د. بولس: مذكرات الاعتقال نقطة تحول باتجاه مساءلة إسرائيل ومعاقبتها على جرائمها
رغم موازاته اعتباطا بين الضحية والجلاد بشمله بعض قادة حركة حماس، يبقى قرار المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية كريم خان باستصدار مذكرات اعتقال ضد رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، ووزير الأمن، يوآف غالانت، بتهم ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، بمثابة نقطة ضوء في عتمة النظام الدولي الساكت على حرب الإبادة الجماعية المتواصلة ضد شعبنا الفلسطيني في قطاع غزة منذ ما يقارب من الثمانية أشهر.
تغطية متواصلة على قناة موقع “عرب 48” في “تليغرام”
وكان خان قد أعلن أن نتنياهو وغالانت يتحملان المسؤولية عن الجرائم ضد الإنسانية في غزة، مشيرا إلى أنه “استنادا إلى الأدلة التي جمعها مكتبه وفحصها، فإن لديه أسباب معقولة للاعتقاد أن نتنياهو وغالانت، يتحملان المسؤولية الجنائية عن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتُكبت على أراضي دولة فلسطين اعتبارا من الثامن تشرين الأول/ أكتوبر 2023 على الأقل”.
وتشمل الجرائم، وفق المدعي العام، “تجويع المدنيين كأسلوب من أساليب الحرب باعتباره جريمة حرب، وتعمد إحداث معاناة شديدة، أو إلحاق أذى خطير بالجسم أو بالصحة، والقتل العمد، وتعمد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين باعتباره جريمة، والإبادة أو القتل العمد، والاضطهاد باعتباره جريمة ضد الإنسانية، وأفعالا لا إنسانية أخرى. مشددا على أن القانون يجب أن يسري على الجميع، وأنه لا يمكن السماح بهروب أحد من العقاب، حتى لو كان رئيسا.
لإلقاء المزيد من الضوء حول هذا الموضوع أجرينا هذا الحوار مع الخبيرة في القانون الدولي *د. سونيا بولس.
“عرب 48“: إذا ما تجاوزنا مسألة موازاة الضحية بالجلاد التي أثارت تحفظات فلسطينية وعربية ودولية مناصرة للحق الفلسطيني، ما هي تداعيات مثل هذه القرارات على إسرائيل في حال استصدارها، وما هو تأثيرها في سير الحرب على غزة؟
بولس: لا شك أن مجرد طلب المدعي العام لمحكمة الجنايات الدولية، كريم خان، مذكرات اعتقال ضد رئيس حكومة إسرائيل ووزير أمنه هو خطوة تاريخية، بمفهومين، الأول أنها المرة الأولى التي يتعرض فيها قائد دولة غربية لهذا الإجراء، ويضعه في مواجهة العدالة الدولية منذ الحرب العالمية الثانية دون أن يهزم.
أما المفهوم الثاني، أن ذلك ربما يمثل حتى على المستوى الرمزي نهاية عهد لم تساءل فيه إسرائيل دوليا او أي مسؤول فيها مطلقا، رغم كل الجرائم التي ارتكبتها بحق الشعب الفلسطيني خلال أكثر من 70 عاما، وقد نكون أمام نقطة تحول، خاصة إذا ما أخذنا بالاعتبار قرار محكمة العدل الدولية الأخير المتعلق بقضية الإبادة الجماعية التي قدمتها جنوب إفريقيا.
بالمقابل، ودون أن نقلل من أهمية مذكرات الاعتقال وما تمثله من لحظة مفصلية، لا بد من الإشارة إلى العديد من الملاحظات، أهمها، أن مذكرات الاعتقال تتطرق إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية دون ذكر لجريمة الإبادة الجماعية، علما بأن المدعي العام استعمل كلمة إبادة باللغة الإنجليزية وهي تختلف عن الإبادة الجماعية المعروفة بمصطلح Genocide العالمي، وهو ما أثار نوعا من البلبلة.
“عرب 48“: قد تكون جريمة الإبادة الجماعية من اختصاص محكمة العدل الدولية؟ أو ربما أراد كريم خان أن يترك تهمة جريمة الإبادة الجماعية لمحكمة العدل الدولية التي ما زالت تنظر الشكوى المقدمة من جنوب إفريقيا بهذا الخصوص؟
بولس: لا، الإبادة الجماعية تدخل ضمن اختصاص محكمة الجنايات الدولية أيضا، إلى جانب جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية وحديثا أضيفت جرائم العدوان، والتي لا يمكن تطبيقها على إسرائيل لأنها تتمتع بنظام خاص يقضي بأن تكون الدولة التي تحاكم بموجبها عضوا في نظام روما الذي يستند إليه عمل المحكمة، وإسرائيل ليست عضوا فيه.
