حوار مع أباهر السقا | المقاومة في غزة: قراءة سوسيو
في قراءة سوسيو – تاريخية للمقاومة في غزة، يشير الباحث الاجتماعي أباهر السقا إلى العمق التاريخي لاقتران غزة بالمقاومة وكيف أضحت كلمة “المقاومة” مرادفة لكلمة غزة، ويورد في دراسة نشرتها مجلة الدراسات الفلسطينية كيف أن مدينة غزة استعصت على الإسكندر الأكبر قبل الاستيلاء عليها في سنة 332 قبل الميلاد، بعد حصار دام أربعة أشهر وكيف حاصرها الرومان عاما كاملا، قبل أن يحتلوها ويخرّبوها في سنة 96 قبل الميلاد.
تغطية متواصلة على قناة موقع “عرب 48” في “تليغرام”
ويشير أيضا إلى مقاومة أهل غزة للصليبيين في سنة 1100 قبل أن يحرقوها ويخرّبوها في سنة 1112، ويمر على الاحتلال الفرنسي لغزة سنة 1798، وكيف أدى الطلبة الأزهريون الغزيون دورا في التخطيط لقتل الجنرال جان بابتيست كليبير قائد الحملة الفرنسية في مصر بمساعدة الثائر سليمان الحلبي الذي جلب الخنجر من غزة.
وفي سنة 1516 استعصت المدينة على العثمانيين وتعرّض سكانها لمجزرة راح ضحيتها الآلاف منهم، وعندما قرر الاستعمار البريطاني الذي كان قد احتل مصر في سنة 1888، احتلال فلسطين عبر احتلال لواء غزة، كما يورد السقا، فوجئ بمقاومة شرسة خاضت فيها القوات البريطانية ثلاث معارك ضارية سقط فيها أكثر من عشرة آلاف جندي من صفوفها.
ولم تتوقف مقاومة غزة للاستعمار البريطاني والهجرة الصهيونية أسوة بمدن وقرى فلسطين الأخرى طيلة فترة مكوثه في فلسطين، ومع بداية نكبة 1948، وصل إلى مدينة غزة ما يقارب 200 ألفا من اللاجئين والمهجرين الفلسطينيين جرّاء عمليات التطهير العرقي من نحو 49 بلدة وقرية في جنوب فلسطين والساحل، كما يقول الباحث، لتبدأ غزة فصلا جديدا لم ينته من المقاومة ضد الكيان الاستعماري الإسرائيلي.
وبهذا الصدد، حاور “عرب 48” أستاذ علم الاجتماع في جامعة بيرزيت، أباهر السقا، لإلقاء المزيد من الضوء حول خصوصية غزة وموقعها المتميز في تاريخ النضال الفلسطيني.
“عرب 48”: غزة شكلت في حاضرنا وذاكرتنا الجمعية نموذجا للمقاومة والصمود واستعراض التاريخ الاجتماعي للمدينة والتوقف عند محطاته البارزة الذي قمت به في دراستك، لا شك أنه يسوغ هذا الاعتقاد ويعززه؟
السقا: في قراءتي حاولت تتبع وتقديم استعراض تاريخي للمقاومة في غزة، إن كان في ما تقدمه لنا كتب التاريخ عن مقاومة غزة قبل الميلاد مرورا بفترة فترة الحكم الإسلامي، ثم الفترة الصليبية والحضور الفرنسي في غزة وصولا إلى العثمانيين لاحقا.
وخلال تلك الفترات أشرت إلى رابط مشترك وهو مقاومة المدينة، رغم أن السكان يتبدلوا بالتبدل التاريخي، لكن المدينة تميزت دائما بمقاومة شرسة وهذا المشهد تكرر في التاريخ الحديث مع البريطانيين.
