د. يوسف جبارين: حالة الطوارئ القانونية قد تتحول إلى وضع ثابت
تشكل مجمل الإجراءات والتعديلات والممارسات القانونية والسياسية التي طبقتها المؤسسة الإسرائيلية ضد فلسطينيي الداخل خلال الحرب على غزة، تغييرا في مكانتهم القانونية المنقوصة أصلا نحو المزيد من التضاؤل والضمور، ويخشى أن تتحول الحالة التي جرى تمريرها تحت دخان الحرب وتبريرها بحالة الطوارئ، إلى وضعية دائمة تعزز واقع دونية الفلسطينيين والفوقية اليهودية كجزء من تطبيق سياسة الفصل العنصري ضد الفلسطينيين على جانبي الخط الأخضر.
تغطية متواصلة على قناة موقع “عرب 48” في “تليغرام”
ورأى مركز “مدى الكرمل” في ورقة تقدير موقف أصدرها بهذا الخصوص، أن هذه الإجراءات أثبتت هشاشة المواطنة الممنوحة للفلسطينيين في الداخل، وخضوعها لدوافع واحتياجات الإجماع الصهيوني، معربا عن خشيته من تحول الحالة الطارئة تلك إلى وضع ثابت يمس بمكانة فلسطينيي الداخل، كما وصف التجمع الوطني الديمقراطي ما يتعرض له المجتمع العربي من ملاحقات واعتقالات وترهيب وكم أفواه، بأنه “محاولة بائسة لإعادتنا إلى الحكم العسكري”، في وقت حذرت فيه مؤسسة “عدالة” الحقوقية، من محاولات “ترسيخ سياسة عنصرية تعتمد على الفوقية والفصل العنصري في كل المناطق الواقعة تحت السيطرة الإسرائيلية”.
وحول هذا الواقع السياسي- القانوني المستجد ومتطلبات ووسائل مواجهة تحدياته، أجرينا هذا الحوار مع الحقوقي وعضو الكنيست السابق، د. يوسف جبارين.
“عرب 48”: هناك تخوفات جدية لدى الكثيرين من تحول الحالة الطارئة التي فرضت على العرب في إسرائيل خلال الحرب إلى وضعية دائمة، تُفاقم من تآكل مكانتهم القانونية المتدنية أصلا…
جبارين: لا شك أن تطورات الأحداث بعد السابع من تشرين الأول/ أكتوبر، قد أعادتنا إلى القضايا الحقوقية المتعلقة بمكانة وحقوق المواطنين العرب، وبرأيي أن ذلك لم يكن وليد الصدفة، بل يمكننا أن نرى تسلسله بشكل واضح في تطبيقات برنامج اليمين المتطرف، الذي عمل بشكل مخطط على استغلال ظروف الحرب لتصعيد التحريض وترجمة برنامجه السياسي في إقصاء المواطنين العرب وضرب مكانتهم.
وليس من قبيل الصدفة، أيضا، أن الكثير من مظاهر مصادرة الحريات كانت من خلال جهاز الشرطة الذي يقف على رأسه (وزير الأمن القومي) إيتمار بن غفير، المعروف بمواقفه المعادية للعرب، علما بأن السقوط الأخلاقي والمهني جاء بتواطؤ مؤسسات كان من المفروض أن تشكل رادعا أو ثقلا موازيا لمثل هذه الطروحات المتطرفة.
لكن على أرض الواقع رأينا عكس ذلك، إذ جاءت تعليمات النيابة العامة منذ البداية لتعطي الضوء الأخضر للشرطة للقيام باعتقالات وتقديم لوائح اتهام في قضايا حرية التعبير دون أن تكون هناك رقابة جدية من النيابة، وذلك بعكس الوضع الذي كان قائما قبل السابع من أكتوبر، ورغم خطورة مثل هذه التعليمات في ظل الوزير الحالي.
مثال آخر على مؤسسات سقطت في هذا الامتحان هي المؤسسات الأكاديمية، حيث قامت جامعة حيفا في بداية الأزمة (الحرب) بإصدار قرارات طرد لطلاب عرب من التعليم وحتى من مساكن الطلبة دون أي أساس قانوني لتضع بذلك سقفا عاليا لتطرف المؤسسات العامة، الأمر الذي فتح المجال أمام مؤسسات أخرى لتحذو حذوها، وبالتالي فإنه عوضا عن أن تكون المؤسسات الأكاديمية حاضنة وحامية لطلابها ومحاضريها وعنوانا لحرية التعبير، (يمكن الإشارة في هذا السياق الى التصادم الواقع في الولايات المتحدة بين الإدارة الأميركية ورؤساء الجامعات المرموقة) كانت هي الجلاد أيضا.
