سلوك فلسطينيي 48 تجاه الحرب على غزة بين إرث النكبة ومتطلبات البقاء
في ورقة صدرت عن برنامج علم النفس التحرّريّ في مدى الكرمل، بعنوان “من الصدمة إلى التحرُّر…”، تقدّم الباحثة المختصّة في الصحّة النفسيّة الجماهيريّة، سمية أبو الهيجاء، قراءة في الرحلة التي يعايشها الفلسطينيّون في الداخل بين إرث النكبة المستمرّ ومتطلّبات البقاء ضمن سياق استعماريّ قائم، وانعكاس هذا التناقض على سلوكهم تجاه الحرب على غزة.
تغطية متواصلة على قناة موقع “عرب 48” في “تليغرام”
وتشير الورقة إلى أن هذه الأحداث المفصلية التي مر بها فلسطينيو 48 خلال النكبة شكّلت واقعًا قاسيًا وتجارب مؤلمة من الهزيمة، والنزوح، وعدم اليقين. هي على العكس من التعريف الغربي في كتب تصنيف الطب بأن أي حدث صادم بحد ذاته له بداية ونهاية محدّدتان. فإن الصدمة المستمرة تشير إلى المواقف التي يكون فيها التهديد والأذى الذي يلحق بالشخص بعيد المدى ومرتبطًا ببيئته الاجتماعية والسياسية. حيث تظهر القصص المتناقلة أن وجه الصدمة في السياق الفلسطيني لا يمكن أن يتضمن مرحلة “ما بعد”، إذ إن المجتمع بأكمله متورّط في واقع مليء بالصدمة.
تلك الظروف مجتمعة أدّت إلى حالة من التفكك المجتمعي وفقدان الأمان داخل المجتمع الفلسطيني في الداخل عشية الحرب الأخيرة. ثم أتت الحرب على غزة لتفاقم حالة الفلسطينيين في إسرائيل وتزيدها تعقيدًا. فقد واجه الفلسطينيون داخل أراضي 48، وما زالوا يواجهون، كما تقول أبو الهيجا، حالة معقدة من الخوف والصمت في ظل نظام من التمييز المؤسساتي والرقابة الاجتماعية والسياسية المستمرة. حيث تعاين الدولة عن كثب نشاط وسائل التواصل الاجتماعي، ويجري احتجاز الأفراد أو تهديدهم أو سحب حقهم في التعليم أو العمل، أو حتى التهديد بسحب جنسيتهم ومواطنتهم.
في هذا السياق، يصبح الصمت أحيانًا شكلاً من أشكال البقاء والتكيف، وخاصة في ظل أحداث مأساوية في غزة، في قلب الأرض التي تحمل ذاكرة النكبة. فمع كل بيت يُهدم، وكل حياة تُقتلع، يعيش الفلسطينيون في الداخل في حالة دائمة من التوتر الكامن وغير المرئي.
ومع مشاهد الإبادة الجماعية، والتجويع، والتهجير الذي تتعرض له غزة، يعود الخوف المكبوت إلى السطح. إذ يجد الفلسطينيون أنفسهم، كما تدّعي الورقة، عالقين بين الرغبة في التضامن مع غزة ومتطلّبات البقاء. في ظل هيمنة الاستعمار، يتصاعد الخوف المكبوت من اللاوعي الجمعي كنوع من الإرث النفسي المتجدد، والذي يرمز إلى حالة من القلق المتوارث الذي يصعب على الأجيال التخلص منه.
لإلقاء المزيد من الضوء حول الموضوع، أجرينا هذا الحوار مع الباحثة المختصة بالصحة النفسية الجماهيرية، سمية أبو الهيجاء.
