حوار مع عرين هواري | نحن وجنين وعودة المركز الاقتصادي الى محيطه
هواري: الحاجز تستخدمه إسرائيل كمصفاة رقابة ووسيلة عقابية أيضا، فهي تسمح وتمنع حسب مقتضيات سياساتها الاقتصادية ولا تتردد في معاقبة جنين ومخيمها بعد كل عملية مقاومة بإغلاق الحاجز لمدة يوم أو يومين.
في مداخلتها التي تمحورت حول جنين خلال اليوم الدراسي الذي عقده مركز “مدى الكرمل”، مؤخرا، تحت عنوان “العلاقات الاقتصادية بين الفلسطينيين على طرفي الخط الأخضر”، تناولت د. عرين هواري مسألة استقطاب أسواق جنين لفلسطينيي الـ48 بشكل لافت للنظر، مشيرة إلى حوالي 24 ألف شخص من فلسطينيي الـ48 يدخلون جنين في نهاية كل أسبوع فقط، حسب التقديرات الإسرائيلية، وهو ما يدر ما بين 2-3 مليون دولار على اقتصادها، بينما تقدر الغرفة التجارية والصناعية في جنين أن فلسطينيي الـ48 يشكلون ما يقارب الـ85% من القوة الشرائية في جنين، والتي تعادل ما قيمته أكثر من 30 مليون دولار سنويا.
وتفيد هواري بأن جنين التي كانت قد فقدت أهميتها التجارية بعد نكبة 1948 بعد أن فصلت عن المناطق الشمالية من فلسطين التاريخية، قد استعادت هذه المكانة بعد نكسة عام 1967 واحتلال إسرائيل للضفة الغربية، وتجدد التواصل مع الفلسطينيين من المدن والقرى الشمالية من فلسطين التاريخية، حيث عادت أسواقها يوميا إلى استقبال آلاف المتسوقين الفلسطينيين من مناطق الـ48، وعادت الحركة التجارية تدب في أسواق المدينة من جديد.
يحدث ذلك برغم تراجع هذا الازدهار عقب الانتفاضة الثانية عام 2000 وبناء الجدار الفاصل سنة 2004، الذي أتاح لإسرائيل التحكم بشكل مطلق بالخارجين والداخلين إلى مناطق الـ67 عن طريق الحواجز في اقتصاد الضفة الغربية عموما ومحافظة جنين بشكل خاص، عن طريق إغلاق المعابر ومنع الفلسطينيين من مناطق الـ48 دخول مناطق 67، وهو أسلوب طالما استخدمته إسرائيل كعقاب بعد تنفيذ عمليات مسلحة بادر إليها الفلسطينيين من سكان منطقة جنين، حيث برزت خلال الانتفاضة الثانية هي ومخيمها كرمز للصمود الفلسطيني وارتبط اسمها مؤخرا بمفهوم المقاومة المتجددة.
وتأخذ الباحثة جنين كنموذج لقراءة العلاقات الاقتصادية وآثارها بين جزئي الشعب الفلسطيني اللذين انفصلا قسرا بعد نكبة 1948 وتوحدا قسرا بعد نكسة 1967، الفلسطينيين داخل الخط الأخضر والفلسطينيين في الضفة الغربية. وتسعى إلى قراءة المظاهر الاجتماعيّة، والثقافيّة والسياسيّة التي تنتج عن أو تتأثّر من العلاقة الاقتصادية.
وبهذا الصدد، حاور “عرب 48” الباحثة في مركز “مدى الكرمل”، د. عرين هواري، حول موضوع الدراسة والعلاقات الاقتصادية الاجتماعية بين شطري الخط الأخضر وما تمثله جنين كنموذج بارز لها.
“عرب 48”: العلاقات الاقتصادية بين طرفي الخط الأخضر، كانت سابقة على أي علاقات أخرى ثقافية سياسية أو غيرها، وقد شكلت العوامل الجغرافية والديمغرافية والاجتماعية عمادها الأساس وعززتها الحاجة المتبادلة؟
هواري: حقيقة إن العلاقة بين طرفي الخط الأخضر ببعدها الاقتصادي – الاجتماعي هي علاقة فطرية بين جغرافية سياسية مزقتها نكبة 1948 التي نتج عنها إقامة دولة إسرائيل على غالبية الأرض الفلسطينية، وأعادت توحيدها نكسة 1967 التي أسفرت عن احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة وأراضي عربية أخرى وإعادة توحيد فلسطين تحت الهيمنة الاستعمارية الإسرائيلية.
