“حركة الأرض” في ذكرى يوم الأرض
إنّ كل واقع فلسطيني، في كل قطعة جغرافيّة – سياسيّة فلسطينيّة، إنما هو واقع مستمَدّ من قضيّة الأرض أساسا، فالنكبة هي فعل اقتلاع من الأرض، وسياسات التمييز ضد فلسطينيي الداخل، منبعها العزل ومصادرة الأرض، والتهويد في القدس هو تهويد للأرض
جانب من طبرية، عام 1965 (Getty Images)
تظلّ “حركة الأرض”، واحدة من أولى محاولات الفعل السياسيّ الوطنيّ في الداخل الفلسطينيّ، بعد النكبة، وفي ظلّ الحكم العسكريّ الذي خضع له العرب في البلاد، ما بين عامَي 1948 – 1966. وأسوأ ما تضمّنته أحكامه العسكريّة – العُرفيّة في حينه، هو حرمان فلسطينيي الأراضي المحتلّة عام 1948، من حقّهم في التنظّم في أُطر وأحزاب سياسيّة، تعبّر عن واقعهم المنكوب، بعد تحوّلهم إلى أقلّيّة مهزومة في دولة قامت على أنقاض شعبهم.
هذا، فضلا عمّا تضمّنه الحكم العسكريّ من خنق لحرية التنقّل، والضبط الجغرافيّ القسريّ، ومصادرة الأراضي، وسياسات التعقّب والاضطهاد والتّنكيل(1). وكان ذلك بذاته أحد دوافع ولادة حركة الأرض.
“أُسرة الأرض”؛ هذا هو الاسم الذي كانت عليه “حركة الأرض”، عند اللحظة الجنينيّة من ولادتها في نيسان/ أبريل سنة 1959 في مدينة الناصرة. وقد قامت على تأسيسها، مجموعة من الشباب المتأثرين بالفكر القوميّ، ومدّه الناصريّ، اللذين هيمنا على المنطقة العربيّة برمّتها في حينه، بينما كان كل من الحزب الشيوعيّ من جانب، وما يُعرف بـ”القوائم العربيّة” المُشكَّلة من وجَهاء وزعامات عربيّة تقليديّة – محليّة، اتّصلت بحزب “الماباي” الصهيونيّ من جانب آخر، هي القوى الفاعلة والمهيمنة على المشهد السياسيّ والاجتماعيّ داخل المجتمع العربيّ، الرازح تحت الحكم العسكريّ.
بالتالي، جاءت حركة الأرض بوصفها يقظة وطنيّة، ذات تصوّر سياسيّ بديل عن تلك القوى، لناحية سؤال الهويّة والموقف من إسرائيل. ومن بين مؤسِّسي الحركة، كان كلّ من: حبيب قهوجي، ومنصور كردوش، وصبري جريس، وصالح برانسي، ومعهم عشرات النشطاء من أبناء قرى وبلدات الداخل الفلسطينيّ في الأراضي المحتلة عام 1948(2).
بالرغم من أثر المدّ القوميّ الناصريّ الخارجيّ، في ولادة حركة الأرض ويقظتها السياسيّة. إلّا أنه لم يكن هناك أي ارتباط عضويّ – تنظيميّ للحركة بالناصريين الفلسطينيين، والعرب في الخارج، وهذا ينسحب على كلّ تاريخ الحركة الوطنيّة، على اختلاف تيّاراتها وأحزابها، طوال النصف الثاني من القرن العشرين في الداخل. إنما هو ارتباط عروبيّ – وجدانيّ، قد استعارت فيه حركة الأرض مفردات أدبيّاتها القوميّة من ذلك المدّ القوميّ – الناصريّ، المنقولة عبر أثير الراديو وقتها. بينما كانت الظروف السياسيّة والاقتصاديّة المحليّة، المتعلقة بظروف الفلسطينيين المَنسيين في أراضي 48، هي دافع الأساس وراء نشأة الحركة، وبخاصة؛ سؤال الأرض ومصادرتها.
سؤال الأرض لدى حركة الأرض
كانت مفرَدة “الأرض” بذاتها، في اسم الحركة، كافية، لجعلها محلّ شُبهة في نظر الدولة العبريّة. ممّا وضع الحركة في مواجهة مباشرة مع سلطات الحكم العسكريّ، وأجهزتها الأمنيّة والقضائيّة منذ ولادتها. والذي أفضى في نهاية المطاف إلى إخراج حركة الأرض عن القانون، وحظرها في تشرين الثاني/ نوفمبر سنة 1964.
ظلّت حركة الأرض، طوال سنواتها الخمس، تصارع على حقّها وحقّ أعضائها وأبناء شعبهم بالتنظّم السياسيّ، وذلك عبر اللجوء للقضاء الإسرائيليّ. وقد أشار الكاتب صبري جريس، أحد أبرز مؤسِّسي الحركة إلى استنفادها في تلك المعركة القضائيّة، كلّ “الحيَل” القانونيّة من أجل انتزاع ذلك الحقّ؛ إذ حاول أعضاء الحركة تسجيلها كشركة، فرُفض طلبهم، ثم كحزب سياسيّ، ثم كجمعيّة، وحتى كقائمة انتخابيّة لخوض انتخابات الكنيست؛ كل ذلك تمّ رفضه، بادعاء أنها حركة لا تعترف بوحدة وحقّ إسرائيل في الوجود(3).