“عرب 48”: القصد أن ما كان يفترض أنها معاقل الديمقراطية مثل الأكاديميا والصحافة والمحاكم وعلى رأسها المحكمة العليا اصطفت في الطابور أيضا…
جبارين: بالنسبة للأكاديميا قضية حرية التعبير لها مكانة خاصة والعالم الأكاديمي أصلا يقف على أساس حرية التعبير، وقد كان شعار المحاضرين “بدون ديمقراطية لا توجد أكاديميا”، فكيف ينقلب الوضع وتصبح الأكاديميا جزء من كبت الديمقراطية عندما يتعلق الأمر بالعرب؟!
مثال آخر لتراجع حرية التعبير، كما ذكرت، هو الجهاز القضائي بما في ذلك المحكمة العليا، والتغيير الحاصل هنا هو تسجيل سوابق خطيرة في الاعتقالات وتمديد الاعتقال حتى انتهاء الإجراءات القانونية، على قضايا حرية التعبير وحرية التظاهر والنشر على وسائل التواصل الاجتماعي، وهو أمر غير مسبوق كان ينتهي بالعادة بتحقيق لبضع ساعات فقط.
في قضايا منع التظاهر كان هناك أمل بأن تتدخل المحكمة العليا لتنصف حرية التعبير التي طالما تغنت بها هذه المحكمة، فجاءت قراراتها في التماسات لجنة المتابعة والجبهة الديمقراطية مخيبة للآمال التي بنيت على الجهاز القضائي، وبما يعزز النقد التاريخي لها من طرفنا بأن هذه المحكمة تتراجع حينما نحتاج إلى تدخلها القضائي كعرب.
“عرب 48”: الأمر وصل إلى حالة من الترهيب أدت الى شلل العمل السياسي، حتى أن الجبهة لم تجد قاعة تعقد بها اجتماعها الداخلي…
جبارين: موقف المحكمة العليا أعطى عمليا الضوء الأخضر لمواصلة الملاحقات ضد الفلسطينيين وضد القيادات وضد حزب سياسي تاريخي مثل الجبهة والحزب الشيوعي، وعوضا عن تحول حالة الحرب إلى فرصة للجهاز القضائي ليثبت استقلاليته عن الأجواء المحمومة المتطرفة، بتوفير حماية، حتى لو كانت منقوصة لحرية التعبير، فإن النتيجة جاءت مخيبة للآمال، ليس من وجهة نظرنا فقط، بل من قبل العديد من الحقوقيين الذين وجهوا نقدا واضحا للقضاء الذي منح صلاحيات تدخل للأجهزة التنفيذية لم تكن قائمة من قبل.
“عرب 48”: ربما يثبت ذلك صحة الموقف الشعبي للعرب، الذي ترجم بالامتناع عن المشاركة في مظاهرات الاحتجاج على “الإصلاح القضائي” المناصرة للمحكمة العليا التي سبقت الحرب؟
جبارين: لا شك أن تلك التطورات عززت من مقولة إن إسرائيل هي دولة يهودية للعرب وديمقراطية لليهود، وبالتالي فإن نقد المحكمة العليا لتبنيها موقف السلطة وشرطتها يعزز من نقدنا حول ازدواجية المعايير، فعندما يتعلق الموضوع بالجانب اليهودي يصبح الحديث شرعيا عن حقوق إنسان وحرية تعبير وحق في التظاهر، وعندما يرتبط بالعرب تكيل المحكمة بمكيالين وهو ما برز بوضوح عندما استجابت العليا لطلب الجبهة تنظيم تظاهرة في تل أبيب ورفضت طلبها بالتظاهر في سخنين وأم الفحم.
هذا يقودنا، عمليا، إلى الاستنتاج بمنع حرية التعبير في البلدات العربية والسماح بها في البلدات اليهودية.
أما بالنسبة للشق المتعلق بالصحافة من سؤالك، فإن الأخيرة ظهرت بشكل واضح وجلي كمنصة للتحريض وللتصريحات غير الأخلاقية وغير الإنسانية تجاه العرب والفلسطينيين، ويمكن القول إن ما كان سائدا في القناة 14 اليمينية المتطرفة صار ينسحب على كل الصحافة الإسرائيلية.
“عرب 48”: مثلما تحولوا كلهم إلى بن غفير؟
جبارين: من الجدير التنويه إلى أنه في جميع الملفات تم الاعتماد على قانون “مكافحة الإرهاب” وهو قانون جديد نسبيا من عام 2016، جرى استغلاله أمام المحاكم لتمديد الاعتقال وتبريره وتقديم لوائح اتهام، رغم أن هذا القانون غير معد لمثل هذه الحالات، بل هو يتحدث عن تواصل مع منظمة إرهابية تعرف كذلك، ولا يتحدث عن منشور لمدة ساعة أو ساعتين على وسيلة تواصل اجتماعي، لم يكتب بنية إقامة أي علاقة لا بمنطمة إرهابية ولا تحريض على الإرهاب.
