حوار مع د. أسامة طنوس
في ظل استمرار جيش الاحتلال حصاره وهجماته المكثفة، وصف المدير العام لمنظمة الصحة العالمية، تيدروس غيبريسوس، الوضع في مستشفى كمال عدوان شمال قطاع غزة بأنه كارثي. وأدى القصف الإسرائيلي للمستشفى إلى إصابة العشرات، من بينهم مدير المستشفى، الدكتور حسام أبو صفية، وعدد من الأطباء.
تغطية متواصلة على قناة موقع “عرب 48” في “تليغرام”
وأصدرت وزارة الصحة في غزة، مطلع الأسبوع، نداء استغاثة وصفته بأنه “قد يكون الأخير”، مؤكدة أن “قوات الجيش الإسرائيلي تواصل قصف وتدمير مستشفى كمال عدوان، مما تسبب بإصابات عديدة بين الطواقم الطبية والمرضى”. وأشارت الوزارة إلى أن الطواقم عاجزة عن التحرك بين أقسام المستشفى لإنقاذ المصابين، معتبرة أن هناك قرارًا باستهداف الكوادر الطبية التي رفضت إخلاء المستشفى.
ويعد هذا الاعتداء على مستشفى كمال عدوان جزءًا من سياسة استهداف القطاع الصحي في غزة، التي ترافق حرب الإبادة الإسرائيلية المتواصلة. ووفق تقرير صادر عن مركز الميزان لحقوق الإنسان نهاية تشرين الثاني/ أكتوبر الماضي، فقد تم تدمير 162 منشأة صحية، و132 سيارة إسعاف، وتعطيل 34 مستشفى و80 مركزًا صحيًا في أنحاء القطاع.
كما ذكر التقرير أن قوات الاحتلال قتلت 1,047 من أفراد الطواقم الطبية، بينهم أطباء وممرضون ومسعفون وفنيون وإداريون، بالإضافة إلى 85 من أفراد الدفاع المدني، وأصابت المئات منهم بجراح. كما تم اعتقال 310 من الكوادر الطبية خلال الحرب، مع الإشارة إلى وفاة ثلاثة أفراد من الطواقم الطبية تحت التعذيب في أقبية التحقيق.
لم تقتصر الاعتداءات الإسرائيلية على القطاع الصحي في غزة، بل امتدت إلى الضفة الغربية. وفي هذا السياق، تناولت “ورقة سياسات” أعدها د. أسامة طنوس ونشرتها “مؤسسة الدراسات الفلسطينية”، الاعتداءات على القطاع الصحي في الضفة الغربية بين 7 تشرين الأول/ أكتوبر 2023 و30 تموز/ يوليو 2024. وأوضحت الورقة وقوع 527 اعتداءً ذهب ضحيتها 23 شخصًا، وأصيب خلالها 100 آخرون، إضافة إلى تضرر 365 سيارة إسعاف، و54 مرفقًا صحيًا، و20 عيادة متنقلة.
كما أشارت الورقة إلى عرقلة وصول سيارات الإسعاف، واستخدام القوة، واعتقال العاملين في القطاع الصحي، وعمليات تفتيش مسلحة. ولفتت إلى أن هذه الاعتداءات ليست حوادث عشوائية أو استثنائية، بل هي منتظمة ويومية وقاتلة، وتركزت غالبًا في شمالي الضفة الغربية، ولا سيما في طولكرم، نابلس، وجنين.
وتشير الورقة إلى مداهمة قوة كوماندو إسرائيلية مستشفى ابن سينا في جنين وقتل ثلاثة من النزلاء والزوار، إضافة إلى اغتيال الدكتور أسيد جبّارين، وهو جراح في الـ51 من العمر، أثناء سيره نحو مقر عمله في مستشفى جنين الحكومي. كما تناولت الورقة محاصرة مستشفى جنين الحكومي، ومهاجمة سيارات الإسعاف وعرقلة عملها وعمل المنظمات الأهلية الدولية مثل “أطباء بلا حدود”. هذا بالإضافة إلى مداهمة الجيش الإسرائيلي مستشفى حلحول الحكومي واختطاف أحد المرضى، إلى جانب تعرض أفراد الكوادر الطبية والموظفين الطبيين لهجمات ومضايقات دورية، وعرقلة وصول سيارات الإسعاف لنقل الجرحى الذين يسقطون في مواجهات مع الجيش الإسرائيلي.
وبهذا الصدد، حاور “عرب 48” د. أسامة طنوس لإلقاء المزيد من الضوء حول الموضوع.