“عرب 48”: أشرت إلى مقاومة غزة الباسلة للاحتلال البريطاني لفلسطين بصفتها بوابتها الجنوبية، وصدها لأكثر من هجوم واضطرارهم للالتفاف عليها لدخول فلسطين؟
السقا: لقد شن الجيش البريطاني ثلاث هجمات قبل أن يتمكن من اختراق مقاومة غزة ويدخل إلى فلسطين، وخسر في الهجوم الأول الذي وقع في آذار/ مارس 1917 أكثر من 4000 جندي وارتد في أعقابه ثم عاود الكرة في نيسان/ أبريل من نفس العام فخسر في الهجوم الثاني 6500 جندي، حيث أظهر العثمانيون والغزيون في هذه المعارك قدرتهم على الصمود بسبب الخنادق التي حفروها، والتي لولاها لما استطاعوا الصمود أمام حجم النيران وكثرة عدد الجنود البريطانيين، ثم أتت المعركة الثالثة التي قام بها الجنرال إدموند أللنبي بخطة للالتفاف على المدينة من خاصرتها الضعيفة، أي من جهة بئر السبع، الأمر الذي ساعد البريطانيين على دخول المدينة وسقوطها تحت إمرة الجنرال أللنبي الذي قاد جيشا مكونا من 88 ألف جندي من فرق متعددة، وقد استُخدمت فيها جميع أنواع الأسلحة بما فيها الغازات السامة.
“عرب 48”: يتبين أن الأنفاق لعبت عبر التاريخ دورا أساسيا في صمود غزة؟
السقا: في كل العناصر المشتركة لعبت الأنفاق دورا في مقاومة الغزيين، في فترة الإسكندر الأكبر لعبت الأنفاق دورا كبيرا ولم يتمكن من دخول المدينة إلا بعد أن هدم أنفاقها، وهذا تكرر في العصر الحديث حيث قام الغزيون والعثمانيون في حفر الخنادق والأنفاق لمقاومة تفوق الطيران البريطاني.
هذا نمط مختلف عن مناطق أخرى في فلسطين مثل الضفة الغربية بسبب الطوبوغرافية ونوعية التربة، ومن الجدير بالذكر أن الحفر الحديث للأنفاق في قطاع غزة بدأ بعد اتفاقية “كامب ديفيد”، حيث أخذت العائلات الفلسطينية بحفرها كوسيلة تواصل بين ضفتي مدينة رفح التي قسمتها الحدود إلى شطرين، ثم تطورت مع ميلاد المقاومة الإسلامية في غزة إلى الأنفاق التي نعرفها اليوم والتي تشكل الهاجس الأساسي لجيش الاحتلال الإسرائيلي.
“عرب 48”: أشرت إلى أن غزة احتلت بشكل مبكر دورا أساسيا في المقاومة لدولة الاحتلال الإسرائيلي منذ إقامتها عام 1948؟
السقا: حضور غزة في المقاومة الفلسطينية شهد انتقالا تاريخيا بعد النكبة، لأنها شهدت استيعاب 200 ألف لاجئ فلسطيني هجروا عام 1948 من يافا واللد والرملة ومناطق النقب وتواصل نزوح اللاجئين بعد تهجير إسرائيل عام 1949 لسكان أسدود والمجدل، وهذا خلق ظاهرة ما يسميه الإسرائيليون بـ”المتسللين” الذين يقصد بهم سكان المدن والقرى الذين طردوا منها وكانوا يحاولون العودة إلى ديارهم، إما للاستقرار أو لجلب محصول أو أغراض من بيوتهم وحقولهم.
“عرب 48”: ما عرف بالتسلل كان شكل المقاومة الأساسي بعد الـ48؟
السقا: ظاهرة “المتسللين” عملت على كسر حاجز الخوف ومهّدت لولادة ظاهرة “الفدائيين المشاغبين” قبل أن يتم تأطيرهم لاحقا، وقد كانت غزة ومنذ اللحظات الأولى للنزوح الفلسطيني بؤرة للتأجج الوطني، فهؤلاء النازحون الذين وفدوا إليها يحملون في عيونهم وقلوبهم صور مدنهم وقراهم ومزارعهم ومدارسهم وظلت تحفّزهم على التسلل إليها والعودة إلى مرابعهم.
