خفض ثمن الاحتلال لإضعاف معارضة إسرائيليين له
الكتاب بعنوان “يطلقون النار ولا يبكون – العسكرة الجديدة الإسرائيلية في سنوات الألفين”، يتناول التحولات التي طرأت على الخطاب السياسي في إسرائيل، وتمثل العسكرة الجديدة للثقافة السياسية في إسرائيل
قوات الاحتلال والمستوطنين في حوارة بعد اعتداء المستوطنين في البلدة، شباط الماضي (Getty Images)
يتناول الباحث في العلاقة بين المجتمع والجيش في إسرائيل، بروفيسور ياغيل ليفي، في كتابه الجديد بعنوان “يطلقون النار ولا يبكون – العسكرة الجديدة الإسرائيلية في سنوات الألفين”، التحولات التي طرأت على الخطاب السياسي في إسرائيل، وهي التحولات التي تمثل العسكرة الجديدة للثقافة السياسية في إسرائيل.
لقد أصبح الخطاب الإسرائيلي، الذي تطور في العقد الثاني من القرن الحالي بالأساس، يصف المجتمع الإسرائيلي على أنه مجتمع عسكري، ولم تعد كلمة “عسكرة” تعتبر “كلمة فظة”، مثلما كانت في الماضي. والقاسم المشترك للأدبيات الإسرائيلية الجديدة في هذا السياق هو أنها “تنظر إلى الحرب على أنها العامل الأساسي الذي بلور طبيعة المجتمع الإسرائيلي”.
كما أن هذا الخطاب لا يعتبر أن الحرب هي واقع مفروض من الخارج، واستمرارها ليس متعلقا فقط بأداء الذين تحاربهم إسرائيل. فالحرب، وفق هذا الخطاب، “هي بقدر كبير نتيجة توْق للبطولة الجسمانية واشتياق لاستخدام القوة”. ولأنه أصبح بالإمكان التحدث عن عسكرة المجتمع بصورة علنية، بل والتماثل مع هذه العسكرة، فإن أي محاولة للتنديد بها تصطدم بمعارضة اليمين. ويورد ليفي مثالا على ذلك من خلال قضية الجندي إليئور أزاريا، الذي أعدم الشاب عبد الفتاح الشريف بينما كان مصابا بجراح حرجة في الخليل.
ويميّز ليفي بين الرقابة على الجيش الإسرائيلي وبين السيطرة على الروح العسكرية فيه، وهي “الثقافة السياسية التي تمنح الشرعية لاستخدام القوة”. وفيما “تزداد الرقابة على الجيش، تتراجع الرقابة على الروح العسكرية فيه، بمعنى أن حيز النقاش حول استخدام القوة يتقلص”.
ويوضح ليفي أن مصطلح “العسكرة” يعني “تعزز التفضيل الثقافي – السياسي لاستخدام القوة، التهديد باستخدام القوة، أو الاستعدادات لاستخدام القوة، واعتبار ذلك أنه أمر طبيعي، بل ومرغوب به”.
خفض ثمن الصراع
يرى ليفي أنه على إثر اندلاع الانتفاضة الثانية، عام 2000، تزايدت الآليات الشرعية في المجتمع الإسرائيلي لممارسة القوة العسكرية. “والمحرك الأساسي لذلك هو نتيجة لتناقض: كلما تتزايد في المجتمع عوائق ممارسة القوة – بسبب قيود دولية، وجود بدائل سياسية ونمو ثقافة مجتمع السوق الليبرالية التي تفرض قيودا على التضحية العسكرية – يتعاظم جهد مؤسسات الدولة وائتلاف القوى الداعمة لها من أجل زيادة الشرعية لاستخدام القوة والتضحية العسكرية”.
ولفت في هذا السياق إلى أن “الشرط الأول لنجاح ائتلاف القوى المؤيد لممارسة القوة هو إضعاف اهتمام المجموعات المؤثرة في الطبقة الوسطى – العليا بتسوية الصراع. وتم تحقيق هذا النجاح بفضل جهد سياسي منهجي من أجل خفض قسم كبير من عبء استمرارية الصراع، اقتصاديا وعسكريا، عن هذه المجموعات. وبذلك، فإن ائتلاف القوى الذي يصرّ على بقاء حالة الحرب، وخاصة السيطرة الإسرائيلية على الضفة الغربية، وفي مركزها التحالف بين الدولة وائتلاف الإثنية القومية، يواجه ائتلاف قوى الطبقة الوسطى العلمانية، بجعله يفقد قسما كبيرا من دافعه لتغيير هذا الوضع إثر خفض ثمن الصراع”.
