبادة التي تجري بالبث المباشر في غزة. هذا التقاعس لا يمكن تفسيره بأي مقاييس إنسانية، كيف ترينه؟
د. خوري: ما يحدث من حرب إبادة في غزة على مدى أكثر من سنة شكّل صدمة هائلة لكل من كان يؤمن بالمواثيق والمؤسسات الدولية وما اصطلح على تسميته بالقيم والمبادئ الخاصة بحقوق الإنسان، التي يُفترض أنها تحكم السلوك الدولي وتضبط ممارسات الأفراد. بالنسبة لي، كعاملة سابقة في الأمم المتحدة، كنتُ أؤمن في مرحلة معينة بأن العالم يتغير للأفضل مع تقلص الصراعات الدولية والإقليمية، وتوطد ما يسمى بأركان السلم العالمي، والنزوع إلى حل النزاعات بالطرق السلمية وعلى أساس القوانين والمواثيق الدولية وفي إطار الهيئات العاملة بموجبها.
الصدمة أصابت الجميع، وبات الواحد منا يمشي وهو لا يصدق إن كان ما يراه كابوسًا أم حقيقة. بالنسبة لي، أدركتُ أنني كفلسطينية وشرقية – بمفهوم إدوارد سعيد – لستُ إنسانة متساوية مع الآخرين. هناك أناس، أو صنف من البشر، يمكن أن يموتوا دون أن يلتفت العالم لذلك. يلح السؤال: كيف للبشرية أن تتحمل ما يجري؟ ولماذا وكيف يسكت أولئك الجالسون في رأس الهرم الدولي في الأمم المتحدة ومجلس الأمن، وهم القادرون على وقف الإبادة الجماعية تلك؟
“عرب 48”: كيف يمكن تفسير هذا القصور بتوظيف التحليل النفسي لفهم دوافع تلك الدول التي تتخذ القرارات؟
د. خوري: لفهم هذا القصور، يجب النظر إلى دوافع الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن – باستثناء الصين – وهي دول الغرب التي انتصرت في الحرب العالمية الثانية. وكما هو معروف، فإن المنتصرين هم من يكتبون التاريخ.
في تحليلي لفهم هذا التقاعس، وظّفتُ بعض مصطلحات علم النفس. على سبيل المثال، تشير نيلي تينهون إلى أن اللاوعي ربما يتعود على أشياء خاطئة، والإنسان غالبًا لا يسأل كيف يحدث ذلك. العالم يسمع: “حماس إرهاب”، وهذه العبارة تدخل إلى اللاوعي. يصبح الإنسان متعودًا على الخطأ، وتتحول مفاهيمه إلى مفاهيم خاطئة دون أن يكون واعيًا لتصرفاته أو للمبادئ التي يحملها في اللاوعي. نادرًا ما يسأل نفسه عن السبب الذي يجعله يتبنى قيمًا ومبادئ لا معنى لها، بل يعتاد عليها ببساطة.
أحد الأمثلة التي استعرضتها تينهون هو التساؤل حول الدور التقليدي للمرأة. لماذا يُفترض بالمرأة أن تتحمل مسؤولية تربية الأطفال، وتعمل داخل البيت وخارجه، وتساهم في إعالة الأسرة؟ هي تقول لنفسها: “هذا دوري”، وتقتنع بأن هذا هو دورها الطبيعي، مما يعني أن الإنسان قد يتصرف بطريقة خاطئة دون وعي منه بخطأ تصرفه.
استعرضتُ أيضًا مثالًا عن ازدواجية مجلس الأمن، وكيف انعقد المجلس بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول خلال أقل من 24 ساعة ليصدر بيانًا رئاسيًا يدين العدوان على الولايات المتحدة. في المقابل، صمت المجلس على الإبادة في رواندا. حينها، كنت أعمل في الأمم المتحدة، وكنا نحذر على مدى أشهر طويلة من وقوع إبادة جماعية، ولكن لم يتحرك أحد.
“عرب 48”: يبدو أن الفرق واضح عندما يجري الحديث عن بيض وسود؟
د. خوري: نعم، هم عنصريون في اللاوعي دون إدراك ذلك. تتجلى هذه العنصرية في السلوك والقرارات اليومية والسياسية. يقول إدوارد سعيد إننا بالنسبة لهم لسنا آدميين، بل مجرد أشياء لا قيمة لها. تشير كارول آدم إلى أن الإنسان، لتبرير تناوله للحوم الدجاج والبقر وغيرها من الحيوانات، يُغيّب وعيه بشأن هذه الحيوانات، حيث يفصل بين تسميتها ككائنات حية وتسميتها كأطعمة. يتم إخفاء عملية الذبح لتسهيل تناول لحومها دون الشعور بتأنيب الضمير.
