سقوط طبرية: بعد طرد السكان العرب ونهب ممتلكاتهم… هُدمت المدينة ودُمرت معالمها
في معرض وصفه لسقوط طبرية خلال النكبة، يقول بروفيسور مصطفى عباسي، إنه كان لِما حدث مع نهاية الانتداب وأثناء حرب عام 1948، وبشكل دراماتيكي، من طرد للسكّان العرب، ونهب ممتلكاتهم، ومن ثم هدم المدينة وإزالة مُعظم معالمها، وقعُ الصدمة المدويّة، خاصة أن طبرية كانت أولى المدن الفلسطينية التي شهدت هذه التطورات والأعمال، قبل حيفا ويافا وصفد وغيرها من المدن.
تغطية متواصلة على قناة موقع “عرب 48” في “تليغرام”
في 18 نيسان/ أبريل 1948، طُرد السكّان العرب تاركينَ خلفهم أراضيهم وبيوتهم وممتلكاتهم وكل ما جمعوه خلال أجيال، وقد كان هذا الطَّرد بعد فترة من المناوشات وإطلاق النار بين الطرفين، وتحديدًا بين مجموعة صغيرة من المسلحين العرب وبين قوات عصابة “الهاغاناه”، هذه المناوشات التي وصفتها جريدة “دافار” العبرية، وبحق، أنها أشبه بمعركة صغيرة جدًا، حيث لم تجرِ معركة حقيقية في طبرية.
وخلال استعراضه لعملية التهجير في كتابه “طبرية العربية تحت الحكم البريطاني 1918-1948” الصادر عن المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، يقول عباسي، إنه من اللافت أن طرد السكّان العرب الفلسطينيين من طبرية، تم بشكل منظّم جدا، وسادته حالة من الهدوء، أو لربما الوجوم إن صحّ القول، فحتى أثناء صعودهم الباصات التي أقلتهم إلى الشتات وإلى المجهول، لم يبدوا أي اعتراض أو مقاومة تماما كما فعلوا أيام حكم الانتداب.
ويشير عباسي إلى أن عرب طبرية حافظوا على علاقات حسن الجوار مع جيرانهم اليهود خلال معظم تلك الفترة، وتمكّنوا من الإبقاء على هذه العلاقة أثناء أحداث كبرى عصفت بالبلاد، مثل أحداث البراق في عام 1929، وأثناء أحداث الثورة الفلسطينية الكبرى 1936- 1939، إلى حدٍ كبير، ولكن في غياب أية حيلة، أو وسيلة، أو أي خيار، وتحت الضغط الكبير الذي مارسه قادة الجيش والمسؤولون البريطانيون، وكذلك تحت وطأة هجمات “الهاغاناه” وضغطها العسكري على المدينة وجوارها، والخوف من الحصار، ونفاد الغذاء، وعجز القيادات المحليّة، اضطّر عرب طبرية إلى حزم القليل من أمتعتهم وترك المدينة بهدوء.
ويضيف الكتاب أنه لم يُعكّر صفو هذا الهدوء، سوى جَلَبة محركات عشرات الحافلات والباصات التي أحضرها الجيش البريطاني، لتُقلّهم فيها، وكما تُظهر الصور، فقد كانت هذه الحافلات تغصُّ بهم، فجلس بعضهم فيها ووقف بعضهم الآخر داخلها بازدحام شديد، واضطر آخرون للجلوسِ على سطحها بين الأمتعة، وقد بدت على وجوههم حالة الرُعب والصدمة والذهول، وقد ذهبت هذه الحافلات بعدة رحلات مكّوكية، نقلت نحو 500 منهم إلى الناصرة، ونحو 4500 إلى الحدود الفلسطينية – الأردنية عن طريق سَمخ والحمّة، ومن هناك، إلى خارج الوطن، وبهذا أُسدِل الستار على عروبة هذه المدينة ولم يبقَ فيها أحد من سكّانها العرب.
حول هذا الموضوع وبالتزامن مع ذكرى سقوط طبرية وذكرى النكبة الفلسطينية أجرينا هذا الحوار مع *بروفيسور مصطفى عباسي؛ “عرب 48“: كأنك تقول أن تهجير أهالي طبرية العرب، الذي أعقبه نهب ممتلكاتهم وهدم المدينة، قد تم بهدوء ودون مقاومة أو معركة حقيقية؟
عباسي: أنا أحكي في الكتاب أن أهل طبرية قد عقدوا اتفاقا بين السكان العرب والسكان اليهود، إلا أن الجهات الخارجية لم تحترم هذا الاتفاق، اتفاق السلام الداخلي سبق التهجير بشهر، لكن يبدو أن القرارات بهذا المستوى ما كانت تطبق محليا وإنما من قبل قيادة “الهاغاناة”.