“عرب 48”: سلوكنا – فلسطينيو 48 – حيال الحرب على غزة هو بحاجة فعلا إلى تحليل نفسي، خاصة وأنه يتراوح بين الصمت والعجز، وتداعيات ماضي النكبة التي تتجسد حاضرًا في غزة؟
أبو الهيجاء: الورقة تتناول موضوع علم النفس التحرّري، وهي تناقش قضايا الصدمة المتوارثة عبر الأجيال، والصدمة الجماعية مثل النكبة، وتأثيرها على تصرفاتنا كمجتمع فلسطيني في الداخل، خاصة في ظل ما يحدث في غزة من حرب. تسلط الضوء على ردود فعلنا كمجتمع، سواء من خلال ممارسات الصمت أو ما نتعرض له مؤخرًا من سياسات قمعية تمارسها الدولة. كما تركز على كيفية استعادة ذواتنا الفلسطينية، واستعادة الحيز الذي يتيح إنتاج المعرفة، ويمكننا من أن نخطو خطوة باتجاه التحرر النفسي.
“عرب 48”: لاحظت أنك تحدثتِ عن الصمت بوجهيه: الأول النابع من الخوف، والثاني كوسيلة للبقاء؟
أبو الهيجاء: صحيح. استخدمت أيضًا مصطلح “اللابيتية”، وتحدثت عن موضوع الخوف الكامن في نفوسنا الناتج عن النكبة، والذي يطفو على السطح الآن في ضوء الحرب على غزة. أشرت إلى أن النكبة ليست حدثًا ماضيًا منتهياً، بل هي فعل مستمر أو سلسلة من الصدمات المتواصلة. بخلاف التعريف الغربي للصدمة كحدث له بداية ونهاية، فإن الصدمة في السياق الفلسطيني مستمرة وقائمة إلى اليوم. الحرب على غزة تعيد إيقاظ هذه الصدمة فينا لتظهر من جديد.
في ما يتعلق بردّ الفعل على ما يحدث في غزة، يُستخدم الصمت كطريقة للتعامل والحماية من السياسات القمعية والتهديدات التي نواجهها. نحن أمام حالة لا تشبه أي شيء آخر مررنا به في الداخل. الصمت يمكن أن يكون وسيلة تكيف مع الظروف لحماية أنفسنا داخليًا، لكنه لا يعني بالضرورة تبني “ذات زائفة”. أحيانًا يكون الصمت شكلاً من أشكال الحفاظ على الهوية الحقيقية، ونوعًا من التحدي لهذه السياسات. بمعنى أن الدولة تتوقع منا تصرفات معينة، ونحن واعون لهذه التوقعات التي تُستخدم كذريعة لتطبيق سياسات ممنهجة ضدنا. لذا، نمارس الصمت كوسيلة لحماية أنفسنا من هذه السياسات.
“عرب 48″: تقصدين ما يُسمى بـ”تفويت الفرصة” على الدولة لقمعنا؟ ولكن، ما المقصود بالذات الزائفة أو الهوية الزائفة؟
أبو الهيجاء: نعم، المقصود هو الصمت كاختيار واعٍ للحفاظ على سلامة الإنسان النفسية والشخصية. أما بالنسبة للذات الزائفة، فإننا كأشخاص نحقق تطورًا داخليًا سليمًا عندما يكون هناك تجانس بين عالمنا الداخلي والخارجي، حيث تتطابق توقعاتنا الداخلية مع الواقع الخارجي.
بالنسبة لفلسطينيي الداخل، هناك اختلال في التوازن بين البيئة الاجتماعية والسياسية المحيطة بنا وبين انتماءاتنا الوطنية. هذا يؤدي إلى شعور بعدم التوازن وإثارة تساؤلات داخلية حول هويتنا. لحماية أنفسنا من هذا الاهتزاز النفسي، قد نلجأ إلى تطوير ذات زائفة، أي تبني هوية ليست هويتنا الحقيقية، وإنما تُستخدم لمواجهة تحديات تتعلق بالهوية والانتماء.
لإعادة الإحساس بالهوية الحقيقية، نحن بحاجة إلى ترابط شعبي جماعي وشبكة علاقات اجتماعية قوية. في الفترة الأخيرة، نعيش كأفراد منفصلين وليس كمجتمع متماسك، في ظل ضعف وغياب القيادة أيضًا. هذا الانفصال يبعدنا عن هويتنا وانتمائنا الحقيقي.