ومن أجل إكساب شرعية للوضع الراهن – ديمومة السيطرة الإسرائيلية على الضفة – طوّر ائتلاف القوى المؤيدة له أشكال عسكرة جديدة، لزيادة شرعية استخدام القوة، وفقا لليفي. “لقد تطور العنصر المركزي (لأشكال العسكرة الجديدة) على قاعدة العسكرة العلمانية (السابقة). وانعكست بتعزيز التفكير العسكري وإضعاف التفكير السياسي. وهذه نتيجة لا يمكن منعها بعد دخول الجيش إلى الفراغ الذي تركته القيادة السياسية الإسرائيلية التي قررت استدامة الوضع الراهن السياسي. فللجيش دور خاص ليس في الحفاظ على الوضع الراهن فقط؛ فدوره كذلك توفير شرعية له (للوضع الراهن) بواسطة رعاية الإيمان بقدرة تطويرات تكنولوجية من أجل إزالة تهديدات عسكرية بواسطة تدمير أسلحة بشكل يجعل الحل السياسي غير ضروري. وانعكس التغيير تدريجيا بتغيير خطاب شرعية الجيش أيضا، الذي لا يبرز بالضرورة الغايات التي حققتها العملية العسكرية، وإنما الوسائل التي استخدمها الجيش، وفي مركزها القتل”.
إلى جانب ذلك، بدأ الجيش الإسرائيلي بدفع عسكرة “صلبة” في علاقاته مع المجتمع ومجنديه، ويرفع من خلالها “الأسوار بينه وبين المجتمع. ولا توجد بعد الآن عسكرة ’ناعمة’، التي تطمس التمييز بين الجيش والمجتمع. والعسكرة الـ’صلبة’ هي جزء من المجهود الزائد المطلوب من أجل لجم تحولات ليبرالية تهدد الجيش”.
ونما خطاب العسكرة الديني – القومي على قاعدة العسكرة في الجيش الإسرائيلي. وتطور هذا الخطاب الديني – القومي داخل صفوف الجيش وفي أوساط المجموعات الاجتماعية التي ترفده بجنود. وأشار ليفي إلى أن “العسكرة الدينية – القومية تتحدى العسكرة العلمانية، لكنها تعززها أيضا من خلال سعيها لتحطيم التمويه للعنف ونفيه لصالح ووصفه بأنه عمل لائق، بل ويثير فخرا. وفي الوقت نفسه، عسكرة الجيش تشكل رافعة لصالح شرعية تحولات في المجتمع المدني، وبينها تطور وسائل الإعلام واسعة الانتشار، التي تساعد في طمس المنطق السياسي لاستخدام القوة، وخطوات اللبرلة، التي تستخدم بالأساس من أجل إلباس العنف برداء ’متنور’، والمساهمة بذلك في شرعنتها”.
عناصر العسكرة الجديدة
يرى ليفي أنه توجد ستة عناصر للعسكرة الجديدة في إسرائيل:
أولا: “إضعاف العلاقة بين استخدام القوة وبين المنطق السياسي الذي يفترض أن يبلورها، لدرجة تحويل السياسي إلى عسكري”. ويعني هذا تعزيز المنطق العسكري على حساب المنطق السياسي حول كيفية إدارة الصراع مع “كيانات عربية، واستخدام القوة بمعزل عن المنطق السياسي، وبلورة عقيدة عسكرية معزولة عن مفهوم سياسي، “لكنها تشمل إملاءات سياسية”. ويقضي ذلك أيضا بسيطرة “عقلانية آداتية” على التفكير العسكري، بحيث أن أنواع الأسلحة تفرض السياسة، فيما يقدم الجيش حلولا تجعل الخطوات السياسية غير ضرورية. “وهذه الخطوات جعلت الجيش وكيلا مركزيا لشرعية استخدام القوة”.
ثانيا: “طمس المنطق السياسي لاستخدام القوة”، ليس بواسطة الجيش والسياسيين فقط، وإنما بواسطة وسائل الإعلام والمجتمع المدني أيضا. ويرى ليفي أن الأخيرين “يطوران جهلا حيال تسلسل الأحداث التي أدت إلى ممارسة القوة، لدرجة عزله عن سياق شامل”، وتطور خطاب ينفي أسباب العداء بين إسرائيل وخصومها، وتصوير الصراع على أنه مفروض على إسرائيل، وكأنها مضطرة لاستخدام القوة. وخلال ذلك، تتقمص دور الضحية، من أجل منع انتقادات لاستخدامها القوة.
ثالثا: تطور سياسة إسرائيلية لنزع إنسانية عدوها. وتحولت هذه السياسة من نزع إنسانية المقاتلين والقيادة السياسية الفلسطينية، مثلما حدث خلال الانتفاضة الثانية، إلى نزع إنسانية المجتمع الفلسطيني كلّه. وبعد الانتفاضة، تطور هذا إلى مفهوم التهديد الديمغرافي، الذي يؤثر على ديمومة الصراع وتوسيعه. ثم تطور هذا إلى تجاهل إسرائيل لوجود الفلسطينيين الرازحين تحت الاحتلال.