لقد أدت النكبة إلى تفكيك قسري للوحدة الجغرافية والسياسية والاقتصادية بين المناطق الفلسطينية، مناطق الـ48 والضفة الغربية وقطاع غزة التي وقعت تحت سيطرة كيانات مختلفة، ولذلك فإنه مع استعادة الوحدة الجغرافية والسياسية، حتى لو كانت تحت الاحتلال، عادت شرايين الحياة الاقتصادية والاجتماعية تنبض في أجزاء الجسد الواحد بشكل فطري وتلقائي، وعادت الناس من القرى والتجمعات من داخل الخط الأخضر التي شكلت بالنسبة لها جنين، على سبيل المثال، مركزا تجاريا قبل الـ48 إلى الاستفادة من هذا المركز ووجدته بالمقابل بانتظارها يعيد احتضانها بما تمليه المصلحة الاقتصادية المتبادلة وما تفيض به العلاقة التاريخية الاجتماعية والثقافية والعاطفية لأبناء شعب واحد، وذلك رغم قيود وحواجز الاحتلال التي تحاول لجم هذه العلاقة وإبقائها تحت هيمنته.
ورغم أن العلاقات الاقتصادية – الاجتماعية كانت السباقة فإنها لم تأخذ حقها من البحث الأكاديمي الذي انشغل أكثر بجوانب وأبعاد العلاقة السياسية والثقافية وغيرها ولم يلتفت كثيرا إلى هذا الجانب الذي يشكل بحق أساسا لإعادة ترميم البنيان الفلسطيني مستقبلا.
ويعتبر المشروع الذي يشترك فيه “مدى الكرمل” مع معهد أبحاث السياسات الاقتصادية الفلسطيني و”المركز العربي” للأبحاث ودراسة السياسات، خطوة مباركة لإعادة تسليط الضوء على التعاون والتكامل الاقتصادي بين طرفي الخط الأخضر بصفته حجر زاوية في العلاقات الوطنية وفي وحدة الشعب الفلسطيني.
“عرب 48”: تحدثت خلال مداخلتك التي قدمتها في المؤتمر عن جنين بحب كبير، يعكس عاطفة الناس الذين استطلعت آرائهم في البحث من الداخل ومن جنين ذاتها، والذين يروا بهذه العلاقة أكثر من علاقة اقتصادية مجردة بين مستهلكين وتجار، بل علاقة حميمية فريدة تعكس مودة ومحبة من أهلنا لجنين ومنها لأهلنا؟
هواري: الناس لا ينظرون إلى العلاقة مع جنين مجرد تسوق، بل هي أعمق من ذلك حتى أن الذهاب إلى جنين تحول لدى الكثيرين إلى عادة أسبوعية، ربما بغض النظر عن الاحتياجات حيث يذهبون يتمشون في أسواقها، يقضون بعض الحاجات ويأكلون في مطاعمها ويحتسون القهوة ويرجعون.
صحيح أن التوفير والأسعار الرخيصة نسبة إلى الداخل هو عامل أساسي لدى أرباب العائلات محدودي ومتوسطي الدخل بشكل خاص، الذين يستطيعون أيضا السماح لأنفسهم بالدخول إلى بعض المطاعم مع أفراد العائلة وتناول وجبة بسعر معقول لا يصل في بعض الأحيان إلى نصف ما قد يدفعونه لو تجرأوا ودخلوا مطعما في الناصرة أو أم الفحم.
لكن بعد البحث والتحليل والتمحيص وجدنا أن جنين تغطي نقص المدينة الفلسطينية المفقودة لدى أهالي الـ48، ففي حين تغطي حيفا ورام الله الجانب الثقافي والسياسي تقوم جنين بتغطية الجانب الاقتصادي، وكما هو معروف فإن المدينة تاريخيا هي مركز اقتصادي.
