"ديمقراطيّون وإنسانيّون" ولكنّهم انتقائيّون
اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الديمقراطيّ الفجائيّ
ومن “الإنسانيّ” الانتقائيّ.
ديمقراطيو الفجأة كثيرون، حتّى بعض أولئك الّذين اعتبروها شكلًا من أشكال التآمر على شعوبنا وخيراتها، وفضّلوا عليها الدكتاتوريّة، فجأة ينقلبون على أنفسهم، ويطلبون الديمقراطيّة ولكن ليس في بيتهم، بل عند غيرهم، لا بل ويضعونها شرطًا للاعتراف أو إقامة علاقات مع جسم سياسيّ آخر، مع “هيئة تحرير الشام” مثلًا، والّتي بالكاد بلغ عمرها في السلطة شهرًا واحدًا لا غير.
الحقيقة أن تخلّف نظام عبد الفتّاح السيسي عن الاعتراف بهيئة تحرير الشام يمنح شيئًا من التفاؤل، بل وهذه إشارة مهمّة بأنّ هيئة تحرير الشام لا تأتمر بأوامر أميركيّة أو إسرائيليّة كما يروّج البعض، لأنّها لو كانت أميركيّة الهوى لما تنفّس السيسي وأبواقه الإعلاميّة، ولا همزوا ولا لمزوا من جانب الهيئة، لا بل ويطالبونها بإثبات حسن نوايا.
هذا يعني أنّ الهيئة تسير حتّى الآن وفق خطّ لا يرضي مغتصب السلطة عبد الفتّاح السيسي. الّذي ادّعى أنّه لا يريد سلطة سوى ستّة أشهر، ثمّ اعتقل معارضيه، وملأ السجون المصريّة بعشرات آلاف المعتقلين، ولن ينزل عن صدور المصريّين حتّى يأذن اللّه.
النظام الّذي وصل السلطة انقلابيًّا حذر من التعامل مع السلطة السوريّة الجديدة، ويسمّيها سلطة “الأمر الواقع”، واعتقل أمنه الواقعيّ ثلاثين سوريا، لأنّهم احتفلوا بسقوط نظام بشّار الأسد الّذي واصل السيسي دعمه، حتّى قبل ثلاثة أيّام فقط من فراره إلى موسكو.
فجأة صار ديمقراطيًّا، من وصل السلطة بانقلاب ومجازر واعتقال عشرات آلاف المعارضين السياسيّين وتلفيق التهم لهم.
صار ديمقراطيًّا، ويطالب بتقاسم السلطة في دمشق وعدم انفراد طرف دون غيره في الحكم. هذا مطلب الشعب السوريّ، وهو مطلب مشروع وضروريّ جدًّا لنجاح الثورة جذريًّا، وإنهاء حقبة الظلاميّة الدكتاتوريّة ودولة المخابرات، ولكن عندما تأتي هذه النصائح من مغتصبي السلطة والانقلابيّين من أمثال السيسي، إضافة إلى أنّه يتواطأ مع حرب الإبادة الّتي يمارسها الاحتلال في قطاع غزّة، فدعواته وشروطه مشبوهة، ولا أساس أخلاقيّ لها.
من جهة أخرى هنالك كثيرون من “المثقّفين” والحزبيّين الّذين كانوا يدافعون بشراسة بأقلامهم ومداخلاتهم الفضائيّة ومواقف تنظيماتهم، عن النظام، حتّى بعد أن اتّضحت دمويّته وإجرامه بحقّ أبناء شعبه، يطالبون الآن بتعميم الحياة الديمقراطيّة في سوريّة، ويعربون عن قلقهم بالشأن الديمقراطيّ، في الوقت الّذي كانوا قد اصطفّوا إلى جانب النظام المجرم حوالي أربعة عشر عامًا من الحرب الأهليّة، والنظام الّذي كان يفوز بأغلبيّة 95% من أصوات المتبقّين في سوريّة إرهابًا واغتصابًا للسلطة.
نعم يجب أن تسود سوريّة الحرّة تعدّديّة حزبيّة، وحرّيّة التعبير والحرّيّات الشخصيّة، وأن يشارك في السلطة كلّ أطياف الشعب السوريّ بحسب الكفاءات، وليس في حساب محاصصات طائفيّة ومذهبيّة، كلّ هذا صحيح، ولكنّه عندما يأتي من أحباب بشّار الأسد والمدافعين المستميّتين عن نظامه، والّذين خوّنوا معارضيه حتّى اللحظة الأخيرة من حكمه، ومن غير تأنيب ضمير، فهذا يثير الاشمئزاز.
أمّا الدرس البليغ في الحرّيّة، فقد قدّمته وزيرة الخارجيّة الألمانيّة أنالينا بايربوك، الّتي سبق وأباحت في خطبة ناريّة أمام الجمعيّة الاتّحاديّة الألمانيّة في أكتوبر الماضي قتل المدنيّين في قطاع غزّة، وأعلنت أنّ المدارس والأحياء المدنيّة ومراكز الإيواء وغيرها تفقد الحماية إذا تحصّن وراءها إرهابيّون، ويجب تدميرها، بمعنى آخر فقد حلّلت كما هو حال حكومتها الّتي تدعم حرب الإبادة بدون شروط، وتعتبر أمن إسرائيل شأنًا ألمانيًّا داخليًّا.
هذه الوزيرة الديمقراطيّة الّتي جاءت لتضع شروط أوروبا لدعم السلطة الجديدة في سوريّة، لا تثير سوى الاشمئزاز. بيربوك طالبت برحيل القواعد الروسيّة من سوريّة، “لأنّ بوتين دعم بشّار الأسد”. هذا صحيح، ويجب أن تنسحب كلّ القوى الأجنبيّة من سوريّة، وليس الروسيّة فقط، فهنالك قوى أخرى في سوريّة يجب أن ترحل عن الأرض السوريّة.
صحيح أنّ بوتين دعم الدكتاتور المبتذل بشّار الأسد، ولكن عندما تأتي هذه الدعوات ممّن يصمتون أمام إبادة المستشفيات وطواقم الإنقاذ والطواقم الطبّيّة والنساء والأطفال بل ويؤيّدونها، فبئس النصائح وبسّ الشروط، الّتي لا تثير سوى الاشمئزاز والنفور. فعل حسنًا أحمد الشرع، إذ لم يصافح وزيرة خارجيّة ألمانيا، ليس لكونها امرأة، بل لكونها مثالًا في العنصريّة والنفاق الأوروبّيّ، والألمانيّ بصورة خاصّة.
لا يوجد أيّ حقّ أخلاقيّ لمن اغتصب السلطة بأن يضع شروطًا في كيفيّة إدارة السلطة لغيره، ولا حقّ لأحد ممّن يصمتون على مجازر الإبادة في قطاع غزّة بل ويدعمونها، بأن يقدّم النصائح والتوجيهات والاشتراطات لا في حقوق المرأة، ولا في حقوق الطفل ولا المذاهب ولا الطوائف ولا الإنسان بشكل عامّ.
المصدر: عرب 48