ذكرى النكبة وغروب العقد الإسرائيليّ الثامن
بعد مرور 76 عامًا على النكبة بما مثّلته من تهجير وهدم وتطهير عرقيّ وتدمير شامل للحضور الوطنيّ الفلسطينيّ، ونجاح المشروع الصهيونيّ في إقامة دولته على الغالبيّة العظمى من أرض فلسطين، وعند غروب العقد الثامن لقيامها تواصل إسرائيل، في ما يبدو، فصلًا آخر أشدّ عنفًا من فصول النكبة وحرب الإبادة الّتي بدأتها العصابات الصهيونيّة عام 48، وهذه المرّة بشكل مكشوف وسافر، وعلى مرأى ومسمع من العالم الحرّ (الغربيّ) وبمشاركة فاعلة من حكوماته لتكشف ليس عن وجهها الاستعماريّ الدمويّ فقط، بل عن طبيعة المشروع الغربيّ الكولونياليّ الّذي تشكّل رأس حربة له في المنطقة.
ولا يمكن فهم حرب الإبادة المتواصلة على غزّة منذ أكثر من سبعة أشهر إلّا في سياق منطق الإزالة والمحو، الّذي يميّز الصهيونيّة بوصفها حركة استيطانيّة أقامت مشروعها الاستعماريّ على قاعدة، أنّ “فلسطين أرض بلا شعب لشعب بلا أرض”، وما زالت محاولاتها المتعثّرة المتواصلة لمحو شعب هذه البلاد وحضوره السياسيّ عن الوجود، تصطدم بمقاومة مستمرّة وصمود منقطع النظير كما هو ماثل في غزّة رغم تدمير ثلاثة أرباع بيوتها وتهجير أكثر من نصف سكّانها وقتل وجرح أكثر من 100 ألف من أهلها.
وبدون شكّ فإنّ صمود الشعب الفلسطينيّ في غزّة في وجه حرب الإبادة الدمويّة، الّذي يستمدّ قوّته من صدقيّة الحقّ المشروع لشعبنا في وطنه، قد أعاد القضيّة الفلسطينيّة إلى الواجهة العالميّة كقضيّة عدالة اجتماعيّة وسياسيّة، وأثار قطاعات واسعة من أجيال الشباب في دول الغرب الاستعماريّ المتواطئة مع العدوان، ذاتها، وعلى رأسها الولايات المتّحدة الأميركيّة، وهو ما عبرت عنه حركة الاحتجاج الواسعة الّتي انطلقت من جامعات النخبة الأميركيّة لتعمّ مختلف الأنحاء الأميركيّة، وتتحوّل إلى حركة عالميّة.
وفي ذات الوقت الّذي كشفت فيه هذه الحرب العدوانيّة عن النوايا الحقيقيّة لإسرائيل بإقامة دولتها الكبرى من البحر إلى النهر، ونزعت الغطاء عن مشاريع الحلول المزيّفة الّتي ألهي فيها شعبنا على مدى عقود، فإنّها أعادت الصراع إلى مربّعه الأوّل كصراع وجود مع مشروع استعمار استيطانيّ، جاء وما انفكّ يسعى لمحو الشعب الفلسطينيّ كمجموعة قوميّة ذات شخصيّة سياسيّة سياديّة عن الوجود، ولعلّ رفض نتنياهو وحكومته لاقتراحات إحالة حكم قطاع غزّة للسلطة الفلسطينيّة، حتّى لو كانت بقيادة ماجد فرج هو دليل واضح على هذا التوجّه.
كما أنّ وضع إسرائيل لنفسها في هذا الموضع، خاصّة بعد سيطرة النهج الدينيّ الاستيطانيّ على المشروع الصهيونيّ برمّته، بما يمثّله من أيديولوجيّة وحركة ودولة، يضعها أمام مفاضلة بين أن تكون أو لا تكون، وهي حالة شبيهة بوضعيّة الدولة الصليبيّة، كما يرى عزمي بشارة وغيره من المفكّرين، والّتي كما هو معروف، جرى ترحيلها عن المنطقة بعد بضعة عقود.
حرب الإبادة الّتي شنّتها إسرائيل على غزّة أبرزت هذه الصورة بوضوح، حيث ما زال النهج المهيمن على الدولة يحاول بكلّ ما أوتي من قوّة تدميريّة حسم المعركة مع الشعب الفلسطينيّ بسحق قواه الحيّة والمقاومة ونزعه من الوجود كشعب وكيانيّة سياسيّة، دون أن يدرك أنّ فشله ربّما ينقلب عليه أو هو بدأ ينقلب عليه فعلًا، وأنّ ما يسمّونها بلعبة الصفر هي مقامرة خطرة.
في هذا السياق وبصرف النظر عن خزعبلات ما يسمّونها هم بـ”لعنة العقد الثامن” أو التخريجات الدينيّة الّتي عبّر عنها من طرفنا الشيخ بسّام جرّار وغيره، ممّن حدّدوا تاريخ انتهاء الصلاحيّة، وكون بعض هذه التواريخ قد فات فعلًا، نرى مؤرّخًا علمانيًّا وأكاديميًّا بارزًا، مثل إيلان بابي، يتحدّث بعد الحرب على غزّة عن بداية نهاية المشروع الصهيونيّ.
بعقلانيّة باردة يضع بروفيسور بابي إصبعه، على ما يسمّيها، مؤشّرات نهاية المشروع الصهيونيّ، داعيًا حركة التحرّر الفلسطينيّة إلى الاستعداد لملء الفراغ الّذي سينتج عن ذلك، وأبرز هذه المؤشّرات الّتي يذكرها بابي، الصراع الداخليّ بين المعسكر العلمانيّ والمعسكر المتديّن داخل إسرائيل، والدعم غير المسبوق للقضيّة الفلسطينيّة في العالم الّذي سيحوّل إسرائيل إلى دولة فصل عنصريّ ثانية، على غرار جنوب إفريقيا، إلى جانب ما أثبتته الحرب من عدم قدرة الجيش الإسرائيليّ على حماية المواطنين في الجنوب، وفي الشمال والتغيّر الحاصل في موقف الجيل الجديد من اليهود في أوروبا وأميركا، والّذي لم يعد يرى في إسرائيل بوليصة تأمين ضدّ محرقة أخرى أو موجات من معاداة السامية.
ومن الواضح أنّه عندما تشطب إسرائيل كلّ مشاريع التسوية العربيّة والأميركيّة الفعليّة منها والوهميّة، وتصرّ على التمسّك بـ “أرض إسرائيل الكاملة” فإنّ الشعار الغالب في الجامعات الأميركيّة سيكون “فلسطين حرّة من البحر إلى النهر”.
المصدر: عرب 48