“عرب 48”: واضح أن كل ما حدث ولا زال يحدث بتوجيه سياسي من رأس الهرم السياسي…
جبارين: أكيد وقد تحدث نتنياهو منذ اليوم الأول عن أربع جبهات ذكر منها غزة والضفة وجنوب لبنان وكان يقصد بالجبهة الرابعة الداخل الفلسطيني، ومن الواضح أن هناك مخططا للنيل من مكانة ودور فلسطينيي الداخل.
ورغم أن تصرف القيادات العربية كان على قدر من المسؤولية، فإن هذه الأحداث داهمتنا غير جاهزين، لا على مستوى الأحزاب ولا على مستوى مؤسسات العمل الأهلي والحركة الطلابية وغيرها من الأطر.
كذلك كشفت الأحداث عن حاجة إلى تعزيز تنظيم أنفسنا على أساس وطني، وتعزيز المؤسسات القائمة وإقامة لجان ونقابات مهنية وفرعية للمحامين والأطباء الصيادلة والممرضين، إضافة إلى إحياء الحركة الطلابية ولجان الطلاب العرب والاتحاد القطري.
“عرب 48”: لاحظنا كيف أن النقابات التي يفترض بها الدفاع عن المحامين والأطباء العرب على سبيل المثال تحولت إلى سوط لجلدهم…
جبارين: حالة الإجماع القومي شملت كل قطاعات المجتمع الإسرائيلي، وبالتالي أبرزت خصوصية المجتمع العربي وضرورة التنظيم على أساس قومي أيضا، إلى جانب مشاركتنا في المؤسسات والنقابات العامة.
وكما بدا واضحا، فإن التحريض لم يقفز عن مهنة أو مكانة أو تدريج في السلم الوظيفي، حيث كانت النظرة إليك كأنك جزء من العدو وغير مرغوب فيك، وتعرض الأطباء والمحامون ومحاضرو الجامعات للتحريض والملاحقة أسوة بالموظفين والعمال، وهذا ما يؤكد الحاجة إلى التنظم على هذه المستويات.
“عرب 48”: ربما هناك حاجة ليس فقط إلى التنظم نقابيا على المستوى المهني، بل التفكير في بناء مستشفياتنا وجامعاتنا ومبادراتنا الاقتصادية الخاصة القادرة على احتواء واستثمار طاقاتنا وتوظيف قدراتها في خدمة مجتمعنا؟
جبارين: لا مانع من التفكير على الأمد المدى، لكن هناك ما هو مقدور عليه ويمكن إنجازه في الفترة القريبة وهو تنظيم عمل جماعي بين المحامين والأطباء والصيادلة والمهندسين والطلاب وغيرهم، وباعتقادي أن نموذج اللجنة القطرية لرؤساء المجالس إلى جانب المشاركة في الحكم المحلي هو مثال صالح. هذا إلى جانب مأسسة وتنسيق دور العمل المجتمعي وتنظيم العمل الجماعي للمؤسسات الأهلية.
“عرب 48”: يجب ألا ننسى أيضا قضية التغييب القسري لمركبات سياسية أساسية في الخارطة الحزبية الوطنية، من خلال إخراج الحركة الإسلامية الشمالية وملاحقة التجمع وإضعافه وإفقاده تمثيله البرلماني، وتأثير ذلك على صلابة وتماسك الجسم الوطني؟
جبارين: بدون شك أن حالة الملاحقة السياسية التي شهدناها في الفترة الأخيرة وتغريب العمل السياسي له تأثير أيضا، إلا أن الأزمة (الحرب) تؤكد على أهمية المتابعة كهيئة وحدوية، رغم مساحة النقد، وعلى ضرورة تقوية مجتمعنا ومؤسساته وعلى دور كل فرد في موقعه في عملية البناء الجماعي.
“عرب 48”: من الواضح أن هذه الحالة ستتواصل وربما تستفحل بعد الحرب أيضا…
جبارين: هذا ما قلته، إن الحرب ستنتهي لكن إسقاطاتها ستبقى معنا لسنوات طويلة، ونحن أمام سؤال كبير هو: هل ستكون هذه فرصة، إذا صح التعبير، للانتقال إلى عمل جماعي موحد؟ وهذه دعوة من القلب للأحزاب السياسية أولا، التي هي عنصر مركزي في أي تغيير سياسي واجتماعي، إلى فتح حوار وطني لتقييم الظروف الراهنة ووضع إستراتيجية مشتركة للفترة القريبة، هي دعوة لكل الأحزاب والحركات وتحديدا لأحزاب الصف الوطني، ومهم جدا اليوم قبل غدا، وهي غير مقتصرة على الأحزاب الممثلة بالكنيست أو التي تسعى إلى هذا التمثيل.
في نهاية الأمر يجب أن تعزز لدينا المرحلة الشعور بالمصير المشترك، وأهمية أن نعي أنه مثلما يتم التحريض علينا كشعب يجب أيضا أن نتصرف كشعب في مواجهة هذه التحديات، ولا شك أننا قادرون ونملك كل الإمكانيات للمواجهة.
المصدر: عرب 48