وإن كان لدينا تل أبيب وحيفا وغيرهما، لكن جنين تغطي ما لا تغطيه مدينة أخرى، فنحن أغراب في المدينة اليهودية كما أنها أعلى من قدراتنا الشرائية، بالمقابل فإننا نجد في جنين الدفء وحسن الاستقبال والأسعار المعقولة التي لا تثقل على جيوبنا، وخصوصا أن العائلات العربية تقع كما نعلم في أدنى درجات السلم الاجتماعي في إسرائيل حيث يندرج أكثر من 50% منها تحت خط الفقر ولذلك من الطبيعي أن تبحث عن أسعار معقولة لشراء احتياجاتها الاستهلاكية.
كما أن حاجة أسواق جنين التي أنهكها الحصار الاحتلالي تشدك وتجذبك إليها كمتسوق، وتشعرك في ذات الوقت بانك تستعيد كيانك ولغتك العربية وهويتك ومدينتك المفقودة وقدرتك الشرائية، لذلك نجد نفس الحميمية والحب لدى التجار وأصحاب المحلات في جنين تجاه أهالي الـ48.
“عرب 48”: الحاجز هو السوء الوحيد الذي يعيق ويشوش هذه العلاقة اليومية وهو الذي يذكرنا أن العملية تجري تحت الاحتلال والهيمنة الاقتصادية الإسرائيلية على الطرفين؟
هواري: الحاجز تستخدمه إسرائيل كمصفاة رقابة ووسيلة عقابية أيضا، فهي تسمح وتمنع حسب مقتضيات سياساتها الاقتصادية ولا تتردد في معاقبة جنين ومخيمها بعد كل عملية مقاومة بإغلاق الحاجز لمدة يوم أو يومين، للاقتصاص من اقتصاد المدينة.
كذلك فهي تمعن في استخدام الحاجز كوسيلة للتنكيل بالزوار من فلسطينيي الـ48 الذين يضطرون إلى الانتظار في الطوابير لفترات طويلة، إذ يتحول السفر الذي يفترض أن يستغرق من جنين إلى البيت مدة نصف ساعة إلى ساعات في بعض الأحيان.
أما إذا وقع عليك الاختيار العشوائي بتحويلك إلى التفتيش فقد تتعرض لمزيد من التأخير والتنكيل والإهانة من قبل صبية وفتيات وظيفتهم إشعارك بأنك واقع تحت حكم احتلالهم الدائم.
والأكثر إغاظة، ربما، أننا وجدنا عملية تطبيع مع الحاجز لدى المستطلعة آراءهم من فلسطينيي 48، الذين وإن عبر غالبيتهم عن انزعاجهم إلا أنهم تعاملوا مع الموضوع وكأنه “بيروقراطية زائدة” تجد حلها بزيادة أعداد المسالك وأعداد العاملين والجنود وكأن الحاجز الذي يقسم شعبا ووطنا ويمزق شملهما قدرا محتوما.
إسرائيل تمنع كذلك إدخال الكثير من البضائع من الضفة الغربية بادعاءات مختلفة، في حين أن الهدف واضح بعدم منافسة منتجاتها المحلية، وهي تقوم بتحديث تلك القوائم وتلك السياسات حسب الضرورة.
“عرب 48”: أشرت إلى نوع من التقسيم لم تخلقه الجغرافيا ولا التاريخ وإنما نتاج بنية استعمارية، كما وصفتها، كسرت المسار التاريخي وقطعت الجغرافيا لتخلق مجموعتي “عرب إسرائيل” و”أهل الضفة” بكل ما يستتبع ذلك من إشكاليات تخيم على العلاقة التجارية والاجتماعية؟
هواري: لقد برز هذا التنميط للتقسيم المصطنع آنف الذكر لدى الحديث عن مسألة التلاعب بالأسعار من عن قبل بعض التجار وعند الحديث عن نظافة المدينة، إلا أن هذه التوجهات لا تمنع من حقيقة كون الشعور الطاغي لدى فلسطينيي الخط الأخضر هو حبّ المدينة وحبّ زيارتها والتمتّع باستقبال أهلها والانتماء لها ولهم وكذلك الاستعداد الكبير لدعم أهلها اقتصاديا، حتى وإن لم يكن هذا الدعم ينطلق دائما من قراءة سياسية وطنية.
المصدر: عرب 48