“عرب 48“: على ماذا نص الاتفاق؟
عباسي: الاتفاق تضمن عدة نقاط بينها وقف الاشتباكات المسلحة، تبادل الأسرى وفتح الأسواق وحرية التجارة، وأن يبقى كل مواطن في بيته، لكن تم خرق هذا الاتفاق بعد شهر واحد، وكل طرف ادعى أن الطرف الآخر هو الذي خرقه، والصحيح أن القيادات المحلية من الطرفين كانت معنية بالاتفاق، لكن كما قلت، إن قرارات بهذا الحجم ما كانت لتأخذ محليا، ولكن من قبل جهات عليا.
“عرب 48“: في النهاية جرى تهجير السكان العرب وهدم المدينة؟
عباسي: الإنجليز ضغطوا على السكان العرب الذين كانوا يعانون من نقص في الغذاء والدواء والإمدادات، لأن طبرية كانت محاصرة بالمستوطنات اليهودية من عدة جهات، من جهة ‘دغانيا‘ ومن جهة ثانية ‘ميغدال‘ و‘كنيرت‘ وغيرها من المستوطنات.
“عرب 48“: ذكرت في كتابك أن المدينة كانت بأغلبية يهودية ومع رئيس بلدية يهودي عام 48؟
عباسي: في عام 1948، السكان كانوا تقريبا مناصفة بين العرب واليهود، وطبرية كان فيها أول رئيس بلدية يهودي في فلسطين الانتدابية، حتى قبل تل أبيب، كان عدد السكان اليهود يزيد بقليل عن العرب والإنجليز أعطوا رئاسة البلدية لشخص يهودي.
“عرب 48“: تقصد أنه لم يصل بالانتخاب بل جرى تعيينه من قبل سلطات الانتداب؟
عباسي: الانتخابات كانت تجري لأعضاء البلدية، ومن ثم يقوم حاكم اللواء بتعيين رئيس البلدية بالنظر إلى النتائج، علما بأن رئيس البلدية اليهودي كان معتدلا ومؤيدا للتعايش وربطته علاقة جيدة مع بيت الطبري.
“عرب 48“: هل عائلة الطبري كانت تشكل أغلبية في المدينة؟
عباسي: هي أكثر عائلة لها نفوذ وغنى وتاريخ عريق في المدينة، منذ نهضة طبرية الحديثة في عهد ظاهر العمر، شكلوا القيادة السياسية والدينية في البلدة وربطتهم علاقة ممتازة مع جيرانهم اليهود بشهادة الحاخامات الرئيسسين وكل من زار طبرية، حتى أنهم رفضوا إدخال جيش الإنقاذ إلى المدينة لكي لا يثير ذلك حساسيات جيرانهم اليهود، إذ فضلوا الحفاظ على الوضع القائم، باعتبار أن جيش الإنقاذ هو جيش من الخارج ويمكن أن يثير المخاوف ويوفر حجة للطرف الثاني، وهذا ما يفسر عدم وقوع معركة في طبرية، حيث يوصف ما حدث وفق كل المراجع بأنه “معركة صغيرة أو مناوشات محدودة انتهت سريعا”.
“عرب 48“: من هنا ينبع وجه الاستغراب بما يتعلق بالتهجير؟
عباسي: الصحيح أنه كان وعد بريطاني بأن الأمر سيكون مؤقت، وكان نوعا من المفاوضات مع القائد البريطاني في المنطقة بأن يذهب عرب طبرية إلى صفد، وينزل يهود صفد إلى طبرية، إلى أن تهدأ الأمور، لكن ذلك لم يحدث، وفي النهاية هجر أهالي طبرية بغالبيتهم إلى الأردن، فيما هجر 500 شخص فقط إلى الناصرة مع الشيخ طاهر الطبري.
“عرب 48“: لماذا لم يذهبوا إلى صفد؟
عباسي: لأن الجالية اليهودية في صفد رفضت الفكرة وأصرت على البقاء بعد أن وعدتهم عصابة “البلماح” بحسم المعركة، في المقابل، فإن أهل طبرية لم يكونوا مستعدين للمعركة، إذ أن تاريخهم غير عسكري وكانوا على علاقات جيدة مع جيرانهم اليهود، حتى أنهم رفضوا تلقي مساعدات من الخارج من القوى العربية وغيرها، ظنا أن ذلك سيساعدهم، ولكن للأسف لم تسعفهم سلميتهم.
“عرب 48“: بحثت في تاريخ وتهجير صفد أيضا ولك كتاب آخر عن الموضوع، كيف كان التوازن الديمغرافي هناك؟
عباسي: كانت أغلبية عربية ساحقة – 84% من العرب مقابل 16% فقط من اليهود – وقد هجر جميع سكان المدينة العرب إلى خارج البلاد، غالبيتهم إلى سورية وجزء قليل إلى لبنان.
