حوار مع هبة يزبك | الحاضرة الفلسطينية.. ما بين المدن المهجرة ومدن المهجرين
في دراسة لها بعنوان “ما بين المدن المهجرة ومدن المهجرين” نشرت، مؤخرا، ضمن كتاب “الصهيونية والاستعمار الاستيطاني” الذي صدر حديثا عن مركز مدى الكرمل، تشير د. هبة يزبك إلى المكانة المركزية التي تمتعت بها المدن الفلسطينية في حياة الفلسطينيين قبل النكبة، وأنها شكّلت هدفا مركزيا للتدمير والتطهير العِرقي ضمن الخطة الصهيونية لاستعمار فلسطين، حيث جرى مهاجمتها على نحو منهجي من قِبل العصابات اليهودية بدءا من نيسان/ أبريل عام 1948 في إطار الخطة “د”، قبل إعلان قيام دولة إسرائيل في الرابع عشر من أيار آنذاك.
وتلفت الدراسة إلى حقيقة تهميش المدن من البحث العلمي على مدار عقود، بالتركيز على ريفية وقروية المجتمع الفلسطيني قبل النكبة، علما أن بداية المحاولات لتسليط الضوء على تدمير المدن الفلسطينية بمستوى “الميكرو” كان قد بدأ باكرا، حيث تبرز كما تقول، على سبيل المثال، دراسة وليد الخالدي “سقوط حيفا”، علما أن مثل هذه المحاولات قد بقيت دون تراكُمية بحثية.
ومنذ نشر دراسة الخالدي كُشِف عن مواد أرشيفية واسعة أسهمت في تطوير بعض الدراسات التي تمحورت حول المدن الساحلية والمركزية مثل حيفا ويافا والقدس بالدرجة الأولى، والناصرة والرملة واللد بالدرجة الثانية أما بيسان وطبريا وعكا وبئر السبع، فبقيت طي النسيان والتهميش، كما تشير الدراسة.
ولعل تمكُّن بعض الفلسطينيين من البقاء في مدنهم كان قد أسهم بالتالي في إبقاء هذه المدن على “الخريطة” السياسية والأكاديمية وفي الوعي الجماعي لدى الفلسطينيين (حيفا يافا عكا اللد والرملة..) مقابل المدن التي واجهت تطهيرا عِرقيا شاملا خلال النكبة (بيسان طبرية صفد..) كما تقول الباحثة، هذا إلى جانب الموقع الجغرافي غير المركزي لهذه المدن، واعتبارها مدنا ريفية، على الرغم من حقيقة كونها مراكز إدارية في فترة الانتداب البريطاني.
ما بين “المدن المهجرة ومدن المهجرين” تتحدث د. يزبك عن عملية تهجير منظم للمدن الفلسطينية، بعكس عملية التهجير العشوائي للقرى الفلسطينية، حيث تمت عملية التهجير تلك بإشراف رسمي علني وغير علني للقوات البريطانية، وجرى تهجير المدن الساحلية من بينها يافا وحيفا بواسطة السفن إلى لبنان وغزة وعكا بينما تم تهجير بيسان وصفد وطبرية بواسطة حافلات إلى الناصرة، كما تقول.
وبهذا الصدد، حاور “عرب 48” د. هبة يزبك حول تدمير وتهجير المدن الفلسطينية وتهويدها.
“عرب 48”: يبدو أن المدينة الفلسطينية ظلمت مرتان، وبرغم التغني بيافا وحيفا وبيسان فإن التركيز سياسيا وأكاديميا انصب على خمسمائة ونيف قرية مهجرة؟
يزبك: صحيح، قد يكون تسليط الضوء على الفلاح والقرية الفلسطينية بصفتها الأقرب للأرض التي هي محور الصراع مع الصهيونية قد همش بعض الشيء قضية تهجير المدن، إلا أن الدراسات عن هذا الموضوع مثل دراسة وليد الخالدي التي أشرت إليها، بدأت أيضا بشكل مبكر، ما يشير إلى الوعي لأهمية هذا الموضوع.
وغني عن البيان أن قيادة حركة التحرر الفلسطينية الحديثة التي قادتها منظمة التحرير الفلسطينية كانت من سكان المدن، الشقيري، عرفات، جورج حبش، وديع حداد، صلاح خلف وخليل الوزير وغيرهم، كلهم من سكان المدن الفلسطينية، هذا ناهيك عما احتلته المدن الفلسطينية مثل يافا وحيفا وعكا واللد في التراث الثوري الفلسطيني، القصيدة والأغنية واللوحة والكاريكاتير.