“عرب 48”: إسرائيل نجحت في سحب العديد من الممارسات التي وصلت ذروتها في غزة، مثل الاعتداء على المستشفيات والمرافق والطواقم الطبية، إلى الضفة الغربية، وهو ما وثقته في ورقتك التي نشرت مؤخرًا؟
د. طنوس: دعنا نشير إلى أن مسألة الاعتداءات الإسرائيلية على المرافق والطواقم الصحية لم تبدأ في الحرب على غزة، بل هي أسلوب استخدمته إسرائيل وما زالت في كل عدواناتها السابقة واللاحقة، سواء في الضفة الغربية أو جنوب لبنان أو قطاع غزة. وخلال العدوان الأخير على لبنان، رأينا قصفًا استهدف مستشفيات ومرافق وطواقم طبية.
ويبدو أن هذا النهج موجود في العقلية الحربية الإسرائيلية ويتم تحت الادعاءات ذاتها، مثل وجود مسلحين أو استخدام هذه المرافق لأغراض عسكرية. بمعنى أن الاعتداءات على المرافق والطواقم الصحية في الضفة الغربية أيضًا ليست ظاهرة جديدة، وإن تعاظمت مؤخرًا واتخذت أساليب أكثر عنفًا في ظل الحرب الإسرائيلية على غزة.
وجدير بالذكر أن الضفة الغربية ليست خارج دائرة الحرب الإسرائيلية، وإن كان ما نراه في غزة وتيرة مختلفة عن كل ما شهدناه سابقًا. فهي حرب إبادة لا تستثني من القتل والتدمير أي شيء من المحرمات، مثل المستشفيات والمدارس والجامعات والمدنيين من أطفال ونساء ورجال.
في الضفة، هناك حرب بوتيرة بطيئة كانت مستمرة طوال الوقت ولا تزال، تشمل القتل، التفجير، هدم البيوت، إقامة الحواجز، وغيرها. إنها حرب مزمنة ويومية، لكنها تسخن أحيانًا كما يحدث في الآونة الأخيرة في مخيمات ومدن شمال الضفة، خصوصًا جنين، طولكرم، نابلس، وغيرها.
“عرب 48”: هل هي حالة روتينية مرافقة للاحتلال ونابعة منه؟
د. طنوس: هي طبيعة الاستعمار الاستيطاني. فمنذ عام 1948، هناك حرب مفتوحة تشمل التهجير، الحكم العسكري، مصادرة الأراضي، هدم البيوت، والاستيطان. وهذه الأساليب بدأت في مناطق 48 وانتقلت إلى الضفة الغربية وقطاع غزة بعد احتلالهما عام 1967.
ما يميز الحرب الأخيرة على غزة هو كسر إسرائيل لكل الحواجز، وانتهاك كل المحرمات، واستباحة كل شيء. وتستخدم إسرائيل في هجماتها المتعاقبة على مخيمات جنين وطولكرم وغيرها نفس الأنماط التي تتبعها في غزة، بما في ذلك الاعتداء على المرافق والطواقم الطبية.
وكما هو معلوم، فإن الواقع السياسي والقانوني الذي تشكل في غزة منذ عام 2005، بعد خطة فك الارتباط وما تبعها من حصار، أدى إلى اختلاف أنماط وأساليب الاعتداءات على القطاع الصحي مقارنة بالضفة الغربية. ففي غزة، اعتمدت إسرائيل أساليب حصار هذا القطاع عبر منع دخول الأدوية والمعدات الطبية، وإعاقة خروج الأطباء للتخصص في الخارج، مما ساهم في إضعاف القطاع الصحي.
وخلال الاعتداءات العسكرية المتكررة على غزة، قامت إسرائيل بقصف عيادات ومستشفيات وطواقم طبية وسيارات إسعاف. بينما في الضفة الغربية، تميزت الاعتداءات بالاحتكاك المباشر مع جنود الاحتلال والمستوطنين، سواء على الحواجز أو خلال الاقتحامات، وهو ما لم يكن موجودًا في غزة. لذلك، كانت الاعتداءات على القطاع الصحي في الضفة مختلفة، حيث شملت اقتحامات المستشفيات وتعطيل سيارات الإسعاف ومنعها من الوصول إلى الجرحى، وأحيانًا الاعتداء على طواقمها، مما أدى إلى وقوع إصابات وشهداء بين صفوفها.