وبدءا من سنة 1953، نظّم الغزّيون مجموعات فدائية صغيرة شرعت في عمليات التسلل إلى أراضي البلدات التي اقتُلعوا منها في هِرْبْيا ودِمْرة وبَرْبَرة وغيرها، وردت إسرائيل بعنف كبير إذ قام أرئيل شارون بقتل أكثر من 50 فلسطينيا في مخيم البريج وسط قطاع غزة، وإثر عملية قتل مستوطن في مستعمرة على “حدود الهدنة”، قام الجيش الإسرائيلي بمهاجمة معسكر مصري قرب محطة القطار ما أدى إلى مقتل 17 جنديا، تلا ذلك نصب كمين لدورية نجدة مصرية قتل فيه عدد آخر ليصل العدد إلى 38 قتيلا مصريا وجرح كثيرين.
وبعد عملية قتل الجنود المصريين، اتُّخذ قرار مصري بضرورة تنظيم العمل الفدائي وتسليح السكان. وأدى الشهيد مصطفى حافظ دورا أساسيا في تنظيم كتيبة حملت اسمه للقيام بعمليات نوعية ضد جيش الاحتلال الإسرائيلي خسر خلالها هذا الأخير مجموعة كبيرة من القتلى في عمليات الفدائيين، وهو ما سرّع في حدوث العدوان الثلاثي في سنة 1956.
“عرب 48”: تسلسل تلك الأحداث جعلت غزة ربما بعكس غيرها من مناطق فلسطين، لديها جاهزية لاستقبال واستيعاب الكفاح المسلح الفلسطيني الذي انطلق رسميا في 1965 ونقش على رايته تحرير فلسطين؟
السقا: أنا أقول إن الأمر ليس ثقافيا، بل هناك سياق نشأ في قطاع غزة ولم ينشأ في الضفة الغربية ففي الفترة الواقعة بين 1948-1967 نشأت في غزة مجموعات مسلحة وقوات جيش التحرير وذلك ساهم في خلق جيل جديد.
ويمكن تأويل خصوصية المقاومة في قطاع غزة عبر سياقها الاجتماعي والسياسي الخاص. فمع بداية النكبة، تشكلت في غزة ظروفا لها علاقة بولادة الكيانية الفلسطينية المبتورة مع تشكل “حكومة عموم فلسطين” وتقلّص الحضور الفلسطيني السياسي إلى قطاع غزة فقط. فالفلسطينيون في المستعمرة الأولى (فلسطين 1948) أُخضعوا لحكم عسكري إسرائيلي استمر من سنة 1948 إلى سنة 1968، وتخللته أعمال مقاومة على الصعد كافة. وفي المستعمرة الثانية (فلسطين 1967)، عاش الفلسطينيون في الضفة الغربية تحت الحكم الأردني ظروفا سياسية مغايرة شهدت ولادة مقاومة مسلحة، لكنها بقيت على نطاق محدود مقارنة بقطاع غزة.
وعلى العكس من ذلك، خضع قطاع غزة للوصاية المصرية وأدّت أحداث سنة 1956 إلى تبلور تشكيلات عسكرية قتالية انخرطت في النضال المصري والعروبي ضد القوات البريطانية، والذي شارك فيه العديد من أبناء قطاع غزة. وكانت هذه التجارب دافعا إلى إقامة تشكيلات عسكرية وسياسية كانت نواة لتأسيس حركات المقاومة المسلحة.
“عرب 48”: أكدت على خاصية ميّزت مقاومة غزة وهي دور المدينة الرئيسي فيها إلى جانب دور المخيمات أيضا؟
السقا: بعكس التحليل التقليدي الذي يرى أن جيوب الفقر والفقراء عموما هم مادة الثورة، أنا أحاول أن أقول إن هذا يصح جزئيا في غزة، ورغم أن المخيمات لعبت دورا أساسيا في العمل المسلح ولكن قبل أن تبدأ بلعب هذا الدور سبقها أبناء عائلات مركزية في المدينة، وبعكس ظاهرة عبد القادر الحسيني ابن القدس الذي انحدر من عائلة عريقة لكن النواة المركزية للمقاتلين الذين التفوا حوله كانوا من لفتا ومن مناطق قروية مختلفة، فإن الذين التفوا حول القائد الغزي زكريا الحسيني التي نشأت بعد احتلال سنة 1967، التي تشكلت من بقايا “جيش التحرير الفلسطيني”، وبقايا “جيش القوات الشعبية” و”قوات التحرير الشعبي”، كانوا من أبناء البلد من الشجاعية وحارة الزيتون والدرج وغيرها من أحياء المدينة وهو ما لعب دورا أساسيا في انتشار المقاومة بين العائلات والأحياء في غزة.