لكن بالمقابل هناك تركيز على القرية الفلسطينية، ربما مرده هو الحنين إلى الصبر والتين والزيتون والأرض بما تحمله من رمزية، وهناك العدد 530 قرية، والمساحة الممتدة على كل أرض فلسطين، إضافة إلى الكم السكاني الذي هو بالتأكيد أكبر من عدد السكان المدن الذين شكلوا وفق دراسة د. منار حسن 30% من سكان فلسطين.
“عرب 48”: أشرت إلى أن تهجير المدن، على عكس تهجير القرى كان تهجيرا منظما وبتعاون وإشراف بريطاني؟
يزبك: صحيح، فقد جرى تهجير المدن الساحلية منها حيفا ويافا بواسطة السفن إلى مدن الساحل اللبناني وبعضهم إلى عكا، وقد جرى إعداد سفن خصيصا لهذه الغاية وجرت عملية التهجير بتعاون بريطاني علني وغير علني، كما جرى تهجير مدن بيسان وطبرية في حافلات أعدت في أيام معينة لهذا الغرض ونقلتهم إلى الناصرة، كمحطة انتقالية أو نهائية.
وهذا ما قصدته بالإشارة إلى “مدن المهجرين” حيث جرى تهجير سكان المدن بشكل منظم إلى مدن أخرى، إن كان ذلك داخل الوطن مثل الناصرة التي هجر إليها سكان طبرية وبيسان بواسطة حافلات كمحطة نهائية أو انتقالية، أو عكا وغزة داخل فلسطين وصور وصيدا اللبنانيتين التي هجر إليها سكان يافا وحيفا.
يشار إلى أن بيسان وطبرية وصفد وبئر السبع لم يبق فيها أي فلسطيني، بعكس حيفا ويافا واللد والرملة وعكا التي جرى تجميع القليل مما تبقى من أهلها في حي معين من أحياء المدينة اطلقوا عليه “الجيتو”، أي أن بعض سكان هذه المدن جرى تهجيرهم داخل مدنهم، وهذا يعني أنه بالإضافة الى المهجرين داخل الوطن الذين سكنوا على مرمى حجر من بيوت قريتهم الأصلية ومنعوا من العودة إليها، هناك أيضا مهجرين داخل مدينتهم أخرجوا من حيهم ومنعوا من العودة إليه بعد أن تم إسكانه بالمهاجرين الجدد.
“عرب 48”: تحدثت عن “الجيتو” الفلسطيني الذي جرى تجميع ما تبقى من أهل المدينة المعنية داخله؟
يزبك: “الجيتو” كما روى الناس الذين قابلتهم لغرض الدراسة هي تسمية أطلقها الجنود الصهاينة أنفسهم على مكان تجميع الفلسطينيين المتبقين في المدينة، وهو عادة أحد الأحياء الذي بقي عامرا وجمع المهجرين من الأحياء الأخرى داخله وجرى إحاطته بالأسلاك الشائكة وحراسته من قبل الجنود ومنع الدخول والخروج منه إلا بإذنهم.
وضعية “الجيتو” تلك استمرت من بضعة أشهر وحتى سنة كاملة بعد احتلال المدن، حيث جرت عملية قهر مضاعف أسكن خلالها المهجرين من أحياء المدينة التي جرى إخلاؤها في حي التجميع داخل بيوت هجر أهلها إلى خارج الوطن أو خارج المدينة.
لاحقا جرى تأجيرهم هذه البيوت التي استولى عليها حارس أملاك الغائبين وقام بنقلها لشركات إسرائيلية، بينما تم الاستيلاء على بيوتهم التي هجروا منها في أحيائهم الأصلية، بادعاء أنها أملاك غائبين.
“عرب 48”: من بقوا في مدنهم عايشوا تجربة مريرة تمثلت أولا بضياع مدينتهم وضياع بيوتهم وتحولهم إلى لاجئين في المدينة اليهودية؟
يزبك: لقد شهدوا بأعينهم خراب مدينتهم وإخراجهم من بيوتهم وإسكانها بالمهاجرين اليهود، ومن ثم تجميعهم في معسكرات اعتقال، ان صح التعبير، هي “الجيتوات” المحاطة بالأسلاك الشائكة التي يحرسها العسكر والجنود.