“عرب 48”: إذا كان احتلال غزة مجددًا قد نقل الأساليب المستخدمة في الضفة إلى القطاع، فهل أجواء الحرب نقلت الأساليب المستخدمة في القطاع إلى الضفة؟
د. طنوس: ما نراه في غزة مؤخرًا هو دمج بين الأسلوبين. فلم يعد الأمر يقتصر على القصف الجوي فقط، بل أصبح يترافق مع اجتياح المستشفيات. بدأنا نشهد الأساليب التي كنا نراها في الضفة الغربية تُطبق في غزة، والأساليب التي كانت تُستخدم في غزة تمتد إلى الضفة أيضًا.
الحرب دفعت بالجيش الإسرائيلي إلى داخل غزة، فشهدنا إطلاق نار على سيارات الإسعاف ومحاصرة المستشفيات واقتحامها، كما حدث في مجمع الشفاء في بداية الحرب، وفي سائر المستشفيات وصولًا إلى ما يجري حاليًا في مستشفى كمال عدوان.
بالمقابل، ازدادت وتيرة الاعتداءات على المستشفيات والطواقم الطبية في الضفة الغربية، بالتزامن مع تغير أساليب وأدوات الحرب، مثل القصف بالطائرات المسيرة وحتى بالطائرات الحربية.
“عرب 48”: هل تسعى إسرائيل إلى تطبيق نفس الأساليب المستخدمة في غزة على الضفة الغربية، لاستباحة القطاع الصحي كما فعلت في غزة؟
د. طنوس: لاحظ أنه عندما أرادت إسرائيل اجتياح مجمع الشفاء الطبي، زعمت وجود مسلحين وأنفاق ومخازن أسلحة تحت المستشفى، وحاولت كثيرًا تبرير الاعتداء عليه. أما اليوم، وبعد أكثر من عام على الحرب، أصبحت عمليات اجتياح المستشفيات والاعتداء على سيارات الإسعاف والكوادر الطبية أمرًا عاديًا وطبيعيًا، لا يحتاج إلى تبرير، ويحدث يوميًا دون أن يثير أي احتجاج.
لقد نجحت إسرائيل في تحويل استباحة القطاع الصحي إلى جزء من طبيعة الحرب وترسانتها، رغم أن قوانين الحرب توفر حماية خاصة للبنى المدنية والقطاع الصحي تحديدًا، لأن الحاجة للمستشفيات والمرافق والطواقم الصحية تبرز أكثر في زمن الحرب. ولهذا السبب، يفترض بالقوى المتحاربة أن توفر الحماية للطواقم والمرافق الطبية، لا أن تقصفها.
“عرب 48”: ما هي أهمية التوثيق الفلسطيني لهذه الانتهاكات والاعتداءات؟
د. طنوس: عمليًا، تقوم منظمة الصحة العالمية بتوثيق هذه الاعتداءات في إطار اهتمامها برصد الانتهاكات ضد القطاع الصحي في مختلف أنحاء العالم. لكنها، حفاظًا على حماية تلك المرافق، لا تذكر اسم المنطقة أو المستشفى. في المقابل، يجب أن يكون لدينا اهتمام خاص بتوثيق هذه الاعتداءات بالأسماء والتفاصيل.
وإذا كنا غير قادرين على حماية المستشفيات والطواقم الطبية حاليًا، فيجب أن نعمل على الأقل على توثيق هذه الانتهاكات، عسى أن نتمكن مستقبلًا من تحقيق المحاسبة والعدل.
“عرب 48”: برأيك، ما هي “الفلسفة” الإسرائيلية من وراء استهداف المستشفيات والمرافق والطواقم الطبية؟
د. طنوس: هذا الاستهداف هو جزء من تدمير البنية التحتية للحياة. في غزة، نرى استهدافًا إسرائيليًا لكل مظاهر الحياة، حيث يتم قصف المخابز، مصادر المياه، شبكات الصرف الصحي، وغيرها من مقومات الحياة.
وعندما لا تتوفر الرعاية الصحية، فإن الناس لن يموتوا فقط بسبب الحرب، بل من أمراض عادية مثل الالتهاب الرئوي، الإسهال، أو نزلات البرد، بالإضافة إلى الموت جوعًا.
إسرائيل تتحدث صراحة عن رغبتها في تهجير السكان، وكلما جعلت الحياة أصعب، زادت احتمالات الهجرة. كما أن الطواقم الطبية نفسها ستخشى على حياتها وتفكر في المغادرة، مما يؤدي إلى تفريغ تلك المناطق من سكانها.
د. أسامة طنوس: طبيب أطفال وباحث في الصحة الجماهيرية وهو مدير مشارك في برنامج فلسطين للصحة وحقوق الإنسان في جامعة هارفارد وبيرزيت.
المصدر: عرب 48