ولّما رُفض أيضا طلب الحركة، إصدار صحيفة رسمية لها، بغية نشر أفكارها عبرها، عمل أعضاء الحركة المؤسِّسين على إصدار صحيفتهم بنشرات كانت أسماؤها مُستعارة، بغير اسم الحركة. فنشروا 13 نشرة صحافيّة، مرّة في كل أسبوعين، ما بين عاميّ 1959 – 1960، بقيت فيها مفردة الأرض مُلازمة لاسم كل نشرة، مثل: أُمنا الأرض، وعطر الأرض، وندى الأرض، وأسرار الأرض، وأخبار الأرض… وهكذا؛ في وضعٍ لم تتخلَّ فيه الحركة -رغم الحظر والمنع- عن نشر صحيفتها، التي ظلّ تعبير “الأرض” مُلازما؛ عنوانا لها، ومتنا فيها.
كانت “الأرض” في خمسينيات ذلك الزمن، ما تزالُ في نظر معظم أهلنا الباقين في البلاد، بمثابة “مرجع”، أكثر مما هي “مُلكية”، تماما مثلما كانت الأسرة، أو العائلة الممتدّة (الحمولة) تعتبران مرجعا، وليس عبثا أن أطلقت الحركة على نفسها في طوْر نشأتها اسم “أُسرة الأرض” .
وبخاصّة أنّ فِعل النكبة عام 48، ثم الرزوح تحت نير الحكم العسكريّ بعدها، قد ضيّقا البلاد على أهلها، ففِعل النكبة تضمّن ابتلاعا للأرض، بعد طرد أهلها وآهليها منها، وكذلك الحكم العسكريّ في سياساته؛ قد تضمّن قضما لأرض من ظلّوا فيها من سكّانها ومالكيها. وذلك، إما عبر منعهم من الوصول إليها لحرثها وزرعها، بحجة أنها مناطق عسكرية مغلقة، أو عبر مصادرتها(4). وبالتالي، كانت الأرض بالنسبة لحركة الأرض تعني “بقاء” اجترحت الحركة نفسها، واسمها كذلك، منه.
كما تبيِّن أوراق اجتماعات حركة الأرض، تشديدَ أعضائها على موقفهم من الأرض، وبخاصّة تلك التي كانت متعلّقة في مواجهة قرارات وقوانين سلطات الحكم العسكريّ، المتّصلة في الأرض، وتشديدهم فيه على أن هذه الأخيرة، مسألة “لا تخصّ الفلّاحين وحدهم”(5). إنما هي قضيّة الجميع، مُلّاك الأرض، وغير المُلّاك.
الصراع مرادفا للأرض
إذا كانت حركة الأرض، هي بمثابة أولى محاولات فعل التنظّم السياسيّ في الداخل الفلسطينيّ أواخر الخمسينيّات، فإن يوم الأرض في آذار/ مارس سنة 1976، هو اللحظة التاريخيّة الفارقة التي اكتشف فيها العرب في الداخل أنفسهم، بوصفهم جماعة سياسيّة على اختلاف مشاربهم وتوجّهاتهم. ومردّ ذلك إلى الأرض، بوصفها معطىً ليس جغرافيًّا – حيويًّا فحسب، بل وجوديًّا كذلك، سيظلُّ الصراع عليها، متّصلا بها.
إنّ صراع فلسطينيي الداخل في الأراضي المحتلة عام 1948، وبالأخصّ تيّار الحركة الوطنيّة، على انتزاع “مواطنة كاملة” في الدولة العبريّة، هو صراع يُمايزهم في واقعهم عن باقي نضال أبناء شعبهم في القدس، والضفة والقطاع، ومخيّمات اللجوء. بينما سؤال الأرض، وحدَه من يردّ فلسطينيي الداخل إلى وحدتهم الطبيعيّة والتاريخيّة مع أبناء شعبهم على كامل التراب الفلسطينيّ. وذلك، لأن الأرض هي جوهر صراعنا الحقيقيّ مع الصهيونيّة، أوّلا وأخيرا.
إنّ كل واقع فلسطيني، في كل قطعة جغرافيّة – سياسيّة فلسطينيّة، إنما هو واقع مستمَدّ من قضيّة الأرض أساسا، فالنكبة هي فعل اقتلاع من الأرض، وسياسات التمييز ضد فلسطينيي الداخل، منبعها العزل ومصادرة الأرض، والتهويد في القدس هو تهويد للأرض، والاستيطان في الضفة هو ابتلاع للأرض، وحصار غزة هو عزل عن الأرض، كما أن العودة هي حلم متصل بالعودة للأرض.
الهوامش:
1. عن سياسات وممارسات الحكم العسكري، راجع: سعدي، أحمد، الرقابة الشاملة – نشأة السياسات الإسرائيلية في إدارة السكان ومراقبتهم والسيطرة السياسية تجاه الفلسطينيين-، ترجمة: الحارث محمد النبهان، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، بيروت 2020.
2. عن تأسيس “حركة الأرض”، راجع : دلّاشة، لينا، حركة الأرض، في كتاب لمجموعة مؤلفين بعنوان: الفلسطينيون في إسرائيل – قراءات في التاريخ والسياسة والمجتمع، مدى الكرمل، 2015، ص 285 – 295.
3. راجع : صبري جريس: حركة “الأرض” تجربة فلسطينية بعد النكبة، حوار : سليمان أبو ارشيد، موقع عرب 48، تاريخ 11/8/2017.
4. عن سياسات الحكم العسكري تجاه الأرض، راجع : جريس، صبري، العرب في إسرائيل، منظمة التحرير الفلسطينية مركز الأبحاث، 1967، ج1، ص 117 – 164.
5. حركة الأرض، أوراق محضر وقائع الاجتماع التداولي لأعضاء الحركة حول المشروع الإسرائيلي لتركيز الأراضي الزراعية، عُقد في تاريخ 10/2/1961، الأرشيف الاجتماعي الفلسطيني، مؤسسة الدراسات الفلسطينية.
المصدر: عرب 48