أما لماذا أقيمت مثل هذه “الجيتوات” فيبدو أنها بهدف إبعاد الفلسطينيين عن عمليات استكمال احتلال المدينة والاستيلاء على مرافقها ومؤسساتها وإحلال المهجرين اليهود وتوطينهم في البيوت العربية التي جرى تهجير أهلها كذلك منع أصحاب هذه البيوت الذين بقوا في المدينة من العودة إلى بيوتهم.
إضافة لذلك، فقد أجبرت العصابات الصهيونية الأهالي على القيام بعمليات لا إنسانية، مثل حرق جثث الفلسطينيين التي تراكمت بعد ارتكاب مجزرة جامع دهمش في اللد، وقد شهد الأهالي الذين قابلتهم على أن الجنود الصهاينة كانوا ينهبون حتى الحلي والمجوهرات الموجودة على أجساد الشهداء الفلسطينيين.
وفي يافا هناك شهادات عن مقبرة جماعية أجبر الأهالي على حفرها ودفن جثث الشهداء فيها في أعقاب المجزرة التي تم ارتكابها.
تجربة سكان المدن خاصة من بقي منهم هي تجربة مغايرة، شكلت استمرارية وجودهم في هذه المدن لاحقا، حيث شهدوا تقويض الثقافة وتهديم المدينة وتوطين المستوطنين في بيوتهم، ناهيك عن استخدامهم لقمع أبناء جلدتهم في عمليات حرق الجثث وحفر القبور الجماعية، كما جرى تشغيلهم في معسكرات عمل بالسخرة..
في اللد مثلا جرى إبقاء حوالي ألف مواطن فلسطيني في المدينة لغرض العمل في السكة الحديدية، حسبما يذكر أحد المؤرخين الإسرائيليين، كما أن تجربة النساء الفلسطينيات في المدن مختلفة أيضا.
عرب 48: لماذا غيبت المدن؟
يزبك: هناك عدة أسباب لذلك أولها أنه في الوعي النوستالجي الرومانسي، فلسطين هي الفلاح، الزراعة، الأرض والقرية وهذا ما وضع القرية والفلاحين في المركز، إضافة إلى أنه بعد النكبة لم يكن تفرغا لموضعة وترتيب الأولويات ولذلك فإن الرواية الفلسطينية كانت تلقائية.
عرب 48: هل كان دور للدعاية الصهيونية التي أرادت إثبات عدم تطور وضع اجتماعي اقتصادي سياسي في فلسطين، لتأكيد مقولتها أرض بلا شعب لشعب بلا أرض؟
يزبك: يجوز أن ذلك واحدا من الأسباب ولكن الفلسطينيين لم يموضعوا مسألة المدن الفلسطينية في المركز لأن عملية بناء الوعي الجمعي والذاكرة التاريخية كانت تلقائية وغير منظمة، ولم يتم في نطاقها إيلاء أهمية خاصة لمركزية المدينة، إضافة إلى أن غالبية الباحثين الفلسطينيين الذين بحثوا القضية الفلسطينية جاؤوا من مجال الإنتروبولوجيا والتراث والفولكلور.
“عرب 48”: ربما هناك علاقة في كون سكان المدن وبالذات النخب السياسية والثقافية قد غادروا أولا، كما يشاع، وأن الكفاح الفلسطيني منذ ثورة 36 ارتبط بالفلاحين؟
يزبك: رغم وجود دراسات تشير إلى غير ذلك، فإن خروج قيادات مركزية من المدن ساهم في خلق حالة ضياع، إلا أن هذا الأمر لا ينفي تعرض المدن إلى عملية تهجير شاملة أدت في بعضها إلى تطهير عرقي كامل وفي بعض آخر إلى بقاء أشلاء منها.
المدينة الفلسطينية تعرضت لعملية تدمير ممنهج طالت ليس فقط تهجير السكان بالكامل تقريبا، بل القضاء عليها كمركز اقتصادي، ثقافي وسياسي، وذلك ضمن هدف واضح يبتغي تدمير الكيان الفلسطيني وإقامة كيان استعماري على خرائبه.
د. هبة يزبك: حاصلة على الدكتوراة في العلوم الاجتماعية من جامعة تل أبيب وتدّرس العلوم الاجتماعية والإنسانية في الجامعة المفتوحة، تبحث في مسألة التهجير الداخلي القسريّ للفلسطينيين عام 1948 في سياق الاستعمار الاستيطاني وقضايا الذاكرة، الحيّز، الجندر والتاريخ الشفوي. وهي عضو في المكتب السياسيّ لحزب التجمع الوطني الديمقراطي ونائبة سابقة في الكنيست.
المصدر: عرب 48