الحاضنة الشعبية للمقاومة هي حاضنة مدنية وليس سكان المخيمات فقط، جميع تلك الأحياء كانت تمثل القاعدة الأساسية لزياد الحسيني وخلاياه المسلحة والناس دفعت ثمنا كبيرا، حيث هدمت بيوت واقتلعت بيارات، وقد ترادفت ظاهرة زكريا الحسيني ابن المدينة مع ظاهرة جيفارا غزة ابن المخيم التي نشأت في المخيمات وأرقت هي الأخرى قوات الاحتلال.
“عرب 48”: أشرت إلى مخططات مبكرة لتهجير الفلسطينيين من القطاع في الخمسينيات والستينيات أيضا؟
السقا: مشاريع التوطين بدأ تداولها مبكرا فعلا حيث تم طرح مشروع نقل 12 ألف أسرة إلى شمال سيناء، ثم طرح موشيه ألون مشروعا لنقل أعداد من اللاجئين من قطاع غزة إلى ثلاث مناطق في منطقة العريش المصرية في مرحلة أولى تضم 50 ألفا. وبعد ضغوطات مورست على مصر في سنة 1953 قبلت مصر مبدئيا، الأمر الذي تسبب باندلاع تظاهرات عارمة واحتجاجات قادها الشيوعيون والإخوانيون معا ضد مشروع التوطين، وبرز الشاعر معين بسيسو في قيادة هذه المظاهرات حيث اعتقلته المخابرات المصرية وكتب حينها ديوان “دفاتر غزة” في السجن وساءت العلاقة بين الإدارة المصرية والفلسطينيين إلى أن تم إسقاط هذا المشروع، بعدها قام شارون بنقل سكان من المخيمات إلى منطقة الشيخ رضوان.
“عرب 48”: معروف أن غزة، كما يقولون في لغتنا الشعبية، دوخت رابين وشارون حيث تمنى الأول أن تغرق في البحر وفكك الثاني مستوطناتها في إطار ما عرف بخطة فك الارتباط؟
السقا: معلوم أن شرارة الانتفاضة الأولى انطلقت من غزة وكان رابين يشغل منصب وزير الأمن حينها، وهو صاحب سياسة “تكسير العظام” وصاحب مقولة “لتغرق غزة في البحر” التي تعبر عن عجزه في القضاء على مقاومتها، معروف أن شارون هو من قام بتوسيع شوارع المخيمات في 1970-1971 عبر سياسة هدم، لتتمكن الدبابات من دخولها بعد أن كان جنوده يتكبدون خسائر كبيرة في الأرواح بدخولها راجلين، وهذا أدى إلى طرد السكان ونقل جزء منهم إلى منطقة الشيخ رضوان التي تحولت لاحقا إلى حي سكني في محاولة للقضاء على المقاومة.
وبعد اتفاق “أوسلو”، تصاعدت المقاومة الفلسطينية ولجأت إلى أساليب كفاحية جديدة مثل إطلاق الصواريخ المحلية وقذائف الهاون، فقرر شارون عام 2005 إعادة انتشار قواته وسحبها من قطاع غزة وتفكيك المستعمرات، وكان السبب الرئيسي في هذا الأمر هو عدم قدرة الجيش الإسرائيلي على حماية ما يقارب 7500 مستوطن كانوا يحتلون 45% من مساحة القطاع، مع أنه كان يسهر على حمايتهم 15 ألف جندي بسبب مقاومة غزة.
المصدر: عرب 48