بنفس الطريقة، يتم تغييب وجودنا والتعامل معنا وكأننا غير موجودين أو مجرد أرقام. الطفل الذي يُقتل في غزة لا يُنظر إليه كمحمد البالغ من العمر 12 عامًا وله أخت، بل يُختزل إلى رقم يمكن شطبه بسهولة.
“عرب 48”: هل هذه طريقتهم لتجنب الاتهام بقتل البشر؟
د. خوري: نعم، نحن بالنسبة لهم “إرهابيون” بلا قصة أو حياة. يقول إدوارد سعيد إنهم لا يسمحون لنا برواية قصتنا لكي لا نصبح موجودين أو آدميين لنا كيان. ربما هذه طريقتهم لتحمل ما يفعلونه بنا.
يشير أوري أبو لوف، وهو كاتب إسرائيلي، إلى أن دولة مثل الكيان الصهيوني التي تدرك أن مصيرها الفناء، قد تتغير مبادئها وقيمها وأخلاقها لهذا السبب، وهو ما يدفعها إلى ارتكاب مثل هذه الجرائم.
“عرب 48”: هم يبررون ذلك بالقول إنهم يخوضون حرب وجود؟
د. خوري: كل الدول ستذوي، ولا أحد يبقى فوق إلى الأبد. ولإنكار الموت، يتشبث البعض بأشياء ويدافع عنها ليقنع نفسه بأنه سيعيش، وهذا ما تفعله الدولة الصهيونية. في كل ذلك يبرز مفهوم “الإماتة”، وهو يعني أن دولة تدّعي السيادة والحق في القتل، تسعى إلى محو ماضي وحاضر ومستقبل الشعب الفلسطيني.
فهم يمحون التاريخ عن طريق تغيير أسماء الأماكن والمواقع، ويمحون الحاضر عبر تحويل حياة الفلسطيني إلى جحيم، ويدمرون المستقبل بقتل الأطفال في غزة مباشرة أو من خلال التجويع الذي يؤثر على نموهم وتطورهم.
“عرب 48”: لقد أطلقوا على الفلسطينيين في غزة صفات غريبة للحط من آدميتهم وتبرير حرب الإبادة ضدهم؟
د. خوري: استعملت مصطلحًا في علم النفس يُترجم إلى “الأليف-الموحش”، وهو بالإنجليزية “Uncanny”، والمستمد من الكلمة الألمانية “Unheimlich”. هذا المفهوم مستوحى من قصة “رجل الرمل” (ساندمان)، حيث كان الوالدان يخوّفان ابنهما بأنه إذا لم يخلد للنوم سيأتي “رجل الرمل” ويملأ عينيه بالرمل. عندما يكبر الابن ويلتحق بالجامعة، يغرم بابنة أستاذه. يظل يحدق إليها من نافذته إلى أن يقرر في أحد الأيام أن يتجرأ ويذهب ليحضنها. وعندما يفعل ذلك، يكتشف أنها مجرد لعبة بدأت تتفكك بين يديه، وخرجت عيناها من حدقتيهما.
هذا المشهد مفزع لأنه يكشف أن الإنسان الذي يُفترض أن يكون طبيعيًا قد يتبين أنه مجرد “لعبة موحشة”. يقول فرويد إن المفزع هو الشيء الذي يُفترض أن يكون مألوفًا ولكنه يرتكب فعلًا بشعًا جدًا، الشيء الذي يبدو طبيعيًا ثم يتبين لك فجأة أنه عكس ذلك.
هؤلاء، من وجهة نظرهم، قد يبدون آدميين، ولكنهم، بتعبير غالانت، “حيوانات بشرية”. هناك قصص يؤلفونها عنا، مثل التركيز على حروف العين والحاء والخاء والطاء في لغتنا، والتي يعتبرونها أشياء بشعة تميزنا. عندما يُقال عن أحد إنه “حماس”، لا يتخيلون أبًا وابنًا وشابًا صغيرًا فقد والده أمام عينيه ويحارب من أجل بلاده. بدلًا من ذلك، يتخيلون كائنًا ملفوفًا بالحطة، وتحته عظام بلا قلب. يحولوننا إلى مفهوم “Uncanny” – “الأليف-الموحش” – لتبرير نزع الصفات الإنسانية عنا، مما يسهل عليهم تبرير قتلنا. يفعلون ذلك ببساطة لأنهم قادرون.
د. لمى خوري: معالجة ومحللة نفسية فلسطينية مقيمة في الولايات المتحدة، وهي مؤسسة شريكة للشبكة الفلسطينية العالمية للصحة النفسية. تحمل شهادة الدكتوراة في دراسات التحليل النفسي العابر للحضارات، وعملت سابقًا مسؤولة للشؤون السياسية في قسم عمليات حفظ السلام في الأمم المتحدة.
المصدر: عرب 48