أما في ما يتعلق بجرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الحرب، فهناك ثلاث إمكانيات: الأولى أن تكون الجريمة قد تمت على أرض دولة هي عضو في نظام روما، وفي هذه الحالة فإن غزة هي جزء من أرض دولة فلسطين العضو في هذا النظام، وهو ما يجيز محاكمة نتنياهو وغالانت وربما غيرهم من قادة إسرائيل السياسيين والعسكريين.
والإمكانية الثانية أن يكون المتهم بارتكاب هذه الجرائم هو مواطن دولة عضو في نظام روما، وبالتالي فإن قيادات حماس هم فلسطينيون ودولة فلسطين هي جزء من نظام روما ولذلك يخضعون لولاية المحكمة، حتى لو كانت الجرائم التي يتهمون بارتكابها جرت على أرض دولة ليست عضوا في هذا النظام، في هذه الحالة إسرائيل.
أما الإمكانية الثالثة فهي أن يحول مجلس الأمن تحت البند السابع ملفا إلى المحكمة، على غرار ما جرى مع الرئيس السوداني الأسبق، في موضوع الإبادة الجماعية في دارفور.
“عرب 48“: قضية الرئيس بوتين عانت من إشكالية معينة على ما أذكر؟
بولس: أوكرانيا هي التي طلبت تدخل المحكمة والتي أصدرت ضده مذكرة اعتقال بتهمة ارتكاب جرائم حرب بسبب حربه على أوكرانيا، رغم أن روسيا ليست عضوا في نظام روما فإن أوكرانيا منحت المحكمة الولاية القضائية لإقامة محاكمات بشأن الجرائم المرتكبة على أراضيها، إلا أن المحكمة بالمقابل لم تستطيع اتهامه بجريمة العدوان، أي شن حرب غير قانونية، لأن بلاده غير عضو في نظام روما وولاية المحكمة المتعلقة بهذه الجريمة تقتصر على الدول الأعضاء.
وتجدر الإشارة إلى أن تقليص ولاية المحكمة في جريمة العدوان مردها أن بعض الدول النافذة غير الموقعة على نظام روما، مثل فرنسا وبريطانيا، خافت من التورط بسبب عملياتها العسكرية خارج حدودها بجريمة العدوان (استعمال القوة العسكرية بطريقة تخالف القانون الدولي) ولذلك سعت إلى تقليص صلاحيات المحكمة في هذا البند.
“عرب 48“: لماذا التركيز على التجويع؟
بولس: قبل أن ندخل في هذا الباب، دعنا نشير إلى الملاحظات التي يمكن أن تقال عن الامتناع عن توجيه جريمة الإبادة الجماعية لنتنياهو وغالانت والاكتفاء بجرائم الحرب وجرائم ضد الإنسانية، وتحديدا في ما يتعلق بالتجويع، وأنا أعتقد أنه إذا قلت إنهما متورطان في تجويع المدنيين بشكل منهجي وعلى نطاق واسع مع وجود تصريحات لكليهما تظهر نية بارتكاب جريمة إبادة جماعية (اي نية تدمير مجموعة من الناس جزئيًا أو كليًا) فيصيح من المستهجن استثناء هذه الجريمة من أوامر الاعتقال، لكن هذه لن تكون الأوامر الوحيدة التي ستصدر في هذا الملف ويجب العمل على تصويب هذا المسار وشمل جرائم أخرى كتعذيب الأسرى وغيرها.
كما جاء التركيز على موضوع التجويع كونه الخيار الأسهل لوجود تصريحات واضحة وعديدة لمسؤولين إسرائيليين تدعو صراحة لاستعمال التجويع كسلاح، وشواهد تفضح كيف تمنع دخول المساعدات وتقطع الكهرباء والوقود وغيرها من الموارد، إضافة إلى أن هذه القرارات تكون بالعادة صادرة من فوق، وليست رهينة بيد جندي في الميدان، ولذلك من السهل إثبات مسؤولية رئيس الحكومة ووزير أمنه عنها، كما أن المدعي ركز على التجويع بكل جوانبه مثل استهداف مدنيين لدى محاولة حصولهم على المساعدات واستهداف عمال الإغاثة وقتلهم.
وتعتمد المحكمة الجنائية الدولية في عملها على مبدأ التكامل، وهو ما يعني إعطاء الأولوية للدول في التحقيق في الجرائم. يمكن لإسرائيل أن تتظاهر بأنها تحقق مع بعض الجنود، لكنها لا تستطيع القول إن التكامل ينطبق على نتنياهو وغالانت لأنه لا يوجد مثل هذا التحقيق، بل على العكس من ذلك، الحصار الإجرامي المفروض على غزة هو سياسة الدولة.
لقد أثبت كريم خان قدرته على المراوغة للخروج من الوضع الصعب الذي وجد فيه، خاصة وهو يواجه من ناحية اتهامات تاريخية بأن المحكمة تركز على إفريقيا ولا تحاكم دولا غربية، أُضيف إليها اتهامات جلبتها قضية أوكرانيا بأن المحكمة تتحرك وفق مصالح الدول النافذة، وهو ما وضع سمعة مصداقية المحكمة على المحك، ومن ناحية ثانية، هو يواجه ضغوطات كبيرة من قبل حلفاء إسرائيل، لذلك قام بخطوة استباقية تمثلت بتجميع فريق من الخبراء في القانون الدولي، عرض عليهم الأدلة التي جمعها والتي سيطلب على أساسها أوامر الاعتقال وحظي بموافقتهم ودعمهم لها.