رابعا: عدوان إسرائيلي علني. “لم يعد العنف مقنعا كما في الماضي في خطاب شرعية العنف، وإنما يُبرز، وحتى أن ممارسته أصبح مصدر تفاخر”. وطرأ تغيير في تبريرات العنف، وقضية أزاريا تعبر عن اكتمال التغيير. “فهذه القضية عبرت ودفعت صراعا للسيطرة على قيم ورموز وثقافة الجيش”. ومجموعات من الطبقة الاجتماعية الدنيا، التي أفرادها ينخرطون بنسب مرتفعة في قوات الجيش في الضفة وحدود غزة، تطالب الجيش ومؤسسات الدولة بحماية ودعم وكذلك بتغيير ثقافي في الجيش. وإلى جانب ذلك، دفعت هذه المجموعات خطاب عنف جديد، وهو خطاب ديني – قومي، يطالب بعدم إخفاء العنف وإنما التباهي به، ويحاول تحطيم القناع على العنف ونفيه. وفي خطاب العنف الجديد هذا، اختفت فئة “الأبرياء” في موازاة معارضة القيود القانونية على الجيش، وتطورت معارضة لمواجهة معضلات أخلاقية وملاحقة منظمات حقوق الإنسان.
ولفت ليفي إلى أنه “في فترة قضية أزاريا، لاءم الجيش نفسه مع التغييرات التي نمت من ’أسفل’. وخطاب الشرعية لعنف الجيش تغير من دفع شرعية أخلاقية، تدافع عن قيم الجيش، إلى دفع شرعية إجرائية تدافع عن هرمية قيادته، ومنها إلى بلورة شرعية أخلاقية جديدة، لا تخفي، مثلما كان في الماضي، العنف العسكري. ويصور الجيش عدد الجثث كمؤشر على نجاح، وليس بالضرورة الأهداف التي حققتها عملية عسكرية. وبذلك، شرعن الجيش، جزئيا على الأقل، الخطاب الجديد الذي نما ’من أسفل’”.
خامسا: الانتقال من “عسكرة ناعمة” إلى “عسكرة صلبة”، التي تنعكس في ثقافة الجيش وسياسته التي تحدد علاقاته مع المجتمع. وتعني “العسكرة الناعمة” سعي الجيش إلى طمس التمييز بين العسكري والمدني، بينما “العسكرة الصلبة” تعني إبراز العسكري وزيادة تأثيره على المجتمع. و”للعسكرة الصلبة” جانبين، الأول هو عسكرة داخلية للجيش، ويتم التعبير عنها بـ”تهويد الجيش من أجل تأهيل الجنود للتضحية العسكرية، إلى جانب تقليص الأدوار الاجتماعية للجيش وتضييق قاعدة التجنيد”. والجانب الثاني هو “عسكرة خارج الجيش، وفي مركزها عسكرة جهاز التعليم”. وتهدف “العسكرة الصلبة” إلى “لجم خطوات لبرلة تهدد الجيش، وانغلاق الجيش أمام تأثيرات اجتماعية سلبية، بحسبه”.
سادسا: “تجنيد الليبرالية لخدمة ممارسة القوة”. ادعاء الجيش أنه يحترم سيادة المؤسسات المدنية المنتخبة، الأمر الذي يضعه “فوق السياسة” ويمنع انتقادات له. كذلك يهدف الادعاء أن الجيش الإسرائيلي “ينصاع للقانون الدولي” إلى تزويد أساس شرعي جديد نحو الداخل والخارج لممارسة القوة.
وفي هذا السياق، ينتقد ليفي منظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية. “رغم أنها تنجح أحيانا في تقييد حرية عمل الجيش، لكن في الوقت نفسه تلقي على عملياته رداء إنسانيا وقانونيا أكثر، وبذلك تقلص ضغط المنظمات الدولية على إسرائيل. ورغم أن خطاب هذه المنظمات يؤدي إلى تحسن أخلاقي، لكنه لا يشكل تحديا لسيطرة إسرائيل على المناطق” المحتلة.
إلى جانب ذلك، فإن ادعاءات الجيش أنه يمارس إطلاق نار دقيق، “يميز بين المدنيين ومقاتلي العدو”، تخفف المعارضة لاستخدام القوة وتطمس استهداف المدنيين. كما أن الحساسية في إسرائيل تجاه حياة الجنود، تُستخدم لتبرير سياسة إطلاق النار المكثف، ما يعني “نقل الخطر من الجنود إلى مواطني العدو”.
المصدر: عرب 48