“عرب 48“: ألم يبقى أي منهم في البلاد، لأننا نعرف بوجود عائلة الصفدي في الناصرة؟
عباسي: هؤلاء كانوا قد هاجروا إلى الناصرة في وقت سابق قبل النكبة واستقروا فيها، الوحيد الذي بقي من أهالي صفد هو جدي لأن زوجته كانت من الجش وكان لها بيت وأملاك هناك فأقنعته بالسكن في بيتها إلى أن تهدأ الأمور ويعودا إلى صفد، وهكذا أخذته إلى قريتها واستقر في بيتها في الجش حيث ما زلنا نعيش هناك.
“عرب 48“: كأن الجميع كانوا على قناعة بأنهم أمام حالة مؤقتة، ولكن بالعودة إلى طبرية، فقد كانت منذ الأساس مدينة مختلطة، وهي بهذا المعنى من النماذج النادرة في فلسطين مثل حيفا التي لم يساعدها أيضا التعايش وحسن الجوار ولم يمنع تهجيرها؟
عباسي: في حيفا الاختلاط ازداد في الثلاثينيات مع الهجرة التي حصلت من ألمانيا بعد صعود النازية إلى الحكم، والتي ازدادت بفعلها الهجرة إلى البلاد وتحديدا بين عامي 34-36، حيث استوعبت حيفا أفواجا كبيرة منها.
“عرب 48“: طبرية، كما يتبين من كتابك، هي حالة عكسية حيث كان فيها أغلبية يهودية في نهاية القرن التاسع عشر، كما قلت، ثم ازداد عدد السكان العرب؟
عباسي: كانت أغلبية صغيرة، ولكن النفوذ والحضور العربي في المدينة وفي الجوار كان كبيرا، ولكن عندما تكثف الاستيطان حول طبرية، في غور الأردن، جنوب المدينة، نشأت مستوطنات كبيرة بعد إقامة السكة الحديدية التي كانت تمر من سمخ، من دغانيا والكيبوتسات المجاورة وحتى بيسان وكنيرت وميغدال وغيرها.
“عرب 48“: لقد طوقوا طبرية بالمستوطنات ولذلك تسنى لهم حصارها وبعدها أصبحت عملية التهجير تحصيل حاصل؟
عباسي: صحيح، خاصة مع سقوط الرهان على أن الحل سيكون سلميا، مثلما كانوا مقتنعين أهالي طبرية وعمادهم بيت الطبري وأناس لا بأس بهم في الطرف اليهودي.
“عرب 48“: كان لافتا مسألة هدم المدينة وتدمير بيوتها بعد تهجير أهلها العرب؟
عباسي: لقد جرى هدم البلدة القديمة الواقعة داخل الأسوار، وكما هو معروف فإن طبرية كان لها أسوار على غرار عكا، إذ حصّنها ظاهر العمر الذي سكنها لفترة قبل أن ينتقل إلى عكا، وفي الـ48 كانت هناك بعض الأحياء خارج الأسوار مثل “حي اللبان” وهو حي عربي ما زالت بيوته قائمة وحي “موراس” و”أخوة – أحافا” وهما حيان مختلطان على غرار البلدة القديمة.
بعد الـ48 قررت البلدية بالتعاون مع جهات خارجية ومحلية، هدم المدينة الواقعة داخل الأسوار ببيوتها العربية واليهودية والتي كانت تأوي حوالي 1500 نسمة من اليهود، وقد تذرعوا بالعديد من الحجج بينها أن البلد قديمة ويريدون تطويرها وإقامة مصايف وفنادق.
وقد جرت عملية الهدم بالتدريج حيث قاموا بداية بإخلاء السكان اليهود وإسكانهم في بيوت العرب المتروكة في “حي اللبان” خارج الأسوار، وبعد فترة أخذوا يطالبونهم بدفع بدل إيجار للقيم على أملاك الغائبين، ما زاد من احتجاجهم ومطالباتهم بالعودة إلى بيوتهم الأصلية.
عملية الهدم بدأت مباشرة بعد التهجير واستمرت لحوالي السنة، والشيء اللافت أن أصحاب المنازل اليهودية التي هدموها أقاموا لجنة أسموها “لجنة متضرري طبرية”، ونظموا اعتصامات ومظاهرات لمنع هدم بيوتهم إلا أن ذلك لم يمنع عملية هدم المدينة وبيوتها العربية واليهودية التي شكلت نموذجا للتعايش.
*بروفيسور مصطفى عباسي: مؤرخ مختص بالتاريخ الاجتماعي لفلسطين منذ أواخر العهد العثماني وخلال الانتداب البريطاني.
المصدر: عرب 48