على سبيل المثال فإن أحد أعضاء هذا الفريق هو ثيودور ميرون، وهو حقوقي مشهور مختص في القانون الدولي، عمل سابقا في وزارة الخارجية الإسرائيلية وفي وظائف أخرى رسمية داخل إسرائيل قبل أن يغادر إلى أميركا وكان قاضيا في محاكم جنائية دولية، وهو من أصل يهودي ومعروف أنه كان من أشد المعارضين لإقامة مستوطنات في الضفة الغربية، وصرح بشكل واضح أنها تشكل مخالفة للقانون الدولي.
“عرب 48“: بالرغم من ذلك فإن هناك العديد من الثغرات والمآخذ على قرار المدعي؟
بولس: يوجد العديد من المآخذ إضافة إلى ما ذكر أعلاه، أبرزها أنه بدأ منذ السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، علما أن ملف فلسطين مفتوح منذ سنين وهو يشمل حرب 2014 على غزة ويشمل المستوطنات، وكلنا يعرف أن المدعية العامة السابقة، بنتسودا، كانت قد ركزت على الاستيطان.
المأخذ الآخر هو محاولته المساواة بين الدولة المحتلة والشعب القابع تحت الاحتلال، فهو يشدد على حق إسرائيل في الدفاع عن النفس، لكنه لم يقل أن الفلسطينيين يقعون تحت الاحتلال بالرغم من أن لجنة الخبراء تطرقت إلى قضية الاحتلال عندما حاولت تشخيص النزاع القائم في غزة، حيث أجمعت بأن هناك نزاعا مسلحا غير دولي بين إسرائيل وحماس ونزاعا مسلحا دوليا بين إسرائيل وفلسطين، لأن إسرائيل استعملت قوة عسكرية في أرض فلسطين حتى لو أرادت استهداف حماس، وأيضا لأن هناك احتلال وهو ما يخلق بحد ذاته نزاعا دوليا.
“عرب 48“: في حال وافق قضاة المحكمة على إصدار هذه المذكرات، هل تتخيلين سيناريو تقوم فيه دولة غربية بتسليم نتنياهو أو غالانت؟
بولس: لا، ولكن أتخيل وضع يمتنعان فيه عن زيارة 124 دولة موقعة على نظام روما خوفا من القيام بتسليمهما، ويظهر من ردود فعل العديد من الدول وبضمنها فرنسا وإسبانيا وحتى ألمانيا، بأنها ستحترم قرار المحكمة، وبالتالي فإنها تبعث رسالة لنتنياهو بأن لا يأتي لزيارتها.
هذه بداية لعزلة إسرائيل الدولية التي قد تنتهي بها إلى الوضع الذي وجدت نفسها فيه دولة الأبارتهايد في جنوب إفريقيا.
“عرب 48“: المفارقة أن جنوب إفريقيا هي التي انتصرت لفلسطين في المحكمة الدولية، لكننا نعرف قصور النظام العالمي ومنظومته الحقوقية التي صممت لتخدم مصالح الدول الاستعمارية…
بولس: حتى لو افترضنا أن القانون الدولي جاء ليخدم مصالح استعمارية، فإن هناك تيار من فقهاء القانون من الجنوب يرون أن دورهم يكمن في محاولة تعرية الأسس التي تخدم المصالح الاستعمارية في القانون الدولي، وهم يسعون إلى تحدي الهيمنة الاستعمارية عبر تقديم تفسيرات مغايرة للقانون الدولي، هذه المحاولات للتصدي للهيمنة الغربية في قراءة القانون الدولي لم تعد مقصورة على حلقات أكاديمية بل تحولت إلى مشاريع سياسية تتبناها دول، وهذا ما يفسر أن دولة مثل جنوب إفريقيا هي من ذهبت إلى المحكمة الدولية في الحرب على غزة، وهناك الدعوى المقدمة ضد ألمانيا أيضا.
وفي حين كان الحديث يقتصر دائما على ممارسات الاحتلال، جاء توجه دول الجنوب ليقول: نحن لا نريد أن نتحدث عن ممارسات الاحتلال العينية كبناء جدار عازل أو بناء مستوطنات، بل نقول إن الاحتلال برمته هو غير قانوني وهذا هو جوهر الرأي الاستشاري الأخير المقدم لمحكمة العدل الدولية، وهناك أكثر من 50 دولة شاركت، والغالبية الساحقة دعمت الحق الفلسطيني.
*د. سونيا بولس: أستاذ مساعد في قانون حقوق الإنسان الدولي في جامعة أنطونيو دي نبريخا في إسبانيا.
المصدر: عرب 48