“عرب 48”: تقصدين ربما غياب المؤسسة الاجتماعية والسياسية الجامعة التي تعزز الانتماء الوطني الجماعي؟
أبو الهيجاء: نعم، يعيش فلسطينيو 48 في حالة من التوتر الدائم والمزعج بين وجودهم كمواطنين في دولة إسرائيل وبين ارتباطهم الثقافي والتاريخي بفلسطين الأرض. هذه الأرض التي كانت مألوفة لهم بعمق كجزء من تراثهم أصبحت الآن تحت هيكل سياسي واجتماعي غريب عنهم. العيش في دولة أُسست على تهجير وتهميش شعبهم يخلق ازدواجية: هم جزء من الأرض، لكنهم في الوقت نفسه يشعرون بالغربة. هذا ما يظهر بوضوح في مصطلح “الحاضر/الغائب”، حيث يُنكر وجود الفرد في حيز المكان والزمان، وتُسلب هويته وممتلكاته، بل وحقه في تعريف ذاته بطريقته الخاصة.
وما يزيد الوضع سوءًا هو عدم وجود ما يمكن تسميته بـ”مقدم رعاية”. عند الأطفال، تتطور الذات الحقيقية من خلال التفاعل مع الأهل والأشخاص الذين يتيحون لهم تطوير ذواتهم. نحن كمجتمع نفتقر إلى هذا “المقدم للرعاية”. لا توجد لدينا حاضنة اجتماعية تمكّننا من فهم هويتنا وانتمائنا، مما يعيق رؤيتنا لأنفسنا كذوات فلسطينية حقيقية. ونتيجة لذلك، نطور ذاتًا زائفة لحماية أنفسنا.
“عرب 48”: أشرتِ إلى أن سبل المواجهة تتمثل بالوعي بالظلم أولاً، ومن ثم بالمشاركة في الكفاح الجماعي. وأتيتِ في هذا السياق على ذكر يوم الأرض كحدث وطني منظم؟
أبو الهيجاء: يوم الأرض جاء ليذكرنا بهويتنا وانتمائنا، وبأن هذه الأرض تعني البيت. إن نظرتنا للبيت والوطن المسلوب هي جزء من حقنا، ويجب أن ننظر إليه كجزء من انتمائنا وليس كصراع بين انتمائنا ومواطنتنا.
نحن نعيش في بلدات فلسطينية عامرة وبجوارها بلدات فلسطينية مهجّرة. أهلنا هُجّروا ونُزحوا، وهذا يخلق في اللاوعي حالة من اختلاط الفهم. يوم الأرض جاء ليذكرنا أولاً بروايتنا، ونضالنا، وانتماءاتنا، وبوحدتنا كشعب. كما أنه وضعنا أمام المؤسسة في مواجهة أولى من نوعها، وأكد على حقوقنا الجماعية وهويتنا المشتركة.
“عرب 48”: أتيتِ على ذكر الحداد كأداة تحرر أيضا؟
أبو الهيجاء: خطر لي في هذا السياق مقولة لإبراهيم نصر الله من رواية أعراس آمنة، حيث يقول: “إن عشنا فسأذكركم أننا سنبكي كثيرًا بعد التحرر”. مناقشتي كانت تدور حول مدى حاجتنا للبكاء كوسيلة للتحرر النفسي. علينا أن نستوعب كل الخسارات والفقد الذي تعرضنا له، سواء المادي أو المعنوي.
المعالجة النفسية تشير إلى أهمية التحرر النفسي أثناء عملية التحرر ذاتها، لا أن ننتظر انتهاء العملية لنبدأ باستيعاب الفقد والخسارات. بالنهاية، نحن لسنا أبطالًا خارقين، بل بشر نحتاج إلى هذه المعالجة الذهنية لنتمكن من الاستمرار. علينا أن نضع الجانب النفسي لنضالنا في مواجهة الاستعمار، لأنه جزء لا يتجزأ من معركتنا.
“عرب 48”: الفلسطيني فقد أهم ما يملك وهو البيت، وما زال يصارع في مواقع مختلفة، بينها أراضي 48، على هذه المساحة الآمنة بكل ما تحمله من معانٍ عاطفية ووطنية؟
أبو الهيجاء: في ورقتي تناولت موضوع التحرر من زاوية اختصاصي، حيث أرى أن التحرر يبدأ من الداخل ويعتمد على المعالجة الذهنية. الاستعمار ليس فقط استعمارًا ماديًا يحتل البيت كمساحة فيزيائية، بل هو استعمار ذهني وعقلي أيضًا. الوعي بهذا الاستعمار، سواء المادي أو الذهني، وبفقدان الحيز الفيزيائي، يمكن أن يكون خطوة أولى نحو التحرر. حتى في حالة عدم الفعل المباشر، فإن مجرد الوعي يمكن أن يعيد إلينا القدرة على الفعل ويستعيد لنا الوكالة الفردية.
الوعي الفكري بوجود الاستعمار والاحتلال هو جزء من بناء “البيت الداخلي”، الذي يعزز قوتنا النفسية ويبلور طريقنا نحو التحرر. هذا الوعي يرتبط بدوره بالفعل الخارجي، الذي يبني “البيت الخارجي”، وهو الحيز المادي الذي يحتوي أدوات التحرر الفعلية.
“عرب 48”: عودة إلى موضوع الصدمة الجماعية المتوارثة عبر الأجيال بفعل النكبة، كما ذكرتِ. كيف تؤثر هذه الصدمة على فلسطينيي 48، بوصفهم الجزء الناجي من التهجير، وكيف تمثل النكبة ليس مجرد تاريخ ماضٍ بل فعلًا حاضرًا ومستمرًا، يشكل “رادعًا نفسيًا” في حالات اشتداد الصراع، مثل الحرب على غزة؟
أبو الهيجاء: النكبة كانت حدثًا صادمًا ومفاجئًا، قطع الحياة السلمية للفلسطينيين. لقد أدت إلى اقتلاعهم من بيوتهم وتهجيرهم، مما أسفر عن فقدان الموارد الشخصية وتفكك الأسرة والمجتمع. هذه المعاناة الاجتماعية طويلة الأمد أصبحت جزءًا من الإرث النفسي الجماعي.
إلى جانب ذلك، فإن استمرار سياسات التمييز، ومصادرة الأراضي، وهدم البيوت، والخسائر المتراكمة، ساهم في تفاقم الآثار النفسية للنكبة، مما حولها إلى صدمة مستمرة.
هذه الحالة النفسية تعكس مفهوم “الغرابة” أو “اللابينية” الذي تناوله فرويد. إنها تجربة نفسية مزدوجة، تمتزج فيها مشاعر الأمان بالتهديد، والمألوف بالمخيف. القرى والمدن التي تُعرف بالبيت قد تبدو مألوفة ظاهريًا، لكنها تحمل في طياتها تهديدًا دائمًا. هذا الشعور بالغرابة يرتبط بالقمع النفسي، حيث يصبح ما كان مألوفًا في السابق غريبًا بفعل القهر والتهميش.
إضافة إلى ذلك، فإن غياب الحاضنة الاجتماعية أو “مقدم الرعاية”، كما ذكرت سابقًا، يزيد من تعقيد الوضع. ضعف الهيئات القيادية، مثل لجنة المتابعة، إلى جانب تفاقم مظاهر الجريمة المنظمة التي اخترقت مجتمعنا في السنوات الأخيرة، وانتشار النزعات الفردانية وسياسات “الأسرلة” (الاندماج الفردي)، كلها عوامل تضعف الروابط الاجتماعية والجماعية.
هذا كله يجعل مجتمعنا عرضة للخوف والتهديد وعدم القدرة على الفعل. في ظل هذه الظروف، جاءت الحرب على غزة لتزيد الوضع تعقيدًا، وتدخلنا في حالة مركّبة من الخوف والصمت.
سمية أبو الهيجاء: خريجة علم النفس، مختصة في الصحة النفسية الجماهيرية، وطالبة في مدرسة العلاج النفسي بجامعة حيفا.
المصدر: عرب 48